كامل الجادرجي وكتاب الرصافي المخطوط

كامل الجادرجي وكتاب الرصافي المخطوط

كتبت مجلة (الوادي) البغدادية لصاحبها خالد الدرة:
ان هذا الكتاب من اهم الكتب التي يتشوق اليها العراقيون بل والمسلمون في مشارق الارض ومغاربها، ولقد قال عنه الاديب المهجري الكبير الاستاذ امين الريحاني لو قدر لشعر الرصافي ان يندثر ويمحى من الوجود فان كتاب الشخصية المحمدية سيخلده على مدى الدهر ونحن اذ ننشر بعض فصول هذا الكتاب القيم نشكر سيادة الاستاذ كامل الجادرجي

حيث تفضل علينا بان ننقل عن نسخته الفريدة بعض هذه الفصول الممتازة، ولقد سبق لسيادة الاستاذ كامل الجادرجي ان ابدى مكرمة اخرى حيث اهدى نسخة بخطه الى المجمع العلمي العراقي قائلا في كلمة الاهداء انه يهدي هذا الكتاب ولا يظهر للمجتمع اعميته لان المجمع يعرف قيمته او عدم قيمته ولكنه يهديه للتاريخ ولقد كان سيادة الاستاذ كامل الجادرجي من احب الناس الى صديقه الشاعر الكبير معروف الرصافي حتى انه يدعوه بـ (كامل الخيام) لان كلمة الجادرجي كلمة تركية لا تستسيغها اذن شاعر عربي كالرصافي..

سيادة الجادرجي يقول:
كنت اسمع ان الاستاذ معروف الرصافي الف كتابا عن شخصية محمد يتعذر نشره بالنظر لما فيه من آراء تخالف الجمهور. فرغبت في الاطلاع عليه وبقيت اسعى لتحقيق الرغبة غير اني لم اوفق رغم المواعيد التي وعدني بها اصدقائي الذين كانوا يتصلون بالاستاذ الرصافي وهو في مسكنه في الفلوجة، اذ ان الاستاذ الرصافي كان قد اعتزل بغداد واتخذ الفلوجة مسكنا منذ مدة تزيد على السبع سنوات فقررت ان اذهب بنفسي الى الفلوجة وارجوا الاستاذ اعارتي الكتاب لقراءته فذهبت وقابلت الاستاذ هناك يوم 27 مارت سنة 1941 ولما اطلعت على فهرس الكتاب اعجبتني مواضيعه فاستأذنت الاستاذ استنساخه فاذن لي بذلك واعطاني قسما من اجزائه وعقيب عودتي الى بغداد باشرت بتاريخ 31 مارت سنة 1941 باستنساخه فصادف بعد ذلك ان وقعت الحرب بين الحكومة العراقية والحكومة البريطانية في اوائل مايس 1931 فاضطر الاستاذ في ترك الفلوجة وايداع كتبه ويضمنها الاجزاء الباقية من الكتاب – الى شخص يأتمنه خارج بغداد فسبب ذلك فترة في الاستنساخ غير ان الاستاذ بعد ان عاد الى بغداد واستقر فيها واستعاد الاجزاء الباقية اودعها الي جميعاً للاحتفاظ بها كامانة والاستمرار في الاستنساخ وحينئذ عدت فباشرت بنسخة كلما سنحت لي الفرصة حتى انتهيت منه بتاريخ 31 آب 1941 وعلى هذا قد استغرق نسخ الكتاب خمسة اشهر، ان النسخة التي نقلت عنها الكتاب هي النسخة الاصلية التي كتبها المؤلف بخطه وهي مؤلفة من 43 كراسا وقد اعتبر المؤلف كلا منها جزءاً ان معظم تلك الاجزاء على نسق واحد وحجم كل واحد منها 23 سم طولا و17 سم عرضا وكل جزء من هذا الحجم يحتوي على 30 ورقة الا جزأين وهما الجزء الثلاثون والجزء الواحد والثلاثون فكل منهما يحتوي على 60 ورقة وحجم كل واد منها 20 سم طولا و16 سم عرضاً.
لم يملأ المؤلف كل ورقة من هذا الاجزاء وجهيها بل ترك احدهما خاليا ويظهر انه عمد الى ذلك كي يترك مجالا للزيادة ولكتابة الهوامش فيما بعد وقد اضاف بالفعل في محلات متعددة من الكتاب بعض الزيادات ايضاحا للبحث حينا وزيادة فيه حينا آخر كلما احس ان البحث يحتاج الى ايضاح او الى زيادة وقد ادرجت كل تلك الزيادات التي اضافها المؤلف في صلب الكتاب الذي استنسخه ولكن لأجل تفريقها وضعت كل واحدة منها بين خطين.
اني لم انهج في هذا الكتاب المنسوخ نهج المؤلف في ترك احدى وجهي الورقة خاليا بدون كتابة لاني لم أر حاجة ماسة الى ذلك بالنظر الى انه سوف لن تطرأ عليه زيادات كما كان في النسخة الاصلية وقد رأيت من المستحسن ان اشير في هذه النسخة الى رقم الجزء الاصلي حيث بدأ فوضعت رقمه بالخط الاحمر عند بداية كل جزء من اجزاء النسخة اصلية كما يلاحظ القارئ.
ان النسخة التي نقلت عنها هذا الكتاب هي نسخة المؤلف وقد كتبت بخطه – كما قلت آنفا – ورسم الخط فيها جلي واضح لا يخامر القارئ شك في قراءة كل كلمة من كلماتها والكتاب الاصلي يحتوي على 1315 صفحة – 43 جزء اما هذه النسخة فقد احتوت 1154 صفحة بسبعة اجزاء لم يحتل الجزء السابع منها الا على 180 صفحة.
وقد علمت انه لا توجد نسخة كاملة منقولة عن الاصل غير هذه حتى الان اذ حاول عدد غير قليل من معارف المؤلف ان يستنسخوا الكتاب فباشروا غير انهم لم يكملوه، هذا ما عدا نسخة الاستاذ مصطفى علي التي استنسخها بخطه وقد سألته عنها فاخبرني بانه وان اعتنى باستساخها وقابلها مع المؤلف ولكنه اضاف ان النسخة لم يتكمل بعد اذ ينقصها شيء قليل من آخر الكتاب، والحق يجب ان يقال ان هذه النسخة (وان لم تكن اصح نسخة) بالنظر الى ان الاستاذ مصطفى علي من اخص اصدقاء المؤلف ومن المعجبين بشعره وادبه وهو يعد من المتضلعين في اللغة العربية فمن المستبعد ان تصدر منه اغلاط لغوية وغيرها في اثناء النقل.
بغداد 31 في آب سنة 1941.
