مدام بوفاري».. الرومانتيكية بثياب واقعية

مدام بوفاري».. الرومانتيكية بثياب واقعية

عثمان حسن
تعد رواية «مدام بوفاري» للفرنسي غوستاف فلوبير (1821 - 1880) من الأعمال البارزة لمؤلفها كونها تنتمي للمدرسة الواقعية في الأدب، وهي المدرسة التي نشأت في نهاية القرن الثامن عشر، وتكاد تميز الكثير من خصائص الأدب العالمي، على أن شهرة هذه الرواية، إنما تعود في الأساس لتلك الضجة التي أثارتها حين صدورها في فرنسا،

كونها حسبت من الروايات المتحررة، التي تصور المشاعر والعواطف الجياشة، وتطلق العنان لعواطف الشخصيات، بناء على تدخل المؤلف في النص، وهو تدخل يختلف عليه النقاد، حول رأي يمنح الكاتب - أي كاتب- حرية إبداع نصه بالطريقة التي يراها مناسبة، ورأي آخر، يرى في سيطرة المؤلف على النص والحوار وعواطف الشخصيات، ما هو ضروري للحد من العاطفة وكبتها والتحكم بمآلاتها.
على أي حال، برزت «مدام بوفاري» بوصفها من الروايات العالمية الكبيرة التي قفزت مستويات تداولها في القراءة والنقد، بنسب عالية، كما تناولتها السينما، وعدت من الروايات الأهم في مسيرة غوستاف فلوبير، الذي له أعمال أخرى لا تقل جودة مثل «التربية العاطفية» و«سالامبو» و«تجربة القديس أنطونيوس».
غالبا ما يحبذ النقاد العرب مقارنة هذه الرواية، بما كتبه نجيب محفوظ، وغوستاف فلوبير في ما أنجزه من أعمال، كان يراوح بين الواقعية والرومانتيكية، كما هو في «مدام بوفاري» وتبعاً لما كتب عنها، نجحت الرواية في التحليل السايكولوجي للشخصيات، التي تعامل معها المؤلف بوصفها نماذج بشرية، ذات طبائع وأمزجة، ورغبات وميول، وهي تعيش الواقع الاجتماعي، وتنتمي للطبقة المتوسطة، ونجاحها إنما يرتبط بقدرة مؤلفها على رصد انفعالات الشخصيات ودوافعها، بما أوتي من موهبة فنية عالية.
حين كتب فلوبير هذه الرواية، كان معنياً، بموضوعها إلى درجة كبيرة، وهو من الموضوعات التي تميز بها أسلوبه، من حيث تحليل دوافع الشخصيات وسلوكياتها، بما في ذلك كل الحوادث والتحولات، التي تسرد سيرة حياة البطلة إيما زوجة شارل بوفاري.
استطاع فلوبير أن يبرع في أسلوب هذه الرواية، كما لم يبرع من قبل، فشارل بوفاري شاب ريفي ساذج بليد الذهن، يعمل طبيباً ويتزوج زواجاً تقليدياً، ثم ها هو يخسر زوجته بعد مرور مدة زمنية بسيطة، وسرعان ما يعشق «إيما» ابنة جاره الفلاّح، وهي شابة جميلة جامحة الخيال ويتزوجها، لكن «إيما» الجميلة، ولكونها تعيش في بيئة ريفية مغلقة، تقبل الزواج بشارلي، ليس حباً، بل لأنه الأوفر حظاً، من أولئك الأزواج في بيئتها، وهي بيئة مغلقة بكل الأحوال وبحسب ما يفسرها فلوبير، عقدة الرواية تبدأ من هنا، من نقطة زواج الاثنين (شارلي وإيما) من دون تخطيط مسبق، ومن دون معرفة سابقة لأي منهما بالآخر.
فمدام بوفاري، بأحلامها الوردية التي قرأت عنها في الكتب، والتي تمنت كثيرا لو أنها تعيشها، تفاجأ بزوجها البليد (متحجر الذهن والعواطف) وهو ذو ثقافة متوسطة إن لم تكن معدومة، هكذا كانت تنظر «إيما» لبوفاري، فهما لا يشتركان في شيء، من حيث العاطفة، ولا من حيث التفكير والتوقع والحلم والرومانسية، وهي العقدة التي تمهد الطريق لإيما التي تضيق ذرعاً بهذه الحياة، لكي تسلك في درب المغامرة، والبحث عما يؤجج لديها العاطفة، فتعشق آخر، لمظهره ليس إلا، ثم تضجر منه، وتعشق ثالثاً وتضجر منه هو الآخر، وتسرف في شراء الزينة، فتقع تحت وطأة الديون الكثيرة، وتصبح أسيرة للدائنين الأشرار، وتستمر في الضجر، ولا تجد من زوجها البليد سوى إصراره الممل على التودد لها، ناهيك عن آرائه البليدة التي تشكل في نهاية المطاف مجموعة من الأسباب المقنعة للزوجة، لكي تقرر أخيرا شرب السم والانتحار موتا.
بعد مدة، يكتشف شارل بوفاري الدليل على خيانة زوجته «إيما»، ولكن ذهنه البليد يمعن في الحزن والقلق وبالحياة عموماً، فيحس بالألم اللاذع بشكل واضح وتتفاقم عليه الأمراض ويفارق الحياة بسرعة.
وفلوبير يسرد قصة اعتيادية، وغير متكلفة، وفيها درجة عالية من التنويع السردي والأسلوبي، كما أن اللغة التي كتبت فيها هذه الرواية، هي لغة عالية من جهة توصيف الريف، بما في ذلك توصيف سلوكيات قاطني هذا الريف، تبعا لأحلامهم وتوقعاتهم وميولهم وعواطفهم المختلفة.
استغرق هذا العمل نحو خمس سنوات من التأليف، كما ظهرت الرواية مسلسلة على أجزاء في صحيفة «ريفودي» في باريس عام 1865.
مدام بوفاري، في هذا العمل هي البطلة الرئيسية، وهي مصدر العقدة التي تبحث عن حل، بين عيشها حياة الريف وهي صغيرة، وتوقها إلى تغيير واقعها، والعيش في أجواء المدينة، حيث النبلاء والطبقة المرهفة، وأجواء الرقص والموسيقى والأحلام الرومانسية.

عن المصري اليوم