خضراوية سيد صالح

خضراوية سيد صالح

عبد الملك عاشور

فنان تشكيلي
في ذلك اليوم وعلى ضفاف شط العرب، كنا جالسين أنت وأنا، بيننا طاولة تساقط بفعل الزمن، الكثير من لونها الاخضر، على الطاولة: هكذا تكلم زرادشت، الزا وعيون الزا، مملكة محمد خضير، مجموعة شعرية للشاعر كاظم الحجاج، للأطفال ان يحبوا،كما يؤكد الأديب احسان السامرائي..

كنا نصغي الى ثرثرة الموج، كان الصمت أطول من الكلام،فنحن زملاء عمل، في دائرة حكومية واحدة، يداي ملطختان بأحلام فرشاتي..وقلبك متناثر في قصائدك الباذخة..(أووف…أوف) قلتها بنبرةٍ خفيضة كأنك تقولها لنفسك،لكن ارتفعت نبرتها بفعل سقوط استكانة الشاي على قميصك الرصاصي..فمسحنا الشاي بقهقاتنا المشتركة، ثم برشقة ماء، ثم عدنا للهدوء نفسه ولشاي جديد لكلانا، فأنزلقت والاصح انزلقت ذاكرتك من جلستنا،صوب البواخر الملونة والسفن القادمة من التوابل..(مهيلات) يترجل منها رجال ناحلون بسمرة داكنة، ثم أحسستك تعود صافيا مثل موسيقا تحبها، لحظتها مر بنا نورس يبشرنا بمقدومه، لحظتها رفعت رأسك يا صديقي ايها الشاعر حسين عبد اللطيف، في اتجاه زاوية 45درجة مع جذع شجرة يوكالبتوس..محدقا بكل مافيك من عمق الى تلك النخلة… نخلة منحنية كأنها تهمس
النهر، بكلامٍ خاص..نخلة ذهبها من النوع الذي نسميه (خضراوي) أما النخلة
فنحن نسميها (خضراوية سيد صالح)..أشرت بعينيك نحو النخلة، ثم همست ْ
: يأتي يوماً ياعبد الملك وأنحني مثلها…
الآن…بعد غيابك الشرس، لماذا مثلت هذه النخلة أمامي؟ لماذا هي وليس ذلك
التاريخ المشترك بيننا.. ياحسين يا زميلي في مديرية(النشاط المدرسي) وصديقي الرائع..هل تعلم ان هذه النخلة صارت قرينك، كلما تذكرت ُ الشط أو قصدته ُ (على الطرقات أرقب المارة)
ها أنا أعود الى (التنومة)، بزورق، أهبط من الزورق،في ذلك المكان حيث جلسنا
،أخطو على رؤوس اصابع قدمي، مخترقا نبات الدغل الصغيرة، وطراوة الطين
كنتُ خائفا من حدثٍ ما …
سمعتُ أنينها، سمعتها تئن قبل رؤيتها من كثب، حقا
(لم يعد يجدي النظر)..فتحت خطوات طوال فوصلتُ إليها..
صرتُ في كنف (خضراوية) سيد صالح، رفعتُ رأسي نحوها، ثمة اصوات غامضة، ثمة إيماءات بين سعفها وكربها وتمرها ثم اتضح لي نواح..نواح فواخت
جلستُ في ظلها النحيل..مر بي نورس، هل هو النورس ذاته؟ أعني نورس جلستنا
تلك؟ في ذلك اليوم الرائق؟ هاهو يفتح جناحيه، يحلق على صفحة الماء،
ثم يعود ليحط على طرف سعفة يابسة، فيسود الصمت..صمت..صمت… صمت
ثم يتساقط الحشف والرطب من العراجين، هاهي خضراوية سيد صالح نخلة آيلة للماء وهو في حالة مد..نعم صار المد عاليا، تساقط الطين الذي يحيط جذور النخلة
أقصد ذوّبتهُ (المدّه)، هاهي الخضراوية، تفتح سعفتها لتحضن الماء..ليأخذها بعيدا
بعيدا..ليأخذها عميقا عميقا.. وهاهو صوتك ياحسين اختلط مع الاشياء
(حاشاك إلهي
لايعلو الماء سوى الماء)