سيرة حياتي في نصف قرن لأحمد سوسة..  الملامح المعرفية في اطار الحكاية الشخصية

سيرة حياتي في نصف قرن لأحمد سوسة.. الملامح المعرفية في اطار الحكاية الشخصية

قاسم عبد الأمير عجام *
كاتب راحل
الملامح المعرفية في اطار الحكاية الشخصية
طالت قائمة مؤلفاته حتى جاوزت الخمسين عدداً فضلاً عن بحوثه ومقالاته العلمية المنشورة في الدوريات المتخصصة التي بلغت ستة عشر ومائة عدداً.انه احمد سوسة المهندس، الباحث، رجل القانون والادارة والمؤرخ.. وأنت مدعو للكتابة عنه.فماذا تأخذ وماذا تدع وقد توزعت اعماله بين الري والهندسة والزراعة والجغرافية والتاريخ والحضارات والأديان؟

أفليس الأقرب اليك ان تقود زورقك في فيض مؤلفاته ودراساته عن الري والفيضان؟ بلى. أفلست مهندساً زراعياً؟ أفلم تتلق دراسة خاصة في الري والبزل؟ أو لم تكن مديراً لاحدى أهم دوائر الري والزراعة في العراق؟ حسناً، فدونك منجزه الأقرب لما انت فيه من اختصاص ولما عملت فيه باحثاً ومديراً. اجل، وتلك رغبة فيك منذ اطلعت على عالمه المعرفي الواسع.ولكن كيف، وما بين تكليفك بالكتابة وموعد الحلقة الدراسية التي ستقدمها اليها زمن لايكاد يكفيك لمجرد مراجعة بعض أعماله؟اجل، وليست مبالغة تلك.. فقد اصدر في قضايا الري مؤلفات عديدة، كبيرة منها: «المصادر عن ري العراق – 1942»،»وادي الفرات - ج1، ج2- 1944، 1945 «،»تطور الري في العراق- 1946»،»ري سامراء في عهد الخلافة العباسية، بجزأين –1948»،»فيضانات بغداد في التاريخ، بثلاثة اجزاء - 1963، 1965، 1966 « و»الري والحضارة في وادي الرافدين – 1968».
هذا باللغة العربية، وباللغة الانجليزية اصدر «دليل ري العراق -1944»،»الري في العراق - 1945 « و»سدة الهندية: تاريخها، تصميمها، عملها –1945 «. بل وانه إذ نظر في «تاريخ حضارة وادي الرافدين» فقد درسه» في ضوء مشاريع الري الزراعية والمكتشفات الاثارية والمصادر التاريخية» فكان كتابه الكبير بجزأيه عام 1983 مما يشير الى تعمقه في قضايا الري هندسة وفلسفة وتأثيراً مما يفرض على اية دراسة لمنجز احمد سوسة في تلك القضايا ان ترقى اليه، أو على الاقل ان تقف على ضفافه وقفة مستوعب مدرك لامتدادها.
وليس متاحاً الاتيان بدراسة لتلك في وقت محدد تنهش فيه التزامات العمل الذي تكتسب من خلاله قوتك.ولكن لا مناص من ملامسة احمد سوسة.. فانت تريدها لنفسك قبل ان تفي لما كلفت به، فلتعد الى مذكراته لعلها تلهمك وسيلة ما، وأنت تعلم مذ قرأتها أول مرة، ان فيها ما يميزها.
وعدت. عدت اليه يقول:
«ان سيرتي هذه تختلف عما اعتاد القارئ ان يطالعه من السير والمذكرات السياسية المألوفة فانا لم اكن من أصحاب المعالي والفخامة ولا طمحت في يوم من الأيام ان اصل الى هذه المناصب السياسية في حياتي فانصرفت كلياً للبحث والتتبع منذ ان وطأت قدماي ارض الوطن بعد العودة من الدراسة في خارج العراق قبل حوالي خمسين سنة مستغلاً وظيفتي اقصى حدود الاستغلال في هذا المجال بعيداً عن الجو السياسي المشحون بالنفاق والرياء» ص35.
وقوله حق. فهي مذكرات معرفية أكثر منها سيرة حياة، مع ان مساحتها تمتد في الزمان لعقود عديدة. وتمتد في المكان من الحلة في العراق الى شماله، وباديته ثم الى كل مواقع الحضارة فيه.. ومنه الى الشام وبيروت بالذات. ومنها الى الولايات المتحدة طولاً وعرضاً مروراً بأوربا في الذهاب والاياب.. براً وبحراً. وكل أولئك أسس لسيرة يمكن ان تحشد بالوقائع والحكايا والمشاهد.
لكن ما كتبه في «حياتي في نصف قرن» الصادر في بغداد 1986 عن «دار الشؤون الثقافية» شيئ آخر، لم ينشغل بوصف ما رأى الا بقدر ولا باسترجاع ما عاشه، أو موقف وقفه الا بقدر.. وهو قدر صلته بانشغاله المعرفي وبمواقفه التي تنبع منه مما يسمح بالنظر اليها كسيرة معرفية وهو ما نحاوله في هذه القراءة.
ونسأل.. هل يعني قولنا ان مذكرات احمد سوسه مذكرات معرفية لا ترسم صورة له؟أبداً.. بل نزعم اننا نستطيع ان نرسم صورة للرجل من خلال ما رواه عن اسرته وتربيته. وما رواه عن ميوله المعرفية وما كتبه وما ناقشه بشكل خاص. ولا غرو، فاننا ممن يؤمن بان قيمة الإنسان ما يحسنه.. وان الإنسان عمله وإننا على مذهب الامام علي بن ابي طالب (ع) إذ يقول: «تكلموا تعرفوا».
وعلى ذلك، وقد تكلم الرجل، نزعم اننا من خلال مذكراته هذه نرى كاتبها وعمله مما يسمح ان نقرأها من خلال محورين رئيسين:
اولاً: صورة المؤلف ومكونات شخصيته.
ثانياً: الملامح المعرفية للمذكرات.
***

اولاً. صورة المؤلف ومكونات شخصيته
نزعم ان القارئ المتدبر لـ»حياتي في نصف قرن» لايستطيع ان يرى صورة احمد سوسة فقط، وانما يجد صورة العراق ومجتمعه المفعم بالسماحة تحيطان به من خلال الحلة.. مدينته ومهد صباه، ولعلنا لا نبالغ إذ نقول ان صورة العراق هي المرآة الواسعة، التي تحتضن ضمناً صورة المؤلف المتحدث.
فنحن من خلال سطوره نتحرك في مجتمع متماسك بقوة.. متسامح لا يعرف التمييز بين ابنائه مبرأ من التعصب والطائفية حتى ليبلغ ذلك التسامح والتماسك حداً لا يشعر فيه ابن الاقلية الدينية انه منها، أو ان ثمة ما يشير الى انه يحس بذلك، ولذا يتساءل مستغرباً وهو ابن سبع أو ثمان سنين إذ سمع بنبأ تحول عمه (شاول) من اليهودية الى الاسلام ما هو الفرق بين اليهودي والمسلم ألم اكن اعرف شيئاً عن المسيحية؟ الم يكن رفاقي كلهم من المسلمين؟ الم نكن كلنا عرباً؟ « ص71.
حقاً انه يشير الى حزن عائلته لذلك النبأ، لكنه يرى ذلك نتيجة هيمنة احبار اليهود وكابوس تعصبهم! والا فان الظرف الموضوعي المحيط بالاسرة لا يشي بأنها تعاني من شيء يدخل في باب التمييز الديني إذ كان والده، لصدق تعامله، «محبوباً لدى عارفيه» وكانت له منزلة ذات شأن في المجتمع حتى عين عضواً في مجلس إدارة اللواء» ص107. وكان موكلاً بشؤون الزراعة في اللواء (المحافظة) مما اتاح لولده، صاحب المذكرات، ان يتعرف عن كثب على المزارعين ورؤساء القبائل واخلاقهم وطريقة معيشتهم مما سمح لمعرفته تلك ان ترسم في نفسه صورة الحياة العربية الاصيلة بما في ذلك المبادئ الاسلامية ص108.
ومصداق ذلك احساسه بالامان والانغماس بالميل العام ونبض الوسط الذي عاش فيه مما جعله «محباً للانسانية» «احب ما احبه العرب واميل الى حيث اتجهت ميولهم ورغباتهم وامانيهم في الحياة حتى أصبحت شغفاً بركوب الخيل العربية (ص108- 109)، ولا يمر يوم إلا ويقضي فيه «ساعتين أو ثلاثاً أو أكثر على ظهر فرسه بين باحات المزارع والترع مرتدياً العقال والعباءة.. وانه ليقر بمنتهى السعادة «ان كل أسباب لهوي حاصلة وفق رغباتي وميولي ص 109، وان عائلته إذ تحقق له جواً اسرياً راقياً فلاحساسها هي الاخرى بالامان والثقة بالمستقبل مما امن لابنائها ذلك الاستقرار والاحساس بالانتماء للمحيط الذي نشأوا فيه. وهي نشأة تهيء للمزيد من الانتماء.
بل وانه لانتماء راسخ تجلى في مراحل تفتح الوعي، والنضج كما عبرت عنه مرحلة دراسة احمد سوسة في الجامعة الاميركية في بيروت، وانغماسه بنشاط الطلبة العراقيين الذين يواصلون شوط السماحة الدينية في دائرة الوطنية فيمنحون زميلهم ثقتهم بانتخابه عضواً في هيئة إدارة جمعيتهم، ويمنحهم حبه مجدداً ويفيض ثقة بمستقبل وطنه الذي يحضن ابناءه وهو يتقدم بهم، ولذا يحث زملاءه على التقدم العلمي متخلقين «بافضل الاخلاق حاملين بين جنبينا سريرة نقية طاهرة نقدمها هدية الى وطننا المحبوب فننشأ إذ ذاك - المحمدي والموسوي والمسيحي- متحدين لغاية واحدة متمسكين بقوميتنا بعيداً عن التعصب المذهبي أو الديني» ص 134.
وانه إذ يقتنع بذلك التوحد الوجداني في حب الوطن، لا يكتفي بالحث عليه، وانما يحرسه حتى من مجرد وخزة خفية من خلال الانحياز لاحدى الطوائف - حتى ان كانت طائفته- كما رآه في ممارسة جريدة «المصباح» التي صدرت في بغداد بتاريخ 10/4/1924 ورئيس تحريرها انور شاؤول وهي «تحتضن اخبار وحوادث طائفة معينة (الطائفة اليهودية) في حين اننا كلنا عرب في وطن واحد» ص135.
ولذا يكتب اليها يعيب عليها انحيازها ذاك واصفاً اياها بانها «مصباح يعكس شمس العنصرية» منطلقاً من قناعته بوجوب مشاركة الجريدة «مجموع ابناء الوطن بافراحه واتراحه، وان التفرقة والتعصب يحولان دون تقدمنا ونهضتنا» ص136.
وان الرابطة القومية والاتحاد الوطني هما السبيل للنهوض والتقدم رقياً الى قمم المجد.
اما ادعاء الجريدة بتعبيرها «عن شعور الإسرائيليين في العراق» فهو مجرد ادعاء يتوهمه صاحبها والا فان «الاسرائيليين في ارياف الرافدين عراقيون اعراب فلم يركنوا الا تحت ظل وحدة الوطنية العراقية « ص 137.
هكذا إذن، ان طفولة سعيدة آمنة، في وطن جميل مترع بالحب إذ أثمرت نفوراً من التعصب وتمسكاً بالتسامح فانها هيأت وجداناً متفتحاً لاستقبال الزاد المعرفي والتعامل مع الواقع وحقائقه دون عقد او مواقف مسبقة، وهيأت مهاداً مناسباً لروح البحث العلمي ونشوء باحث لاتأخذه في الحق لومة لائم... وما ذلك الرد على «المصباح» الا ممارسة مبكرة لقول الحقيقة والرد على مايراه انحرافاً.
وانك لتحس بان تلك الروح تنمو مع نموه العمري.
فاذ يتيح له موقع والده الاداري الاطلاع على العلاقات الزراعية، ورموزها فانه يرصد ملامحها دونما تأثر بمكانة والده فيسجل على النظام الاقطاعي:
-قسوة الجندرمة على الفلاحين.
-تخويل الملاكين سلطات الادارة، بل وتزويدهم بافراد من الجندرمة يمارسون قسوتهم خدمة لمصالح الملاك.
-عدم تدخل الحكومة بتقسيم الحاصل وانما تتركه للملاكين ووكلائهم بما في ذلك تخمين حصة الحكومة ذاتها.
-عدم استطاعة الفلاح الاتصال بالسلطات الا عن طريق الملاك!ص112.
وإذ تتيح له تربيته المتفتحة تلك حرية التنقل في ربوع مدينته وضواحيها وآثارها التاريخية متنقلاً بين آثار بابل وآثار كيش فلتغرس فيه حب البحث التاريخي، الى جانب التعلق بالوطن نفسه وتعميق جذوره في تاريخه.
وهكذا رأيناه يتذوق طبيعة بلدته/وطنه ويقبل على الحياة محباً لها محباً لاكتشاف حقائقها متحمساً لتجديدها في الوطن مستمداً من تاريخه العريق العزم والحماس للتقدم، وصلاً للحاضر بالماضي، وهو ماحكم كل خطاه اللاحقة فيما بعد.
ان نفوره من قسوة الجندرمة وسيطرة الملاكين وتذوقه المعالم الطبيعية اولى الملامح التي تكاملت مع غيرها مما سنقف عنده لتشير الى رقة احمد سوسة وحبه للجمال ودفء الحياة الهادئة.(تحدثت ابنته الدكتورة عالية في الجلسة الاولى للحلقة الدراسية الخاصة به قبل تقديم هذا البحث فتوقفت عند رقته وصور مما رأته فيه اباً ورب اسرة).
وهكذا يكون متوقعاً او منسجماً مع هذا التكون ان يجد في استشهاد أبناء الحلة في ثورة العشرين وبسالة صمودهم بوجه القوات الانكليزية الغازية دفاعاً عن ذلك الامان والهدوء اللذين ينعم بهما وأسرته «فكانت أخبار النصر تقابل بسرور عظيم وفرح عميق. وكم كان سرورنا حين جيء بالاسرى الانكليز وكلهم في سن الشباب فاحتجزوا في بلدة الكفل وعني بهم أحسن عناية، وقد زاد انتصار الثورة في اضرام الحماس وانطلاق النفوس في سبيل تحقيق الاماني الوطنية» ص118
3-التحصيل العلمي والخدمة الوطنية:
ماذكرناه عوامل أساسية لان يربط بين التحصيل العلمي وبين الخدمة الوطنية وان يقبل على الدراسة بحماس، واننا نستطيع تلمس ذلك الحماس عبر شوطه الحياتي كله، ونلمسه ابتداء من خلال كلماته التي ألقاها في اجتماعات الجمعية العراقية بالجامعة الاميركية عامي 1924 و 1925 ومشاركاته في المباراة الخطابية التي اقامتها الجامعة (ص138-152) غير أنه ليس حماساً عاطفياً مجرداً وانما هو حماس لاغتراف العلم والحث عليه وربطه بالمهام الوطنية إذ يقول «ماأشد حاجتنا الى التجدد فيها (في اقتصاديات البلاد) وماأشد حاجتنا الى ثورة صناعية تذهب باسباب التخلف نبني عليها معامل تديرها شركات وطنية يعضدها روح وطني واخلاص قومي»ص142.
ويلاحظ ان احمد سوسة في تلك الخطب قد استثمر صيغ النداء موجهاً كلامه للمستمعين، وصيغ الاستفهام وأفعال الامر تعبيراً عن ذلك الحماس وسعياً لاشراك المتلقي في الخطاب وتعميقاً لما فيه من دعوة... فضلاً عن استثماره لابيات شعرية تناسب المقام. ناهيك عن انه سعى لاشباع موضوعاتها نقاشاً وتقليباً للفكرة كخطبته عن التضحية... إذ نجد في خطبه تلك استشهاداً بوقائع تاريخية او شخصيات او عرضاً لملاحظات واقعية مما يشير الى متابعته الثقافية ووصله المحلي بالعالمي.. وفي كل تلك الخطب والتحرك الجامعي، ينال التحصيل العلمي وربطه بخدمة الوطن اهتماماً فائقاً.
هذا الذي أسمينها حماساً معرفياً وتلمسنا بداياته في بدء دراسته في جامعة بيروت الامريكية، كان القاعدة التي استند اليها سعيه وتحصيله الجامعي في اميركا، وكان من تجلياته استثماره للدورات الصيفية اختصاراً للزمن وتنقله بين اكثر من جامعة اميركية، إذ درس في سبع جامعات حصل منها على ثلاث شهادات علمية.. فهو دكتور في الهندسة المدنية متخصصاً بالري وماجستير ثم دكتور بالقانون الدولي مختصاً بالانظمة الدولية الخاصة بالانهر المشتركة بين الدول.
ويعزز مانذهب اليه من وعي الرجل لارتباط التحصيل العلمي بالمهام الوطنية اختياره لتخصصه، فقد اختار التخصص بالري لمعرفته باهميته لبلد زراعي كالعراق، ولارتباط حضاراته الكبرى بالزراعة والري، وإذ اختار تخصصه في القانون الدولي ونظم العلاقات الدولية المتعلقة بالانهار، فلأن انهار العراق الكبرى ذات منابع خارجية في تركيا وايران وتمر فيهما وفي سوريا.
ويعززه أيضاً تأكيده على ان دراساته تلك مجرد وسيلة لتحقيق هدف هو المساهمة «مع العاملين في اصلاح شؤوننا واعلاء شأن عراقنا الحبيب» ص189.
4-يقظته العقلية: لعل ابرز معالم هذه اليقظه عدم انبهار احمد سوسه بالمجتمع الاميركي بالرغم من الفارق بين محيطه المحلي وبين ذلك المجتمع المتمدن.
بل ان رؤيته النقدية للعديد من ملامح هذا المجتمع تؤكد رسوخ المعيار العلمي في نظره الى الظواهر مع بقاء مرجعية الهدف... فهذه مدينة الغرب كما يقول:
«رأيت فيها غروراً جنسياً (ويقصد عنصرياً) يعزل فيها الابيض عن الاسود والغربي من الشرقي وماكنت عرفت في وطني غير المساواة» ص189 «رأيت ناطحات السحاب وسواد الجو يعمي الابصار. رأيت الناس تركض ومراميها التمويل. رأيت القوي يستعبد الضعيف. رأيت غاصباً ومغتصباً ظالماً ومظلوماً، غنياً يتباهى بمنتوج مدنيته الحديثة وفقيراً يتضور جوعاً ومااكثر مشاكل المدنية الحديثة القائمة على المادة»ص189. ولاشك في ان النجاة من الانبهار بذلك المجتع، في تلك الفترة خاصة، مقياس دقيق كما نزعم لقوة الشخصية ووضوح الرؤية.
ولعل هذه القوة هي التي تفسر لنا معالجته لعلاقته مع المرأة في ذلك المجتمع، وهي المعالجة التي اجتمع فيها تطلعه الثقافي ومرجعياته الاخلاقية التي اكتسبها في وطنه... ولذا كان يحسم في الوقت المناسب ويضحي في الوقت المناسب ليبقى الوطن حاضراً في الوجدان والاختيار، وهو مارأيناه في الفقرة (7) من الباب الثالث المخصص لدراسته في امريكا والتي عنونها بمغامرات غرامية (ص ص191-215).
5-منجزه المعرفي
ولقد تجلت قوة الشخصية اكثر ماتجلت في شخص احمد سوسه من خلال منجزه المعرفي باحثاً ومناقشاً.. ومن هنا ندخل في الجانب المعرفي من شخصيته، ولا تزال مذكراته دليلنا ومرجعنا غير ان استنادنا اليها لايمنعنا من استحضار شخصية الباحث الذي عرفناه لنقول ان حماسه وقوة شخصيته قاداه الى التفوق الدراسي وقاده هذا الى النجاح العلمي فنياً وادارياً، واغتنى نجاحه هذا مستنداً الى حس بالمسؤولية الوطنية، بالجهد البحثي وماأثمره من اكتشافات وتوصلات.
وكل اولئك جعلت النهج المعرفي وروح البحث العلمي بعضاً من سجايا احمد سوسه الثقافية والشخصية أيضاً، حتى اذا جلس وهو في شيخوخته يستعرض شوطه الحياتي ويستحضر منه محطاته البارزة، حضر معه الخزين المعرفي الذي صار له فتدفق بأسلوب البحث العلمي وطرائقه فتداخل مع الذكريات وسرد السيرة الشخصية، بل وغلب عليها في أغلب متن هذه المذكرات.
وبهذا نحن الان على التخوم الواقعة بين سمات الباحث كاتب المذكرات وسمات المذكرات المعرفية وهو محور دراستنا الثاني.
واولى سمات الباحث احمد سوسه وأبرزها انه مضى الى البحث العلمي في المجالات التي درسها انطلاقا من محفز شخصي مما جعل بحثه او منجزه المعرفي يعبر عن الذات والموضوع معاً، انه في منجزه المعرفي يحقق ذاته صعداً في كل بابٍ بحث فيه انطلاقاً من مكونات شخصيته.
فهو ينص في هذه السيرة على ان ثلاث قضايا خطيرة شغلته في صباه وفتوته، وقد أثمرت كل منها عن منجزله عما كان لها من أثر في بناء شخصيته الثقافية وهي حسبما يوردها:

آ.التحول الى الاسلام
احدث تحول عم احمد سوسة الى الاسلام صدمة في أسرته واشاعت فيها حزناً تركا في نفسه دهشة واحساساً بوقوع كارثة لا يدركها مما اثار فيه تساؤلات راح يسعى للاجابة عليها بالاقبال على دراسة الاديان وتاريخها منذ دخوله الجامعة الأمريكية حتى انتقاله الى جامعات أمريكا إذ تفرغ (صيفية كاملة في دورة لدراسة تاريخ الاديان وعلم اللاهوت على أشهر استاذ في جامعة شيكاغو) وقد اثمر ذلك التتبع عن:
1بحث موجز عنوانه «دراسة مقارنة بين الاسلام والمسيحية» ورد في المذكرات (ملحق رقم 1) وكان أول بحث وضعه في الاديان خارج دراسته المتخصصة (الهندسة).
2وقاده بحثه المستمر في الموضوع الى ترسيخ اعتقاده بان الاسلام (يجمع بين الديانات السماوية) فاختاره (عن عقيده وايمان ومعرفة) ص30 وصولاً الى اعتناقه الدين الاسلامي رسمياً في 27 تشرين أول 1936.
3اصدار كتابه «في طريقي الى الاسلام» بجزأيه.
4 ثم مضى به البحث صعوداً الى كتابه الضخم «العرب واليهود في التاريخ»
ولشدة تأثير هذا الكتاب وأهميته في موضوعه، حاولت الصهيونية شراء عدد كبير من نسخة لاتلافها!ص30
5دراساته المبكرة عن القضية الفلسطينية والصهيونية المنشورة في المذكرات كملاحق (ملحق 2 وملحق 3).

ب. مشروع ري سدة الهندية
كان هو الحدث الثاني الذي اثر في حياة احمد سوسة، وهو يروي لنا تفاصيل ذلك في سيرته ابتداء من الدواعي الفنية للتفكير بهذا المشروع حتى افتتاحه رسمياً في 12/12/1913 وحضوره الحفل، ثم متابعته، وهو يمتطي فرسه، أولى دفقات الماء عبر السدة في شط الحلة حتى وصول الماء مدينة الحلة وكيف كانت فرحة الناس به بعد ان كانوا مهددين بعطش قاتل.
نقول كان لهذا اليوم والمشروع اثرهما العميق في نفس الفتى، تبلور بان يتمنى ان يكون مهندساً مثل ويلكوكس»- المصمم والمشرف على تنفيذ المشروع- كي يقوم بمثل ما قام به. وإذ تحققت امنيته فصار مهندساً بل، ومختصاً بالري، فانها تحققت بشكل أكثر تفصيلاً حين اصبح «مديراً لمنطقة ري الفرات المسