من يخاف فرجينيا وولف.. الرقص على أقدام الانكسار

من يخاف فرجينيا وولف.. الرقص على أقدام الانكسار

رفيق الصبان
تفتح الستارة القرمزية على موسيقي «البلوز» الشهيرة المليئة بالشجن والشاعرية الجريحة وشيء من التحدي الخافت.. وعلى أربعة راقصين في ثياب سواء.. يرقصون رقصة ظاهرها المرح والحيوية ولكنها تحمل في بعض حركاتها الكثير من الانكسار الخفي. وسرعان ما يختفي الراقصون لتضيء أنوار باهرة ديكورا شديد الأناقة لمنزل أستاذ جامعي وزوجته يقيمان في كامبوس الجامعة العريقة.

الوقت يشير إلي ما بعد منتصف الليل.. والباب الكبير يفتح لتتسلل منه «مارثا» زوجة الأستاذ الكهلة.. دامية عميد الجامعة برفقة زوجها «جورج» الذي يصغرها سنا والذي جعله طموحه ورغبته بالوظيفة المرموقة يقبل الزواج بها رغم شراستها وسوء أخلاقها وطبيعتها الظاهرية الفظة. يدخلان وقد امتلأت شرايينهما بالكحول الذي احتسياها خلال السهرة الجامعية التي كانا بها لترتمي مارثا منهكة على مقعد.. بينما يستعد جورج للذهاب إلي النوم، لكن مارثا تذكره بأنها دعت أستاذ البيولوجيا الشاب «نك» وزوجته «هاني» لتكملة السهرة معهما في شقتهما الأنيقة الصغيرة. هكذا تبدأ أحداث مسرحية إدوارد ألبي «من يخاف فرجينيا وولف» التي رفعت هذا الكاتب الأمريكي إلي مستوي كبار كتّاب الدراما في العالم واعتبر بحق الوريث الشرعي لكل من ويليانر وارثر ميللر قطبي هذا المسرح الكبار دون منازع. أحاسيس أخذ من ويليانر شاعريته وأحاسيسه الجنسية الجريئة وانهزامه أمام قسوة الحياة التي لا ترحم ووضوح شخصياته وعمقها، خصوصا النسائية منها، كما أخذ من ميللر خلفيته الاجتماعية والسياسية ونظرته النقدية الثاقبة.. وطعنه المجتمع الأمريكي الذي يحيا فيه بخنجر مرصع بالباكوث والزمرد، وثورته على كل القيم الفاسدة التي ينهض عليها هذا المجتمع، ورغبته بتمزيق القناع الذهبي المزركش الذي يخفي الوجه القبيح المليء بالبثور.. قبل أن يقدم البي مسرحية «من يخاف فرجينيا وولف» التي وطدت أركان شهرته في العالم أجمع.. كان قد سبق له أن قدم مسرحيتين مدهشتين أثارتا إعجاب النقاد في أمريكا وأوروبا أولاهما مسرحية متوسطة الطول هي «قصة حديقة الحيوان» تروي قصة لقاء في حديقة بين رجلين متفاوتي الطباع والأمزجة مختلفي النظر إلي الحياة وأحداثها شديدي القسوة على نفسيهما وعلى الآخرين.. تنتهي بجريمة قتل عبثية وبصرخة يأس أليمة صادرة من الأحشاء. المسرحية الثانية التي ساعدت على انتشار اسم البي كانت إعدادا حرا لمسرحية إنجليزية تحمل اسم «كل شيء في الحديقة».. جعلها البي تعرية كاملة لمجتمع أمريكي مخملي يخفي وراء أناقته ودعته سموما وقروحا وعفنا لا ينتهي وحملت المسرحية طابع البي ونسبت إليه أكثر مما نسبت إلي مؤلفها الأصلي نظرًا لفلسفته ونظرته إلي الحياة التي غزت سطورها كلها. ثم جاءت مسرحية «فرجينيا وولف» لتكلل جهود هذا الكاتب الشاب وترفعه إلي مصاف كبار عباقرة