من فندق  الاليزية  الى قصر للرئيس

من فندق الاليزية الى قصر للرئيس

بدأنا في العدد الماضي تقديم سلسلة تحقيقات عن مقرات الحكم ومراكز صناعة القرار في عشر عواصم عالمية. وهي سلسلة خاصة بـ "التضامن" اعدها مراسلو وكالة الصحافة الفرنسية (A.F.P) وتقدم الخلفية التاريخية والسياسية لتلك المقرات والحكام الذين تعاقبوا عليها واهم الاحداث التي مرت بها. وفي العدد الماضي قدمنا "الكرملين" او القصر الاحمر وفي هذا العدد نقدم تحقيقا عن قصر "الاليزية" كتبته "ليزنويل" المحررة بوكالة الصحافة الفرنسية.

ها انت في باريس. نزلت في مطار شارل ديغول، اول مطار أوروبي واخذت طريقك الى قلب عاصمة النور. لاشك انك ستحرص على زيارة معالم المدينة بدءاً من قوس النصر الذي ينتصب في قلب الشانزليزيه ومروراً ببرج ايفل وليس انتهاء بقصر الاليزيه. هنا تأخذك "التضامن" في رحلة داخل القصر تشم فيها رائحة التاريخ وتتعرف على خلفيات قصر ظل شاهداً على قصص الغرام البوهيمية ودسائس الحكم وعبث الحكام.
"قصر الاليزيه" عرف الهزائم فما هدته، وعاش الانتصارات فما اغرته.
تعامل مع الملوك باستقراطية رفيعة، كما صبر على تجاوزات الصعاليك وأبناء الشعب ورجال الثورة، وأساطير الغزاة الفاتحين.
انه حقا فرنسا، وفرنسا هي الاليزيه.
ديغول قال عن نفسه: "انا فرنسا، وحين قيل له لم لا تعتقل سارتر مع المعتقلين في المظاهرات الطلابية وهو الذي كان على رأسهم، اجاب، لان سارتر هو ايضا فرنسا".
ربما كان في تسميات "ديغول" واحكامه كثير من المبالغة، إلا انها اقوال لا تبعد عن الحقيقة كثيراً، ذلك ان ديغول نفسه كان رمزا لفرنسا المقاومة والصمود، وكانت اذاعته من "لندن" تبدأ برامجها بكلمة، هنا فرنسا، في الوقت الذي كانت فرنسا مصادرة لقوات الاحتلال الالمانية.
بالنسبة لجان بول سارتر، فهو وجه آخر مضيء لفرنسا، وضمير اختصر حركة الثقافة الفرنسية ومثلها بوجودية مبدعة، تركت بصماتها الكبيرة على الفكر العالمي كله.
اما قصر "الاليزيه" فانه "تاريخ فرنسا والمعلم الشاهد على حركتها السياسية، صعوداً وهبوطاً في القرون الثلاثة الاخيرة".
كان فندقا
في الاصل كان "الاليزيه" فندقا، وضع تصاميمه المهندس المعماري "موبليه" ليتم تدشينه باسم "فندق ايفرو" في حفلة راقصة غصت بالمدعوين من وجهاء الطبقة المخملية في فرنسا وعلى رأسها العائلة المالكة وحاشيتها، يتقدمهم جميعا الوصي على العرش انذاك، والذي كان عاشقا كبيرا لحياة الترف والملذات والصخب فقرر منح "كونت ايفرو" قطعة الارض المجاورة لحديقة الفندق، كي تستوعب اكبر عدد من المدعوين في المستقبل، وهكذا ظل الاليزيه يكبر ويتسع ويشهد الحفلات الصاخبة، من النوع الاسطوري الباذخ حتى استحق فعلا تلك التسمية التي اطلقتها عليه احدى نسبيات الملك لويس السادس عشر "الاليزيه" هذا الاسم الذي ظل يعرف به هذا المبنى الى اليوم وغدا.
الماركيزه تشتريه
بعد وفاة "الكونت ايفرو" صاحب الفندق قامت الماركيزه طيبة الذكر "مدام بومبادور" بشراء الاليزيه ليكون لها منزلا ومرتعا لحفلاتها الصاخبة وعشاقها الميامين. مما جعل هذه الماركيزة العاشقة اشهر من ملكة فرنسا نفسها، اليها يسعى النبلاء والوزراء ورجال الدولة، يطلبون الحب والرضى والليل.
