(مدام بوفاري)  تعود مجدداً

(مدام بوفاري) تعود مجدداً

ترجمة: إبتسام عبدالله
لا تزال إيما بوفاري تحتل مكانة اثيرة لدى قراء الكتب الادبية، كشخصية بارزة، كتب غوستاف فلوبير عن أدق أحاسيسها. رغبتها، نزواتها ونهايتها الحزينة. لا تزال إيما بوفاري لها مكانتها في التراث العالمي للادب،ولا يمكن ان تغطي عليها أية شخصية ادبية نسائية، خلقتها كلمات فلوبير ووضعتها في قائمة الخالدين.

وقد صدرت اخيراً في الولايات المتحدة الامريكية ترجمة جديدة لرواية،"مدام بوفاري"من قبل ليديا ديفيز، اثارت موجة جديدة من الاهتمام بها.إن قوة الرواية هذه تعتمد على دقة وارادة فلوبير على وصف شخصياته، بدقة متناهية،متناولاً كافة العناصر المتعلقة: الملامح، الحركة، المشاعر بل حتى تجاوبها مع الرائحة والطعم وعبر قراءة"مدام بوفاري"نجد المؤلف أختار الشخصية واختار كل كلمة ليضعها في المكان الصحيح الذي يجب ان تكون فيه تماماً من دون ان يمكن استبدالها بأخرى. والعبارة التي يكتبها فلوبير، اشبه ببيت شعر لا يمكن تغييرها.وتصف المترجمة ليديا ديفيز في المقدمة التي كتبتها للكتاب، عادات فلوبير في الكتابة،"لقد غيرت في أساليب الكتابة، واصبحت الرواية من بعده تكتب بشكل آخر". إن اهتمام فلوبير بالتفاصيل تتطلب جهداً ومثابرة كأقصى ما يتحمله الانسان. وقد امضى ذات يوم 12 ساعة جالساً على مكتبه، وتواصل ذلك عدة اشهر، يكتب ويعدل ويشطب ويعيد كتابة الصفحة مرات عدة، وقد يستغرق في تلك العملية اسبوعاً واحداً. والترجمة الجديدة لمدام بوفاري، شفافة، أمينة للنص الأصلي، من دون الخضوع له، والقارئ لا يحس بوجودها في خلال قراءته للرواية.آخذا بنصيحة صديقه المقرب الشاعر لويس بويلهت (الذي اهدى له رواية"مدام بوفاري"، اختار فلوبير موضوعاً دنيوياً، من أجل كبح ميله نحو الاسلوب الغنائي المسرف في التعبير العاطفي، مختاراً ادوات كتابة اخرى.(والنسخة الاولى من"إغواء القديس أنطوني"، كانت مسرفة في استخدام المحسنات البيانية والبديعية، مما جعل بويلهت يطالب باحراقها). لقد استلهم فلوبير قدر ومصير إيما بوفاري من حكايتين حقيقيتين، زنا وانتحار ديلفن ديلامار، والتبذير المتهور الذي ادى الى افلاس لويس برادير. إن القراء لا يحبون عادة إيما بوفاري، ولكنهم مع ذلك يتابعونها باهتمام، متابعتهم لضحية حادث ما ادبياً او مجازاً. كيف تتمكن إمرأة لا تملك نفسها، صغيرة العقل، غير قادرة على الحب(لا تشعر بأي ارتباط مع أحد ما) ضجرة من حياتها، ان تسحرنا كما تفعل هي ونحن نتابع حكايتها؟ لقد سيطر فلوبير على احاسيس قراء الرواية بتقديمه كافة تفاصيل حياة إيما – وكان يسمي روايته بـ"سيرة حياة". والقراء، في كافة الاحوال يشيدون بأسلوب فلوبير ولا تساورهم الشكوك في حقيقة ما يسرد.إن حياة إيما فلوبير تتشابه مع حياة شخصية روائية اخرى وهي آنا كارينينا، التي لها زوج بغيض، وترتبط بعلاقة مع رجل يخون حبها، وتلجأ في النهاية الى الانتحار. لكن آنا، شخصية ودودة، ومأساتها تنجم عن ظروفها الخاصة (إمراة عليها الخضوع لتقاليد المجتمع الروسي في القرن العشرين)، وتزوجت من شخص لا مشاعر لديه، اكبر منها بـ20 عاماً ولم تكبح آنا عواطفها تجاه فرونسكي. والمبادئ العليا التي نشأت عليها، لم تتغلب على تعطشها للحب. إن القراء في خلال قراءتهم رواية،"آنا كارينينيا"، يناصرون البطلة، في حين نجدهم يتابعون بذعر تصرفات إيما (مدام بوفاري) والتي ترغمهم على مجابهة طاقة الإنسان للوجود والجشع والخواء. وإيما الانانية، المحبة لذاتها، غير المبالية بمعاناة الآخرين، ولا تستطع الرؤية الى ماهو ابعد عن رغباتها وبحثها عن سعادتها فحسب.وإيما تبدو فارغة، لا سمات شخصية لها، وهي كتلة من الخواء. ونجدها عندما تقف امام مرآتها وهي سعيدة جداً مخاطبة نفسها:"لدي حبيب، حبيب"، وتعيد تلك العبارة عدة مرات.أما بالنسبة لذلك الحبيب، فهو بعد خروجه مع إيما في نزهة للغابات واغتصابها هناك. ورودولف، وسيجار بين أسنانه، يصلح بسكين الجيب احد اللجامين اللذين انكسرا".إن هذه العبارة تحتاج الى يوم من العمل، إن كان ذلك الشيء الذي كان ثمن شرف إيما. أسنان الجبان الذي نال ما يريد، السكين واللجام المكسور وشرف المرأة التي اغتصبت. لقد انتهت المهمة بالنسبة اليه، وهو بعد وقت قصير سيرمي إيما جانباً، وهي ستلجأ الى عاشق آخر، قبل ان تقع ضحية المرابي لهيوريوا.إن احتقار فلوبير للبرجوازية، التي اراد ان يمثلها بايما، كان مستنداً، فوق كل شيء، إلى عوامل ميلها بصورة لا أرادية للاستسلام امام المشاعر، ذلك ان إيما لم تناقش ابداً مدى صحة جموحها ونزواتها، التي استعارتها من الروايات العاطفية او استعارتها من حضورها عدداً من الحفلات الارستقراطية. وهي بعد ان ادارت ظهرها للحب الحقيقي، بدأت البحث باستمرار عن إنسان أفضل وبعد انتحارها، إثر جرعة سم، في القرن التاسع عشر، أمر قد يحصل في أي عصر، ومن بينهم عصرنا الحالي، وهي بذلك وضعت نهاية لها وحلاً لمشكلة حياتها.