المسرح الأمريكي. مدي زمني المسرحية تكاد تلتزم بمداها الزمني.. المدي الزمني الحقيقي للأحداث أنها تبدأ بعد منتصف الليل بساعات، وتنتهي عند بزوغ الفجر.. بعد أن تقضي تماما على شخصياتها الأربع.. وتجعلهم طعاما ورمادا، تتناثر حباته في الفضاء زواج مارثا وجورج زواج وصولي كل منهما يلتهم كبد الآخر دون رحمة أو شفقة. وهو زواج عقيم بالضرورة حاول الزوجان تداركه بادعاء وهم كبير أنهما أنجبا طفلا ربياه واحتضناه وهما اليوم يحتفلان بوصوله إلي سن الواحدة والعشرين سن الرشد، إنه الوهم الكبير أو القناع الزائف الذي يخفي جدب حياتهما وخلوها من أية ذرة من الحب والحنان علاقتهما ببعضهما علاقة تمتزج فيها الكراهية بالحنان والرغبة بالجرح.. الرغبة بالمواساة. جورج.. استسلم تماما لدافع فشله كإنسان وكزوج ويجد في الكحول أحيانا ملجأ له وفي الوهم الذي اختلقه لنفسه واحة من الراحة النفسية. أما مارثا فهي القطة الشرسة ذات المخالب السامة، والكلمات المهينة الجارحة، والتصرف البذيء.. المدمنة الفاسقة أسيرة رغباتها المتسلطة العنيدة المشاكسة والتي تخفي وراء كل ذلك نفسا جريحة، وقلبا مهزوما وإحساسا يائسا سعته سعة الدنيا كلها والتي تجد في «وهم» الابن الذي اخترعته دواء ومخدرا يساعدها على مواجهة هذا العالم الظالم الفاسد الذي تواجهه هي أيضا بالفساد والاستهتار واللامبالاة والكحول. أمام هذا الثنائي الهرم والمتآكل من الداخل يقف الثنائي الشاب الذي سرعان ما ستكتشف أنه لا يقل عن الثنائي الأول انهيارا ويأسا ومشاداة. هو أستاذ طموح اضطر للزواج بابنة قسيس زائف بعد اكتشافه أنها حملت منه ولكنه يكتشف بعد زواجه بها أن الحمل كان وهما.. وهكذا وجد نفسه بالضرورة مرتبطا بهذه الفتاة التافهة السطحية التي لا تملك أي ميزة والتي لم يكن يطمح يوما بأن تكون زوجته على شاكلتها. مواجهة المواجهة من الثنائيين هؤلاء في هذه السهرة الطويلة كانت النسيج المدهش الذي غزل عليه البي أحداث مسرحيته.. ليوجه من خلالها نقده القاسي للمجتمع الأمريكي والمثقفين الأمريكيين والمرأة الأمريكية. ولكي يؤكد أن وراء القشرة اللامعة الظاهرة يختفي العفن والفساد وتغزو أنوفنا رائحة الجثث المتفسخة. الحب يختفي تماما لتحل محله كلمات الكراهية التي تطعن القلب كالخناجر، الكل يريد تحطيم الكل دون رحمة أو شفقة أو حنان. وشيء فشيء ومن خلال حوار بديع لا ينسي رغم فحشه أحيانا تتبدي لنا بوضوح شخصية مارثا الحقيقية المعذبة البائسة الباحثة عن حنان لم تجده في حياتها وعن عواطف بحثت عنها ولم تعثر عليها فاختلقتها لنفسها تعيش وتحيا على وهمها، لذلك عندما يحاول جورج أن يثأر منها بعد أن أذلته وأهانته إلي درجة الموت فيخبرها أمام الجميع بموت ابنها في حادث سيارة في يوم ميلاده الواحد والعشرين. إنه يفضح هذا السر الجميل الذي كان الرابط الوحيد بينهما.. بينما انهارت تماما جميع الروابط الأخري. وعند هذه اللحظة بالذات تتم المعجزة