واذا ما اصبح الاليزيه حاليا المقر الرسمي لرئيس الجمهورية الفرنسية، فانه كان في عهد الماركيزه "بومبادور" المكان الذي منه يدار الحكم فعلا، وفيه تتخذ القرارات ومنه تصدر المراسيم، وانما بطريقة غير رسمية، وهو تقليد لم يسقط عن الاليزيه، كانما قدر هذا البناء ان يكون "حاكما" لفرنسا منذ مولده، ذلك انه حكمها عن طريق الحب والغرام، كما حكمها بالملكية الوراثية، وها هو الآن يحكمها باصوات الناخبين الاحزاب.
قصر ضيافة ومطبعة
بعد وفاة الماركيزه "بومبادور" هذا الاليزيه قليلا، إذ استخدمته الحكومة الفرنسية كقصر ضيافة لكبار الزوار الاجانب، من مبعوثي الملوك والوزراء والسفراء فوق العادة، كما خص جانب منه بالحرس الملكي.
ومع أفول الملكية، اشترى احد اكبر اغنياء فرنسا المدعو "نيقولا بوجون" قصر الاليزيه، ليكون سكنا له مما جعل "بوجون" يستمد من هذا البناء التاريخي نفوذا كبيرا في اوساط الحكم.
بعد وفاة بوجون، صار الاليزيه مقرا للمطبعة الوطنية ومن ثم اصبح في وقت لاحق، "منتدى للثورة".
نابليون هناك
ومنذ انقلاب 1799، رافق الاليزيه نابليون بونابرت اعظم اباطرة فرنسا على مر تاريخها، رافق غرامياته وانتصاراته، وغصاته، ودعه في حملاته الحربية، واستقبله في العودة منتصراً، بعدما اسس اوسع امبراطورية فرنسية.
اتسع صدر الاليزيه لغراميات نابليون السرية مع عشيقاته ومحظياته، كما اتسع لعلنياته مع "ماري لويز" و"جوزفين".
الجرح الكبير
الى ان كان الجرح الكبير في خد القصر، يوم هزيمة نابليون. على اثر الحملة الروسية والجيوش المتحالفة معها في معركة "لايبزغ" عام 1813 ليرى سيده، يوقع على وثيقة تنازله، ويحمل حقائبه ويرحل الى جزيرة منفية، ليحل في اجنحة القصر، "الكسندر" قيصر روسيا ومعه فرق القوزاق التي كانت تمارس سباقات الخيل القاتلة في حدائق القصر ورقصاتها الفولكورية في قاعاته.
وسرعان ما هرب نابليون من المنفى وعاد الى باريس امبراطوراً، لكن فرحة الاليزيه بهذه العودة لم تطل فقد كانت اياما معدودة، احصاها التاريخ يوما يوما، فكانت مئة يوم، أخرها يوم "واترلو" حين انهزم الامبراطور العظيم أمام القائد الانكليزي "دوق ولينغتون".
وعزاء الاليزيه في نابليون كان في استقبال لابن نابليون من ماري لويز "نابليون الثاني" وكان معروفا باسم "ملك روما".
بعد نابليون الثاني جاء "نابليون الثالث"، ابن اخت نابليون الكبير والذي كان معروفا باسمه لويس نابليون وهو اول رئيس للجمهورية الثانية. انفق نابليون الثالث مبالغ طائلة على اصلاح الاليزيه وترميمه، واضاف اليه اجنحة كثيرة، قبل ان يتم عزله عام 1851 نتيجة الحرب الفرنسية – الروسية والتي كانت كارثة بالنسبة له ولفرنسا فاضطر لان يقضي بقية حياته في قصر التويليري الشهير.
عهد الماريشال
لم يصبح الاليزيه المقر الرسمي والدائم لرئيس فرنسا الا في عهد الماريشال "موريس ماكماهون" الذي سحق "كوميونة" باريس عام 1871 المعارضة وخصوصا معارضتها لوثيقة السلام بين روسيا وفرنسا واصدر مرسوما ينص على ان الاليزيه هو المقر الرسمي لرئيس الجمهورية الفرنسية.
بعد ماكماهون جاء الماريشال دي فرانس الذي اعاد للاليزيه فخامته وروعته بادخاله لكثير من الاصلاحات عليه وتأثيثه من ثروته الخاصة. وفي عهده استقبلت فرنسا شاه ايران، وشهد الاليزيه آنية فضية مذهبة اشتراها الماريشال وظلت في القصر الى الان.
تعاقب الرؤساء
تعاقب على رئاسة الجمهورية بعد دي فرانس كل من "جول غريقي" الماسوني وسادي كارنو وقد ادخل الاول على الاليزيه شبكة هاتفية، كما شيد الحديقة الشتوية، اما كارنو فقد انشأ عام 1888 قاعة خاصة في القصر للاحتفالات والاعياد، جهزت بتماثيل نسائية جميلة، وغطيت كل جدرانها بالرسوم الحائطية، كما نقشت بالزخارف الملونة الاخاذة. ومن السقف تدلت "ألثريات" الضخمة من طراز لويس الخامس عشر، لكن كارنو اغتيل عام 1894 في مدينة ليون ليخلفه جان كازيمير الذي لم ير في الاليزيه اكثر من سجن كبير، قضي فيه سبعة اشهر فقط ، جاء بعده فليكس فور عام 1895 الذي اعاد للقصر اجواءه الاحتفالية وبوهيميته الماضية، فكان أ,ن مات على سرير الحب بين ذراعي حبيبته، تماما كما مات اول مالك للقصر حين كان فندقا.
اول مصعد كهربائي
في عهد أميل لوبيه، استقبل الاليزيه عددا من رؤساء الدول، منهم ادوارد السابع ملك انكلترا الذي وقع في الاليزيه اول معاهدة صداقة بين بريطانيا وفرنسا.
عام 1900 وبمناسبة المعرض العالمي، شيد لوبيه مدخلا جديدا مزينا بالنقوش والاعمدة.
اما اول مصعد كهربائي، فقد تم تركيبه في الاليزيه في عهد "ارمان فاليار" الذي اضاف الى القصر ايضا عددا من الحمامات.
بعد فاليار اصبح رئيس الوزراء ديمون بوانكاريه رئيسا للجمهورية، والذي في عهده اندلعت الحرب العالمية الاولى، فسماه "بمنزل الاموات" في عام 1916 جرى تصنيف الاليزيه صرحا تاريخيا.
اما بول ديشانيل فلم يبق في الاليزيه اكثر من سبعة اشهر انتقل بعدها الى مستشفى المجانين.
بعد ديشانيل "المجنون" جاء "اليكسندر ميللران" ثم "غاستون دوموغ" الذي تزوج في الاليزيه وقضى فيه شهر العسل وهو اول من ادخل السيارة الى القصر. كما شكل اول جهاز امني في الاليزيه الا ان هذا لم يحل دون اغتياله عام 1922.
بعد دوموغ جاء "البيرت لوبران" الرئيس الدمية اذ لم يكن له من الرئاسة غير التوقيع على المراسيم كما تجيء اليه، من بينها امر بتركيب اجهزة تدفئة مركزية للاليزيه، ولعل اوجع فترة في تاريخ الاليزيه، فترة اغلاقه عام 1940 اثر احتلال الالمان لفرنسا ودخولهم باريس، فقد تجاهل الالمان "ألاليزيه" ورمزه التاريخي فظل مغلقا طيلة سبع سنوات الى ان فتحه "فانسان اوريول" الذي جعل في القصر دائرة مدنية واخرى عسكرية، وجهازا صحفيا خاصا بالقصر. وقام بتخصيص قاعات الدور الاول لاستقبال واستضافة الشخصيات الهامة مثل الاميرة اليزابيث (ملكة بريطانيا الحالية) ودوق ادنبره، الامير فيليب وشيد في القصر مطبخا تحت الارض.
خلف "اوريول" في الاليزيه، رينيه كوني، لكن احداث الجزائر قضت على مستقبله السياسي، فجاء بعده الجنرال ديغول، حيث تحول القصر في عهده الى مكان يضج بالهيبة والجدية والعدل.
بومبيدو الفن الحديث
اما صديق ديغول ورئيس وزرائه، جورج بومبيدو "فقد ادخل" الفن الحديث "ذوق بومبيدو" فاستبدل اثاث ولوحات القصر باثاث ولوحات من طراز لويس السادس عشر.