يقول الرصافي في كتابه الشخصية المحمدية تحت عنوان (اعظم معجزة للرسول الاعظم)
ما يلي:
لا ريب ان نشأة محمد بن عبد الله (ص) المعلومة وقيامه باعباء النبوة، وما لقيه فيها من المصائب وما اقتحم في سبيلها من المتاعب والمشاق وما آتاه الله من عزم شديد وخلق عظيم وعقل راجح حصيف وما اوجده بقرآنه العظيم وبسيفه من جمع الاشتات المترامية وشد الاواصر المتفككة وتوحيد العناصر المتفرقة حتى اوجد بها من العدم امة ناهضة في سبيل الحق والحرية فقامت قومة رجل واحد تدعو الى الله حتى دوخت البلاد وخضع لها الحاضر والباد وامتدت في اقطار الارض شرقا وغربا في مدة بسيرة لا تتجاوز نيفا وعشرين سنة لهي المعجزة الكبرى التي تتضاءل دونها المعجزات وان هذه المعجزة على عظمها وجلالها لم تقع الا وفق ما جرت عليه سنة الله في خلقه ولولا ذلك لما كانت معجزة ولا دلت على ما لمحمد من مقام رفيع وفضل عظيم غير ان الجامدين يعمون عن هذه المعجزة فلذا تراهم يهيمون في وادي الخرافات يبتغون بها المعجزات الدالة على صدق نبوة محمد (ص) وعظم شأنه كاشقاق القمر وتسليم الحجر وكمجيء الشجرة اليه تشق الارض شقا حتى قامت عليه تظله لما نام في الشمس وكشكوى البعير اليه وتكليم الحمار اياه وسجود الغنم له ونطق الغزالة بالشهادتين وشهادة الذئب له بالرسالة الى غير ذلك من الامور التي هي مخجلة اكثر مما هي مضحكة.. من الحقائق التي جاء بها القرآن العظيم واثبتها العلم في هذا الزمان ان لخالق الكائنات الاعظم سنة في خلقه لا تقبل التبديل والتغيير قال في سورة الاحزاب (ولن تجد لسنة الله تبديلا) وفي سورة الملائكة (ولن تجد لسنة الله تحويلا) غير ان اهل العلم في زماننا يعبرون عن سنة الله بالنواميس الطبيعية وهي جمع ناموس كلمة معربة تستعمل في العربية بمعنى الشريعة والطريقة وهم – اي اهل العلم – في هذا العصر يعنون بالنواميس الاصول والطرائق التي يجري عليها العالم بتفاعله في الكون والفساد على وجه لا يقبل الانحراف ولا الانعكاس كناموس الجاذبية العامة مثلا فنواميس الطبيعية عبارة اهل العلم وسنة الله في عبارة القرآن العظيم شيء واحد في المعنى وان اختلفا في اللفظ.
واذا كانت سنة الله لا تقبل التبديل والتحويل كان من المحال ان نتصور القدرة الربانية المطلقة خارجة عن حدود سنة الله لن القدرة المطلقة هي سنة الله نفسها فكيف يعكس تصورها خارجه عن نفسها اذ يكون معنى ذلك ان القدرة الربانية المطلقة تستطيع ان تحالف القدرة الربانية المطلقة.
وهذا هو الحال بعينه ولذا قال بعض علماء الاسلام"وهم المعتزلة"ان قدرة الله لا تتعلق بالمحال ولا يلزم من قولهم هذا ان قدرة الله محدودة غير مطلقة وان الله غير قادر على المحال كلا! لان المحال هو الخروج عن سنة الله التي هي قدرته المطلقة نفسها وليس للعجز معنى بالنسبة الى القدرة المطلقة، اذ لا يعقل بوجه من الوجوه معنى لقولنا ان القدرة المطلقة عاجزة عن الخروج عن نفسها اي عاجزة عن ان تخالف نفسها فمن الجهل ان يقال ان الله عاجز عن ان يخلق مثله.
اذا تدبرت هذا وفهمته جيدا فقد علمت ان المعجزة الخارجة عن حدود سنة الله من الامور المستحيلة التي لا تتعلق بها قدرة الله. وانما المعجزة الصحيحة الحقه هي المعجزة التي تقع في حدود سنة الله كالمعجزة التي اتى بها محمد رسول الله وهي التي صورتاها لك بصورة مجملة في كلامنا المتقدم آنفا والا فكيف يصح ان يقال ان محمدا عليه السلام قد أتى بأمر اعجز الناس عن الاتيان بمثله اذا كان ذلك الامر الذي اتى به ليس من الامور التي تتعلق بها قدرة الناس ولا قدرة الله.
فالمعجزة الحقة التي يصح ان تكون معجزة للناس هي ما ذكرناه آنفا من الامور الواقعية وفق سنة الله والتي قام بها محمد (ص) في حياته النبوية وكذلك القرآن العظيم فانه يصح ان يكون معجزة لا لانه من الامور التي تتعلق بها قدرة الناس فاذا عجز الناس عن الاتيان بمثله تحقق اعجازه وثبت بذلك صدق مدعاه وان ما ذكره الغافلون الجامدون من المعجزات الخارجة عن حدود سنة الله فشيء لا وجود له الا في اوهامهم.
