الزهاوي كما يصفه تلميذه..  رسالة نادرة من الصراف الى محمود صبحي الدفتري

الزهاوي كما يصفه تلميذه.. رسالة نادرة من الصراف الى محمود صبحي الدفتري

اعداد: رفعة عبد الرزاق محمد
حين انتقل المرحوم جميل صدقي الزهاوي شاعر بغداد وفيلسوفها الى رحمة الله في الثالث والعشرين من شباط 1936، كان تلميذه ومريده المرحوم احمد حامد الصراف حاكما في البصرة. فحرم من وداع شيخه والسير وراء نعشه والوقوف على قبره في ساعة الوداع الابدي، فالمه ذلك وهاجت في نفسه خواطر وهواجس كانت كامنة. فارقت ليله، وكتب رسالة الى صديقه واستاذه المرحوم محمود صبحي الدفتري

يشكو اليه فيها حزنه يبثه لوعته على فراق استاذه الزهاوي، وحرمانه من القاء النظرة الاخيرة عليه. وقد افضى الصراف في هذه الرسالة الى الدفتري بمكنونات نفسه. وباح باسراره، واعترف بانه كان قد سبب كثيرا من القصص والمنغصات للزهاوي.
البصرة 29 شباط سنة 1936
اخي الكبير النبيل الودود
اعلن ان الموت منهل بردء كل حي، واعلم ان الانسان وان عمر ما شاء الله ان يعمر لابد ان يرقد في الاخير في ملحودة تضمه بين جنبيها، فيصبح بعد قليل كومة عظام لا تلبث ان تستحيل الى تراب تدوسه اقدام البشر وسنابك الخيل، وانه من العبث ان يبكي الانسان وان يكثر الاعوال اذ ان لكل بداية نهاية. والزهاوي، غمره الله بنوره، عمر طويلا وعاش جليلا، وقد نضبت كاسه وانقضى اجله فمات كما الذين عاشوا من قبله. كل ذلك اعرفه واعلمه علم اليقين، ولكن ايدري مولاي ان نعي الزهاوي احدث في انفعالات شديدة في النفس. واضطرابات قوية في العاطفة، وهزات عنيفة في الجوانح، حتى لقد استحقرت الدمعة والزفرة واستصفرت الانة والحسرة عليه.
ماتت امي فحزنت عليها، ومازلت حزينا عليها، وكنت اتسلى بانني خدمتها ووفيت حقها وقمت بالواجب المحتم علي احسن قيام.
ومات الزهاوي فحزنت حزنا فيه مرارة وفيه خجل، حتى لكأنني شعرت بان كل شيء في الدنيا يؤنبني ويؤلمني ويؤذيني، وان السماء غاضبة علي، وان في العالم صيحة تدوي في الحقد علي، ذلك لانني لم اخدم الزهاوي ولم اوفه حقه تماما.
الان شعرت باللطمة الشديدة، الان شعرب بالجرم الذي ارتكبته، الان احسسن بالخطأ الذي اقترفته، انني اغضبت الزهاوي في حياته، وبذلك اسأت اليه وقد ندمت على ما فعلت. انا الان ابكي واعض اناملي واضرب يدا بيد فقد ندمت على ايذاء الشيخ، ولكن الله يشهد بانني لم اتقصد الاساءة، ولم اتعمد الايذاء، وانما كانت ظروف واسباب وبدوات ونزوات للشباب.
تمر على عيني صفحة تتلوها صفحة من ذكريات تلك الايام. وفيها من المتناقضات والمسرات والمحزنات ما تشجي وتهيج، هذا عام 1923، وهذا الزهاوي على اتانه وفي يده هرواته الغليظة، وهذا الصراف الشاب الناحل المكمود اللون يمشي على اقدامه، وبجانبه، محمد، الخادم وقد حمل "روايات" اشتراها الاستاذ ليقرأها.
"أبني احمد لنذهب الى قهوة الشط.
- كما تحب يا استاذ
- استاذ اليوم قرأت قصيدة لابن معتوق
الموسوي مطلعها:
خفرت بسيف الغنج ذمة بغفري
وفرت برمح الغد درع تصبري
فيتجعد وجه الاستاذ وتبدو عليه الغضون كسطور خطئها يد الدهر، ابتي لا تقرأ هذا الشعر، لان فيه مبالغات واكاذيب، واحسن الشعر اصدقه لا كما قيل اعذبه اكذبه".
ثم يندفع الاستاذ فيلقن تلميذه اساليب الادب، وبعد ساعة يمتطي اتانه والصراف الفتى يتبع اثرها وهي تمشي الخيلاء كالطاووس راضية مسرورة بان تحمل ذلك المرعب المخيف اذا غضب، والخفيف اللطيف اذا رضي، فتوصله الى الدار المباركة. مع السلامة، ابني تعال العصر ونروح الى باب الشرجي (الشرقي).
وهذا شتاء عام 1927، وهذا صالون الدفتري وقد جاء الحكيم دار الدفتري يوم الجمعة وتصدر المجلس وهو حانق على الصراف. واجد عليه لانه كتب مالا يرضيه.
اذا جاء احمد الصراف فاني طالع ما (اكعد) ثم يأتي الصراف فيهم الزهاوي بالخروج، فيخرج الصراف من الدار على رغم انفه وهو يتعثر باذيال الخجل، فيناديه صبحي بك الدفتري، شوف احمد لا تزعل، الزهاوي صاير شوية عصبي، وانا احاول ارضاءه، ثم يرجع الدفتري الى المجلس، يا استاذ احمد مثل ابنك، يا ابني هذا ما يصير له جاره هذا ما يفهم شيء أفندم عجن ايدي وخبز ايدي.
اه يا استاذ ليتك اليوم خي فتطردني في اليوم عشر مرات.
ويدور البحث ويتدفق ذلك السيل. فيسكر الحاضرون بخمرة الحديث كانما اديرت عليهم اكواب الراح، ثم يشرف الهاشمي والسعيد والمدفعي، وتكتمل حلقة الادب من ابراهيم صالح شكر، والاثري، وبطي، ومحمود احمد،’ والصراف. اسمعنا يا استاذ من شعرك، افندم نظمت قصيدة طلبوها من امريقا، فيتلو الشيخ قصيدته متصفحا الوجوه ومتفرسا في اساريرها فيكثر الهتاف والاستحسان ثم يلتفت اليه الدفتري.
يا استاذ انت راض عن احمد. افندم احمد مثل ابني له مستقبل زاهر فيرد عليه احمد: استاذي، مستقبل وليد اثرك وتعليمك، واذا ازهر او ازدهر مستقبلي فهو حافل بما ترك وجلائل الاتك.
ثم تمر الشهور فيوسوس ابليس لرفائيل فيحدث زوبعة من النقد فيثور الزهاوي، ويالله اذا ثار فيصدر الزهاوي "الاصابة" ويهجو رفائيل "باللاطمة والصاعقة".
وينزل الصراف الى الميدان ويخوض المعمعة فيشتم ويُشتَم. ثم تهدأ العاصفة، وتمر الايام فيلتقي رفائيل بالصراف فيتصافحان ويقبل احدهما الاخر، فيسمع الشيخ فيغضب ويهجر محبه وتلميذه. افندم الصراف يبوس رفائيل، ثم يرضى الاستاذ وتنطوي تلك الصحفة فتصبح كالطيف في عالم الخيال ابني لقد كافتني في شيخوختي جزاك الله عني خير الجزاء انا راض عنك الله يرضى عنك، فيقبل التلميذ يد استاذه، يا استاذ هذا واجبي.
ايه أستاذ حسبي من دنياي ان تموت وانت راضي عني فرضاه الاستاذ على تلميذه من رضاء الله.
لقد شرفك الله ففقهت بلسان نبيه الاعظم. وعظمك الله فاديك بلغة رسوله الاكرم، فانت حسيب رسول الله، وحسيب قرآنه وبيانه.
هذه دمعتي وتلك لوعتي، وهما آيتا حزني وأسفي عليك، وحق لدجلة والفرات موطن الكماة الاباة ان ينشجا عليك نشيجا، وان يتجاوبا نحيبا، فقد انقطع النشيد ومسكت البلبل الغريد.
لن انسى يا استاذ ذكرك وشعرك، ولن انسى لطفك وعطفك وحبك وشفقتك، ولئن اساء اليك ابراهيم وبطي والاثري ومحمود احمد والصراف، فانهم سيكفرون عن ذنوبهم بالاشادة في ذكرك وتخليد اسمك، وسيبقى المجلس الذي قلت فيه.
جمع الاديب الحر صبحي شملنا
في داره اكرم بها من دار
حزينا عليك، وسيبقى صاحبه كئيبا عليك.
الى النور، الى رحمة الله، الى الخلود يا حسيب رسول الله.
اخي الكبير هذه كلمة كتبتها في الليل وارسلتها اليك
محبكم المخلص
الصراف