عندما شيعت بغداد عبد المحسن السعدون

عندما شيعت بغداد عبد المحسن السعدون

الشيخ علي الشرقي
نصفان بغداد فنصف محشر ساحاته اكتضت ونصف بلقع ما طلعت شمس الخميس المروع الا وطلعت معها ورقتان مللجتان بالسواد تخاطفهما الناس فلم ار أحدا الا واحدى الورقتين مرفرفة ذعرا واندهاشا بيده فكأن الناس مسكوا على قلوبهم المذعورة بايديهم ورقة منشور جريدة العالم العربي التي كانت تنفخ في الناس نارا وورقة منهاج مراسيم تشييع جثمان فقيد الامة التي اذاعته الحكومة

وسرعان ما اغلقت العاصمة اسواقها واخلت دورها وعطلت مدارسها وصدرت الارادة المطاعة بتعطيل الدواوين والدوائر ووقف كل عمل بذهول وارتياح الا عمل واحد هو تدفع سيل الجمهور الكئيب الى اتجاه دار الفقيد العظيم ونكس العلم العراقي الخافق حزنا وشاركت الدول الاجنبية الحكومة العراقية وشعور الامة في اظهار شعور الحزن وشعار الأسى فنكس الوزراء المفوضون والممثلون السياسيون والقناصل اعلام دولهم. عج الشعب فازعا الى الطرق المؤدية الى دار الفقيد والى الحضرة الكيلانية التي تقرر ان تكون المقر الاخير لبطل العراق فكانت الحفلة تدل على شعور حار وأسى عميق.
جمهور لايقل عن 200000 نسمة نظمه الخشوع وعلته السكينة ورتبته الوطنية الصادقة ليس فيه جلبة الا صدحات الموسيقى الحزينة وصفير الحسرات الحارة وحسيس نبضات القلوب الواجفة وسح قطرات الدموع وقد قام المجامون وهم في طليعة الموكب المهيب احسن قيام وهكذا تألف الموكب. رجال الجيش فرسانا ومشاة منكسة البنادق وضباطهم والشرطة وقد اصطفوا سماطين على جوانب الطريق واصطفت كشافة العاصمة وطلبة المدارس على حافتي الطريق وعليهم شارات الحداد ويحملون الاعلام السود مكتوب عليها آيات الوطنية المفجوعة.
وكانت الساحات المجاورة لدار الفقيد والتي كانت مجاورة للشارع الكبير الغاص بالمشيعين وطبقات الدور وشرفات المنازل تعج عجيجا وفي تمام الساعة الثانية والنصف بعد الظهر تعالت اصوات البكاء ايذانا بتشييع البطل فخرج النعش محمولا على مدفع وقد جلل بالراية العراقية التي شاركت العراقيين واحتضنت الفقيد الجليل الذي فداها بتلك التضحية الخالدة وضمت الصدر الذي قد ضمها وتقدم الموكب فرسان الشرطة وفي طليعتهم معاون الشرطة العام فوحدات من الجيش العرقي ممثله تمثيلا كاد ان يكون تاما ثم موسيقى الجيش وحف بنعش الفقيد وكيل القائد العام ومدير الشرطة العام وآمر منطقة بغداد ومدير شرطة بغداد واقرباء الفقيد ورؤساء الدين من العلماء الاعلام وتلاهم حضرة صاحب السمو الملكي الامير غازي المحبوب ممثل حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم وسار وراء سموه اركان البلاط الملكي ملكيين وعسكريين وسار بعدهم فخامة العميد البريطاني السامي، بالوكالة، واركان دار الاعتماد البريطاني فرئيسا مجلس الاعيان والنواب فاصحاب المعالي الوزراء فخاب قائد سلاح الطيران العام واركان حربه فالوزراء المفوضون والممثلون السياسيون والقناصل والاعيان والنواب فالمستشارون وكبار موظفي الدولة فامراء الجيش العراقي وضباط الشرطة وتلامذة المدرسة الحرية فاعيان العاصمة واشراف الاقاليم والنواحي المجاورة للعاصمة وبقية العلماء ورجال الدين واعضاء مجالس ادارة اللواء والبلدية وغرفة التجارة فاعيان الجاليات الاجنبية فممثلو النقابات والمهن ورجال الصحافة والمحامون والاطباء واصحاب المهن الاخرى الحرة فعدد غفير كبير جدا من سائر الطبقات وكانت ثلة من الشرطة في مؤخرة موكب الجنازة الذي لم تكن العين تدركه ولما بلغ النعش العطفة المؤدية من الشارع العام الى الشارع المؤدي الى الحضرة الكيلانية اوقف حضرات المحامين عربة النعش ثم حملوا نعش صريع الوطنية الخالدة على اعناقهم بالتناوب بين البكاء والعويل حتى بلغوا باب الحضرة الخارجي فانزلوا النعش وادخلوه ساحة الحضرة حيث احتشدت الجموع ووقف الشيخ زامل ال مناع احد نواب المنتفق ومن كبار رجالهم مؤبنا فالقى خطبة حماسية والقى حضرة عبد الله بك ثنيان نيابة عن المحامين خطبة بليغة قال فيها:
ايها الراحل العظيم عبد المحسن بك السعدون ان مجازفتك يحياتك في سبيل وطنك وبلادك لهي الشاهد العدل والدليل القاطع انك رجل عظيم فنم بسلام فانت في ذمة الله والتاريخ. وصلي على نعش الفقيد وعاد حضرات المحامين فحملوا جثمان الفقيد الى حيث ووري بالبكاء والعويل وبين طلقات المدفعية التي اطلقت اجلالا وتعظيما للرافد.

الكتاب الاحمر للقضية العراقية او الوصية التاريخية
ولدي وعيني ومستندي علي:
اعف عني لما ارتكبته من جناية، لاني سئمت هذه الحياة التي لم اجد فيها لذة وذوقا وشرقا، الامة تنتظر الخدمة، الانكليز لايوافقون، ليس لي ظهر، العراقيون طلاب الاستقلال ضعفاء عاجزون وبعيدون عن الاستقلال، وهم عاجزون عن تقدير نصائح ارباب الناموس امثالي، يظنون اني خائن للوطن وعبد للانكليز، ما اعظم هذه المصيبة، انا الفدائي الاشد اخلاصا لوطني قد كابدت انواع الاحتقارات وتحملت المذلات، محضا في سبيل هذه البقعة المباركة التي عاش فيها ابائي واجدادي مرفهين:
ولدي نصيحتي الاخيرة لك هي:
1- ان ترحم اخوتك الصغار الذين سيبقون ينامي(وتحترم والدتك) وتخلص لوطنك.
2- ان تخلص للملك فيصل وذريته اخلاصا مطلقا.
اعفني يا ولدي علي

13-11-29
عبد المحسن السعدون
وقد وقع في ذيل الكتاب كل من فخامة ياسين الهاشمي وفخامة ناجي باشا السويدي ومعالي خالد بك ومعالي عبد العزيز بك القصاب وسعادة جميل بك المدفعي متصرف لواء بغداد وسعادة محمد سليم بك مدير الشرطة العام الذين حضروا الى دار الفقيد على اثر وقوع الفاجعة شاهدين على ان هذا الكتاب وجد على منضدة الزعيم الراحل في مكتبته الخاصة وهو مكتوب بخط الراحل العظيم.

مأتم الامة وحداد البلاد
شمل الحزن العاصمة وكانت مدينة بغداد مأتما عاما يوم الخميس وليلة الجمعة وليس هناك قلب لم يشترك في الجرح وبدت شارات الحداد فكانت في النهار غلق الاسواق وتعطيل الاعمال ورفع الاعلام السود على المقاهي والحوانيت ورفعت كل مدرسة علما اسودا كتبت عليه عبارة تدل على حزن عميق وكانت في الليل وحشة وسكون ومسارح فقد سكنت تلك المعازف وخرس الحاكي وسدت دور اللهو ومسارح الرقص والتمثيل والسينما حدادا ولم تشاهد بغداد ليلة خرساء موحشة مثل تلك الليلة وصدرت الارادة الملكية المطاعة بتعطيل جميع الدوائر الرسمية في يوم الخميس واصدرت وزارة الداخلية امرا بتنكيس العلم العراقي المحبوب في كل دوائر القطر العراقي حداداً.
واقيم مأتم رسمي في ديوان فخامة رئاسة الوزراء فقد صدر بلاغ رسمي جاء فيه (ابتداء من يوم السبت 16 تشرين الثاني الى يوم 18 تشرين الثاني سيفتح دفتر خاص في ديوان رياسة الوزراء لتسجيل اسماء الذوات الذين سيقومون بواجب التعزية للحكومة) وجلل ديوان رئاسة الوزراء بالسواد ثلاثة ايام.
اما بيت فقيد البلاد فقد اصبح بيت الامة العراقية يتموج بالشعب العراقي المفجوع وقد اخضلت حجارته بالدموع ومسحت اركانه بالقلوب الحزينة وعقد حزب التقدم جلسة كئيبة في عصر الجمعة واعلن الحداد وفي يوم السبت عقد مجلس النواب جلسة حداد مهيبة فلم تكن ترى في المجلس غير شارات الحداد ولم تسمع الا اصوات البكاء وكان مقام الرئاسة ومقاعد الوزراء مجللة بالسواد وقد نصب رسم الفقيد العظيم في المحل الذي كان يجلس فيه المرحوم وقد احيط الرسم المبارك بشارات الحداد واكاليل الزهور وفي الساعة المضروبة فتحت الجلسة فتعالت اصوات البكاء والعويل في جميع صفوف النواب وشرفة المستمعين بحيث ان المجلس اهتز اهتزازا وتقرر ان يقف النواب وقفة الحداد فوقف الجميع "النواب والمستمعون" حدادا في سكوت عميق وانتهت الجلسة وصدرت الارادة الجليلة باسناد رئاسة الوزراء الى فخامة ناجي باشا السويدي وجرت حفلة استيزار صامتة وباكية ورغب صاحب الجلالة بمناسبة الفاجعة ان تتلى الارادة بدون مراسيم وقرر الوزراء ان لايقبلوا التبريكات وان يزور واضريح الفقيد العظيم بعد تلاوة الارادة وهكذا توجهوا توا الى مقر الفقيد وكان اعضاء حزب التقدم ومعظم النواب من الاحزاب مجتمعين وبعد قراءة الفاتحة تقدم فخامة ناجي باشا الى الضريح الكريم والدموع منهمرة والزفرات تكاد تقطع عليه الكلام وفاه بما خلصته جريدة العالم العربي: (ايها الراحل الكريم اتقدم الى ضريحك العزيز اتقدم انا ورفاقي الذين كانوا يحيطون بك احاطة الهالة بالقمر وهاهم يحيطون الا يحكن بضر
مثل نجوم فقدت بدرها
او كنظام فقد الواسطة

وقلوبهم كسيرة تخفق حزنا على ما اصابهم بفقد رئيسهم الاعظم وانا واياهم نفسم على ضريحك الطاهر باننا سنضع تضحيتك العظمى نصب اعيننا لتكون لنا منارا نستهدي به في سبيل المبادي السامية التي ضحيت نفسك من اجلها فنم مستريحا انك ستحيا وتحيا مبادؤك.

وفود الجهات وحملة الاكاليل
لم يكتف الشعب العراقي النحيب ان امطر العاصمة بوابل البرقيات النارية حزنا وجفلة واقام المآتم في طول البلاد وعرضها وناحت منابر مدنه وحواضره بطل التضحية ولكن مدنه المهمة جعلت توفد الوفود للطواف بضريح الفقيد العظيم يحملون الاكاليل واول ما جاء وفد كربلاء يحمل اكليلا باسم لواء كربلاء وآخر وقد كان وفد الموصل الذي حمل اكليلا باسم الموصل واكليلا باسم محامين الموصل وفاضت رجال الوفد بالخطب المفجعة التي سئبت بعضها تحت عنوان "منبر السعدون".

اجتماع المحامين ومقرراتهم
اجتمع محامو العاصمة اجتماعا وطنيا حارا وكئيبا وبعد البكاء وندب الفقيد العظيم انتخبوا "لجنة تخليد ذكرى السعدون" واقررت اللجنة:
1. اقامة حفلة تأبينية في يوم الاربعين.
2. تسمية الشارع المؤدي الى بيت الفقيد باسم "شارع السعدون"
3. السعي لدى الحكومة في استملاك دار الفقيد على ان يكون القسم الخارجي بيتا للامة والداخلي لسكنى عائلة الفقيد ومراجعة الحكومة لتخصيص راتب ممتاز لعائلة الفقيد.
4. السعي لدى العائلة في الاحتفاظ بملابس الفقيد وما استعمله من الادوات حين وقوع الحادثة وتحرير الوصية التاريخية لتكون ميثاقا وطنيا.
5. السعي في جمع تبرعات من كافة العراقيين لاقامة تمثال للفقيد العظيم وتوالت اجتماعات اللجنة وثابرت على اعمالها متأثرة بألم الحزن ولذة الجهاد الوطني.

عن كتاب (ذكرى السعدون) لعلي الشرقي