وتحت عنوان (محمد ذو عقلية ممتازة) كتب الفقيد الرصافي يقول:
لا نريد هنا ان نتكلم عن العقلية العربية في الزمن الجاهلي فان ذلك مما يستنتج استنتاجا من اقوالهم وافعالهم واخبارهم واشعارهم ووقائعهم وحروبهم ومن حياتهم اليومية وكل ذلك معلوم لمن قرا كتب القوم وتتبع آثارهم وانما نريد ان نتكلم عن عقلية ممتازة فاقت العقلية العربية في ذلك الزمان وصاحب هذه العقلية هو محمد بن عبد الله (ص) صاحب القرآن العظيم وقريع الانبياء الذين جاؤا بالشرائع والاديان فنقول:
جاء في كتب السير انه كان دائم الفكر متواصل الاحزان، وجاء فيها انه كان يحب الخلوة فكان يذهب الى جبل حراء فيبقى وحده في غاره الايام والليالي، ولا شك انه لم يكن له في ذلك الغار شغل عن التفكير ومما يذل على انه كان من المفكرين قوله في القرآن"ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الالباب"والقرآن العظيم كله يدل على ما كان له من تفكير عميق في الخلق وخالق الخلق، فهذه الحالة منه اعني طول تفكيره وخلوته لاجل التفكير هي ظاهرة من ظواهر عقله الفطري وهي تدلنا على انه ممن تغلب عقله الفطري على عقله المكتسب او هو يتقيد منه بما يقبله عقله الفطري المطلق، فهو اذن ذو عقلية ممتازة على من حوله من الناس.
ثم ان العقل الفطري من حيث انه مصدر للحجة يقال له عقل ومن حيث انه مصدر للانتباه والفطنة وسرعة الفهم يقال له ذكاء وقد يكون العقل الفطري في الانسان قويا في احدى هاتين الحيثيتين دون الاخرى وكذلك كان عند محمد (ص) وذلك ان العقلية المحمدية مهما كانت ممتازة كما قلنا آنفا فان امتيازها انما كان بالتفكير بسبب تغلبها على العقلية المكتسبة ولكنها مع ذلك كانت في جهة انها مصدر للانتباه وسرعة الفهم اقوى منها في جهة انها مصدر للحجة ومعنى ذلك ان محمداً (ص) كان ذا عقل كبير الا ان ذكاءه كان اكبر من عقله واصبح شيء نرجع اليه في اثبات ذلك هو القرآن فنحن اذا نظرنا في الحجج القرآنية وجدناها ليست في الدرجة التي تناسب ذكاء محمد عليه الصلاة والسلام.
فمثلا يريد اثبات النشأة الاخرى بالقياس على النشأة الاولى وذلك ان بعض كفار قريش وهو ابي بن خلف على ما جاء في بعض الروايات اخذ عظما باليا وجعل يفئه بيده وهو يقول يا محمد اترى الله يحي هذا بعد ما قدره قال نعم ويبعثك ويدخلك جهنم ثم حكى ذلك في القرآن محتجا عليه بالقياس على النشاة الاولى فقال:"وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحي العظام وهي رميم، قل يحيها الذي انشأها اول مرة"والفرق بين النشاة الاولى والنشأة الاخرى عظيم لن النشاة الاخرى وهي البعث تكون بان يقوم الناس من قبورهم كما يقومون من فراشهم بعد النوم كما جاء في القرآن الكريم في وصف البعث"يخرجون من الاحداث كأنهم جراد منتشر"والنشاة الاولى ليست كذلك بل تكون وفق ما تفتضيه سنة الله في الخلق وسنة الله هي النواميس الطبيعية.. الخ.

مجلة الوادي 1959 العدد الخاص بالرصافي.