ولأول مرة في حياتهما الطويلة يحتضن جورج زوجته الباكية المحطمة التي تناثرت أشلاء إنسانيتها أمامها مرددا على أذنها أغنية طفولية قديمة تتحدث عن الذئب «وولف» الشرير. والتي حولتها مارثا عابثة إلي اسم كاتبة الشجرة المنتحرة، ساخرة من كل شيء، وعونها عن أن يغني لها من يخاف الذئب الشرير يكرر لها أغنيتها التي اخترعتها «من يخاف فرجينيا وولف» فتردد بصوت باك حزين مليء بالمشاعر والأحاسيس التي كانت غائبة تماما عنها حتي هذه اللحظة «انها أنا يا جورج.. أنا..». صراع المسرحية هي صراع بين الوهم والحقيقة بين الحلم والواقع، بين فساد مجتمع وانكسار إنسان بين موت قيم وانبعاث الروح. كل هذا أمسك به سناء شافع بمهارة ليحقق من خلاله حلما قديما، حلم منذ أكثر من عشرين عاما أو يزيد.. وهو أن ينقل هذا النص الألماسي المرصع بالجوهر إلي مسرحنا العربي.. وقد نجح سناء في أداء ممثليه الأربعة وأعطي السيدة «منال سلامة» الفرصة الكبري لتثبت في هذا الدور الصعب والمعقد والذي تبارت عليه أكبر ممثلات العالم.. قدرتها الفائقة ومكانتها الكبيرة كواحدة من أهم ممثلات المسرح في مصر رغم ندرة تجاربها المسرحية، كذلك تألق أحمد فؤاد سليم في دور الأستاذ الجامعي المحبط.. وهذا شأننا معه دائما، ورغم فارق السن الذي ركز عليه المؤلف في مسرحيته وأن جورج أصغر بكثير من زوجته الكهلة، فإن فؤاد سليم استطاع أن يتغلب على هذا العيب.. وأن يرسم لنا صورة واضحة الأبعاد عن شخصية جورج البائسة الثائرة المحبطة والمنتقمة بأداء متكامل الأبعاد وشديد التأثير. موسيقي مدهشة مفاجأة العرض كانت دون شك يحيي أحمد الذي بدا لي عملاقا حقيقيا في دور أخرج كل ما في داخله من أحاسيس ومشاعر، بينما بدت نيفين رفعت حمامة صغيرة بيضاء تنهشها النسور الجارحة دون قدرة منها على المقاومة، خطوة أولي لممثلة شابة ننتظر منها الكثير. الموسيقي المدهشة التي صاحبت العرض لطارق مهران والتي اعتمدت على دقات طبول بعيدة تذكرنا بأجواء الغابات المتوحشة «ألسنا في غابة حقيقية رغم أناقة الديكور ومعاصرته وأمام آكلي لحوم البشر» وأنغام البلوز الحزينة النشوانة. كما جاءت الأزياء شديدة التناسق والأناقة، تكشف بألوانها عن عواطف أصحابها وتناقضاتهم.. كما تتناسب بشكل جمالى مع بياض الديكور.. الذي يكشف بشكل ما سواد نفوس ساكنيه.. ديكور مسرحي حقيقي يؤكد كفاءة وائل عبدالله وذوقه المرهف. لكن الفضل كله في هذا العرض المسرحي الرائع يعود بالطبع إلي سناء شافع الذي وضع خبرته المسرحية كلها لخدمة هذا العمل الدرامي الذي أحبه حتي الثمالة، وقدمه لنا وردة حمراء متفتحة تلتمع قطرات الدم عليها كحبات الزمرد. الحلم «كان الخنجر الحاد» الذي أنقذ أبطال مسرحية إدوارد ألبي ثم نشلهم، ولكن حلم سناء شافع القديم تحول إلي حمامة بيضاء واسعة الجناحين طارت بنا إلي سماء المسرح الحقيقي الذي كم افتقدناه في الفترة الأخيرة على خشباتنا في مصر.

عن الاهرام المصرية