ومن اعمال ديستان في القصر بناؤه لمقر القيادة العليا تحت ارض القصر، وتشييده لقاعة خاصة باجتماعات مجلس الدفاع الاعلى، وجهاز خاص بالقوة النووية.
ميتران لا ينام هناك
اما فرنسوا ميتران، فلم يشأ كاشتراكي ان يسكن في الاليزيه، وفضل البقاء في منزله، ليأتي كل صباح الى مكتبه في الاليزيه، وقد اختار ميتران، الصالون الذهبي، ليكون مكتبا له.
انشا ميتران "مركزا هاتفيا" تحت ارض الاليزيه ويساعد ميتران في الاليزيه 550 موظفا بينهم 30 شخصا من كبار المستشارين، وممن يسكن في القصر 230 شخصا من العسكريين ورجال الامن و 65 اخرون مهمتهم البريد الجمهوري إضافة الى رهط كبير من امناء السر والاطباء والممرضين والطباخين ومساعديهم وعمال الهاتف.
كلود بومبيدو والاليزيه
الاليزيه بيت حزين، وحين تقرأ تاريخ هذا المقر تجد انه لم يكن محبوبا ابدا، كما ان موقعه وهندسته يجعلان من الصعب خلق اطار جميل للحياة فيه، لقد بذلت كل ما في وسعي لاجعله بيتا ممتعا ومحببا لانني كنت مضطرة للعيش فيه مع زوجي حين كان رئيسا.
ثم كشفت السيدة بموبيدو في حديثها لجريدة الفيغارو انها شعرت بحزن شديد حين علمت بفوز زوجها في الانتخابات لكنها في الوقت نفسه شعرت بالسعادة تغمرها من اجل زوجها الذي نجح في تحقيق طموحه. وعقبت قائلة، لم ادفعه يوما نحو العمل السياسي ولم اشجعه عليه، بالعكس لقد طلبت منه ان لا يرشح نفسه لفترة رئاسية ثانية وفعلا وافق على طلبي، لانني لا اعتبر منصب الرئاسة نهاية الطموح والحياة الخاصة.
وفي حديثها للجريدة المنشورة في 1/ نيسان 1983 اعلنت السيدة بومبيدو انها لم تتلق اية رسالة من اي من الديغوليين بعد ظهور كتابها "من اجل احلال الحقيقة" لكنها اضافت، ربما انهم عبروا عن رأيهم في الصحف لكنني لا ادري فانا لا اقرأ الصحف ابدا، واستطردت قائلة لقد دفعت بكتابي الى المطبعة بعد ان نشروا قصصهم كلها وكتبوا ما شاءوا، وطبعا لم استشرهم حين وضعت كتابي ولو فعلت لجاء الكتاب مختلفا عما جاء به وانا لا تهمني مواقفهم واراؤهم ولا يمكنهم ان يؤثروا علي.
الجنرال "بواسيو" صهر الجنرال ديغول بعث لي برسالة لطيفة وكتب لي اهداء في آخر كتاب اصدره. اما ابن الجنرال ديغول فلم يتحمس لكتابي ويشاطر بعض الديغوليين رأيهم بان الكتاب نشر لتدمير ديغول. بينما الحقيقة ان كتابي لا يقلل من قدر الجنرال بل انه يظهر الجانب الانساني فيه.
اصدقائي من رجال السياسة قلة، جيسكار ديتان التقيته يوم تولى الرئاسة، وفرنسوا ميتران دعاني للغداء على مائدته بعد الفوز وهذا شيء طبيعي وبروتوكولي.
جاك شيراك هو السياسي الوحيد الذي يهتم بمدام بومبيدو ويزورها وهي تكن له محبة كبيرة واعجابا باخلاقه الكريمة. انه رجل يحترم الصداقة ويتميز بالوفاء والكتمان وهما صفتان نادرتان، في الوقت نفسه ترفض ما يقال عن شيراك انه ابنها الروحي وتعتبر ذلك كلاما لا معنى له.
اما الجنرال ديغول فتعترف انها تأثرت به في البداية، لكن هذا الاثر تلاشى بعدما تعرفت على الجنرال عن قرب.

التضامن / حزيران- 1983