قراءة في دراسة سارتر عن فلوبير

قراءة في دراسة سارتر عن فلوبير

عدنان المبارك
وجد النقد دراسة سارتر(أبله العائلة Lidiot de la famille / The Family Idiot) عن فلوبير خلاصة نموذجية لكل أفكارمؤلفها الفلسفية والإجتماعية والأدبية. والدراسة لم يكملها سارتر رغم أنه نشر في عام 1971 جزأين مجموع صفحاتهما أكثر من ألفين ومائة وثلاثين. وأراد لها أن تكون بيوغرافيا فلوبيرية كاملة. وفي الحقيقة لم يرد إنهاءها: (لن يجعلني عدم الإنهاء شقيا، فأنا قلت الأشياء الأكثر أهمية فيما نشر).

كان سارتر يتناول، أثناء كتابة هذه الدراسة خاصة، الدواء / المخدِّر المسمى Corydrane وهو خليط من الأسبرين والأمفيتامين. معلوم أنه كان يعاني، ومنذ عام 1973، من ضعف بصره، وفي نهاية العمر كان ضريرا. وتوفي في الخامس عشر من نيسان 1980 في باريس بعد معاناة طويلة من مرض تورم الرئتين oedema.
وفي مقدمة هذه الدراسة الناقصة كتب سارتر بأن الإنسان لن يكون أبدا فردا بل يصح نعته بمفرد خاص / غير مجموع. بعبارة أخرى: إنه الشامل عبر الشمولية المفردة، أي المفرد عن طريق جعل مفردية مشاريعه شمولية، كما أنه بحاجة الى إختبار متزامن من كلتى هاتين النهايتين. إنها الطريقة / المنهج الذي فحص سارتر بها فلوبير والمجتمع الذي عاش فيه بل ويعترف، بالصورة غير المباشرة، أن: (فلوبير هو أنا)، أي أنه يمكن القول: كل فنان هو فلوبير...
في الواقع ليست (أبله العائلة) دراسة بالمعنى الاكاديمي بل تملك مؤهلات كي تكون رواية عن روائي - إعترافا ذاتيا يقوم به سارتر متفيئا بفن فلوبير. فكلا الفرنسيين عارك الواقع على طريقته لكن في الساحة نفسها. سارتر لم يفقد الأمل، والى النهاية، في العثور على قاسم إجتماعي مشترك وأيّ كان قدْره، في حين أن فلوبير إنعزل في صومعة حقيقية بالقرب من روان بعد أن إنهار الواقع الخارجي مع إختفاء (الإمبراطورية الثانية) الفرنسية نتيجة الحرب مع بروسيا.
كان هناك عدد ضخم من الملاحظات والتحليلات خصت التكملة التي لم ينهها المؤلف بل لم يرد، كما ذكرت ُ، إنهاءها. وبدا الأمر كأن سارتر أراد أن يتعقب كل دقيقة من حياة فلوبير وصراعه مع النفس وعصره التي كان مرفوضا لديه. أكيد أن سارتر أخذ في أجزاء كبيرة من (أبله العائلة) بالنهج التحليلي وليس كما كان الحال مع الآخر التركيبي في مؤلفه (جان جينيه – شهيدا وكوميديا/ ممثلا). من ناحية أخرى لم ينكر النقد ولا علم الأدب بكامله أن هذا الكتاب البيوغرافي لامثيل له من ناحية التحليل الدقيق، والمدهش في تفاصيله وأمانته كما أنه من النادر حقا مثل هذا الإلتحام بشخصية فلوبيرالذي لم يفهمه محيطه. ولعل عنوان الكتاب (أبله العائلة) إيماءة بالغة الوضوح الى إغتراب فلوبير وسوء الفهم والتفاهم الذي لم يتخلص منهما الى النهاية. في كتابه من عام 1940 (التصور - السايكولوجيا الفينومينولوجية للمخيلة) يتكشف كامل المنهج السارتري في الفن. وفي أبعاد معينة نلقى المنهج ذاته في (أبله العائلة) أيضا. إلا أن في بيوغرافيا فلوبيرهذه لجأ المؤلف الى الفرويدية والماركسية على حد سواء. بالطبع ثمة موقع بيّن هنا، للعناصر التأريخية والإجتماعية. إلا أن المحور الرئيسي لدراسة سارتر هو فينومينولوجيا العمل الفني وإشكاليات التصور والفعلي واللافعلي أي التي تخص كل الفنون. فسارتر يجد أن قضية العمل الفني معتمدة بالصورة الوثيقة على قضية فعل التصور. ويخلص في النتيجة الى أن العمل الفني هو لاواقع. فمدام بوفاري رغم تلك الأمانة الكبيرة في توفير التطابق بينها و(الواقع) لم يكن بمكنتها أن تحقق الوعي بالفعلية. وكما كتب سارتر يظهر الشيء الأستيتيكي في اللحظة التي يؤسس فيها الوعي ذاته كقائم بالتخّيل عبر تحوّل جذري يفترض تصغير العالم. ويشير سارتر الى الخلط السائد، عادة، بين الواقع وفعل التخيّل في العمل الفني. فما هو فعلي ليس جميلا أبدا ولأن الجمال هو قيمة يمكن نقلها وتحويلها الى فعل التصورية حسب، وهي تحوي في بنيتها الجوهرية تصغيرا للعالم. إن التأمل الأستيتيكي للأشياء (الفعلية) يملك بنية إعتلال الذاكرة paramnesia والتي يعمل الشيء فيها كمماثل لذاته في الماضي. ولكن في الحالة الأولى نملك تصغيرا، وفي الثانية دفعا في الماضي. ويختلف هذا الإعتلال عن الموقف الأستيتيكي، شأن إختلاف الذاكرة عن المخيلة. وبالصورة المباشرة نصل الى مقولة سارتر المعروفة: خلط الأخلاقيات بالأستيتيكا هو محض غباء. ويعود فيها الى قول مشهور لعمانوئيل كانت عن لانفعية الرؤية الأستيتيكية: لا أهمية هناك في أن الشيء الذي يُدرَك كجميل قد منح وجودا أو لم يمنح.
يتناول سارتر في (أبله العائلة) التحولات في شخصية فلوبير، وعلاقاته مع كل واحد في العائلة، وقراره في أن يكون كاتبا ثم الأزمة النفسية – الجسمية أو (الإنقلاب) الذي حرره من سلطة الأب، والتكرس لفن الكتابة. كما يرسم صورة مليئة بالتفاصيل لعصر فلوبير وأزمته في الكتابة، وتأثيرات أدبه على معاصرتنا عامة. وكان فلاديمير نابوكوف قد وجد أن أكبر تأثير للأسلوب الدقيق عند فلوبير، كان على كافكا. ولصفق فلوبير الذي كان ينفر من النثر المبالغ في جماله، لسلوك كافكا إزاء أدواته. فهذا كان يميل الى إستخدام لغة القانون والعلم ومنحها نوعا من الدقة الساخرة ومن دون تدخل ميول المؤلف. كما وجد نابوكوف تأثيرات قوية لفلوبير على أدب الأفريقي الجنوبي ج. م. كيتسي John Maxwell Coetzee. وقد يكون قصده الحرص الكبير لدى كيتسي على كمال الشكل والأخذ بالحد الأقصى من التوصيف الموضوعي ودقة عمل الساعاتي...
يكتب سارتر أن فلوبير تجنّب الحاضر والمستقبل على السواء، ولإنه بقي في أعماق النفس يتكامل مع الماضي. ويلاحظ أن فلوبير كان يميل الى إيقاظ الذكريات عن الأشياء البالغة الخصوصية والتي يصعب تكرارها. ووجد أن الأشياء الأشد إثارة للإنفعال هي التي تحمل أقل أهمية و(لكنها تظهر الماضي في لاحضوره وفي كينونته).
ينتقل سارتر الى تحليل موقف فلوبير من (الإمبراطورية الثانية 1852 – 1870) التي خدعته لفترة من الوقت، ويكتب: أراد فلوبير أن يخلق، لنفسه بالطبع، أمبراطورية أخرى). وأسماها سارتر بالأمبراطورية – الوهم، أو الأمبراطورية - الهزيمة. وسعى فلوبير الى أن يكون مخلصا لهزيمته، ولذلك خلق روايات أراد لها الخلود، روايات يجهد مجتمع المستقبل نسيانها ولأنها سيئة أولأن الخلود كلمة محرومة من المعنى، والشهرة مجرد كذبة: (أكيد أن هذه الكتب التي أخطات الهدف وليست إلا أحلاما عتيقة لطفيليّ كان يطعمه مجتمع – وهم، أحلاما لم تملك القوة الكافية للإنتقال من عصر الى آخر وبموافقة التأريخ...). ويتكلم سارتر عن تمزقات معينة عند فلوبير بسبب إنعدام الإيمان بأن كتبه لن ترغم القاريء على الدخول في طريق الوهم، فهي ليست إلا (أعمالا بارزة أعجبتْ بها، وبدافع الرياء، نخبة زائفة). ويقوم سارتر في أكثر من موقع بتناول إشكالية المخيلة عبر مونولوغات داخلية لكنها فلوبيرية.
إن كتاب (أبله العائلة) هو أثر أدبي ساحر حقا، و لاحاجة الى القول بأنه بحث باهر صار يعدّ من أبرز أعمال سارتر.

عدنان المبارك
روائي وكاتب ومترجم عراقي
مقيم في الدنيمارك/
توفي قبل اسابيع