عبدالوهاب..زمان..واليوم ... من شلن الى الف جنية في اليوم

عبدالوهاب..زمان..واليوم ... من شلن الى الف جنية في اليوم

منذ بضعة اسابيع جاء الى مصر أحد متعهدي الحفلات ليفاوض عبد الوهاب في احياء حفلات في الاقطار الشقيقة، وتثاءب عبد الوهاب وطلب الف جنيه.
- الف جنيه عربون؟
- لا.. الف جنيه عن الحفلة الواحدة!

وراح الوسيط يحدث عبد الوهاب عن الوحدة العربية وسياسة التبادل التجاري وتصريح المستر ايدن!
ولكن عبد الوهاب اصر على الف جنيه عن الليلة الواحدة!
ومنذ سنوات كان سعر حفلات عبد الوهاب شلنا لا غير!
كان في ذلك الوقت طفلا يجوب الحواري والازقة، يرتدي الجلباب الكاستور، ويغني مع اولاد (الحتة)، فيقدمه السكان بالطوب لان صوته مقلق للراحة!
وفي ذات ليلة ذهب الطفل المقلق للراحة مع اصدقائه الى تياترو دار السلام سيدنا الحسين لمشاهدة فرقة فوزي الجرايرلي.
ودخلوا الصالة بعد ان دفع كل منهم عشرة مليمات ثمن تذكرة الدخول، وبعد ان رفض عامل التذاكر دعوى عبد الوهاب بانه لا يزال طفلا وان للاطفال معاملة خاصة في عربات الترام وفي كل مكان!
وانتهى الفصل الاول وراح اولاد الحتة يسلون انفسهم في الاستراحة بالغناء، فصفق الجمهور على سبيل السخرية والاستخفاف!
ولكن صاحب الفرقة لم يشارك الجمهور في سخريته، ولم يأمر بطرد الاولاد من الصالة، بل تقدم نحوهم ودعاهم الى الغناء على المسرح!
واصفرت الوجوه واضطربت الافئدة واهترت السيقان! وامام الامر الواقع ولتعذر الروغان، تقدم الطفل الخجول ومعه اصدقاؤه، وصعدوا على المسرح وراحوا يغنون!
وطرب الجمهور من فرقة الاطفال فصفق طويلا، واستعادا الفرقة عدة مرات!
واصيب فوزي الجزايرلي بنوبة كرم، فدفع لعبد الوهاب وفرقته شلنا دفعة واحدة!
وتكررت زيارات فرقة الاطفال لمسرح دار السلام، وتكرر دفع الشلنات.
الى ان اصبحت هذه الفرقة من لوازم المسرح، بل اصبحت كشريط ميكي ماوس الذي يعتبره الجمهور الان جزءاً دائما من برنامج دور السينما!
واعلن فوزي الجزايرلي عن ميكي ماوس المصري في اعلانات الحائط، واختار لعبد الوهاب اسما موسيقيا هو محمد البغدادي، لان اسمه القديم ليس فيه طلاوة ولا سحر ولا جمال!
وفي اكتوبر سنة 1917 انتقل الشيخ سلامة حجازي الى رحمة الله، وبعد عام من وفاته الف نجله عبد القادر حجازي فرقة تمثل روايات ابيه على ان يقوم الابن بالدور الاول.
ولكن صوت الابن كان اشبه باصوات مطربي محطة الاذاعة والعياذ بالله، فما العمل؟
اتفق مع الطفل عبد الوهاب ان يغني من وراء الستار، بينما عبد القادر يفتح فمه ويقفله امام الجمهور!
وهكذا كان نجل الشيخ سلامة هو اول من اخترع طريقة الدويلاج التي استعملت في روايات السينما الناطقة فيما بعد.
ورفع الستار، وظهر عبد القادر حجازي على المسرح وهو في سن الاربعين، يغني بصوت طفل في العاشرة من عمره!
وهاج الجمهور وهاج، وهجم. بالكراسي على الممثلين والممثلات يصيح، نياترو او نطه، هاتوا فلوسنا!
وقفز عبد القادر من النافذة، وعلى كتفه صوته الجميل اي الطفل عبد الوهاب!
والتحق الطفل بعد ذلك بفرقة الملحنين من حفظة الاناشيد القديمة، كما راح يتلقى دروسه في كتاب متواضع ملحق بمسجد الشعراني الذي كان يعمل فيه والده.
ثم سمعه المرحوم عبد الرحمن رشدي، فالحقه بفرقته وكان يغني للجمهور بين فصول الرواية الى جانب السيدة فاطمة قدري، ومطرب آخر يدعى سيد بهنسي.
وكان للمطربة جمهور، وكان لبهنسي معجبون، اما الطفل عبد الوهاب فقد كان يغني قتلا لوقت السميعة!
كان عبد الوهاب يلتهب غيرة من فاطمة قدري وهي تلهب قلوب السميعة بالاغاني المبتذلة القديمة مثل: والنبي ما اخدك على ضره وتعالي يا شاطر نروح القناطر!
اما اغاني عبد الوهاب فكانت من النوع الذي يمله الجمهور ولا يطرب على الاطلاق!
كان يتيح صوته في غناء قصيدة يقول فيها:
مرحبا يالسادة النجب
سادة العرفان والادب
قد اتيتم دارنا كراما
فغدت تهتر من طرب!
ولكن الجمهور لم يعتر من طرب عبد الوهاب، فعاد الاستاذ عبد الرحمن رشدي الى العمل بالمحاماة!
وتنقل المطرب الصغير من فرقة الى اخرى حتى اعاد عبد الرحمن رشدي تأليف فرقته، واستعان بعدد من الهواةن وفي مقدمتهم الطالب محمد عبد الخالق صابر وكيل وزارة الدفاع الان.

وكان سعادته يجيد القاء الاغاني والمواويل البلدية، فشجع المطرب الصغير على غنائها.
وكانت اول اغنية بلدية تعلمها عبد الوهاب على يد عبد الخالق صابر هي:
جطعة حليوه يتنعى والندى نازل
ومسيسية الشعر الاصفر ع الجبين نازل!
ولكن الجمهور لم يكن في ذلك الوقت من المعجبين بالشعر الاصفر، فانصرف عن الفرقة، وانصرف عبد الرحمن رشدي عن التمثيل!
والتحق عبد الوهاب بمعهد الموسيقى وتتلمذ على المرحوم حسن بك انور الذي تعهد صوته – وراح يعلمه الموسيقى على اصولها.
وسمعه شوقي الشاعر فاعجب بصوته، وادخله قصور الامراء والوزراء، وجعله المطرب الوحيد في كرمة ابن هاني بجوار الاهرام.
ولكن عبد الوهاب ما لبث ان اقتنع انه لم يخلق مطربا، بل ليكون موسيقيا ومطربا، فراح يعرض الحانه على المسارح والمطربين والمطربات فكانت ترفض، لانها من النوع الذي لا يطرب الجماهير!
وتصادف ان سمع نجيب الريحاني ان هناك ملحنا مسكينا يدعى عبد الوهاب وانه خجول ورخيص وابن حلال، فكلفه بتلحين احدى رواياته فنجحت الالحان ولكن نكت كشكش بك حجبت الالحان عن الجمهور!
وكانت المنية قد عاجلت سيد درويش قبل ان ينتهي من تلحين رواية كليوباتره، فعهدت السيدة منيرة المهدية الى الموسيقى عبد الوهاب باكمال الالحان.
وبذل عبد الوهاب في التحلين عصارة مخه وقلبه، وبين ليلة وضحاها راح اسمه يدوي مع اسم الرواية، حتى كتب الاستاذ فكري اباظة مقالا في المصور يقول فيه: "ان من لم يشاهد كليوباتره فهو مجرم في حق نفسه!".
ونجح عبد الوهاب في التلحين والغناء.. ولكن نجاحه لم يعمر طويلا، لانه ما لبث ان دب الخلاف بينه وبين السيدة منيرة المهدية، فقررت ان تقوم هي بتمثيل كليوباترة وانطونيو في نفس الوقت!
وترك عبد الوهاب المسرح، وراح يدرس الموسيقى في المدارس ، وكان بين التلاميذ رئيس تحرير هذه المجلة!
وبعد ان سمع عبد الوهاب صوت مصطفى امين اعتزل التدريس والتحق في بعثة وزارة المعارف بمعهد الموسيقى الالماني بالقاهرة، وبدأ يتعلم الموسيقى من اول وجديد!
وتوقفت العلاقات بين شوقي الشاعر وعبد الوهاب المطرب فكانا لايفترقان والواقع ان شوقي الشاعر هو المدرسة الوحيدة التي تعلم فيها عبد الوهاب.
تعلم اداب الحديث، وتفهم الادب والشعر، واصبح لالفاظه واحاديثه معان وانغام.
وحياة الادباء مدرسة ، الالتحاق بها صعب، والبقاء فيها اصعب!
وقد تطورت مجالس عبد الوهاب من الشعر الى الادب الى السياسة الى الصحافة.. وقد خلقت منه هذه المجالس شخصية جديدة غير شخصية المطرب والفنان.
والان نتحدث عن قلب عبد الوهاب بعض الناس يقولون انه لا قلب له، وانه يعيش ببطنه لا قلبه، وان صدر فرخة يزغلل عينيه اكثر من صدر الكوكب هيدي لامار!
ولكن الواقع ان لعبد الوهاب قلبا، وانه ارق من ورق السجائر الشفاف.. وقد غزاه عدد كبير من الغازيات والفاتحات!
احب في طفولته بنت الجيران وغنى لها.. ولكنها لم تأبه به!
واحب الممثلة المعروفة بولانجري وارسل لها خطاب غرام، تولى كتابته احد الادباء المعروفين ، وجاءه الرد، ولا يزال يحتفظ به حتى الان!
ولم يرسل عبد الوهاب ردا على رد الممثلة الحسناء، لانه اختلف مع الاديب المعروف!

الأثنين والدنيا /
نيسان- 1944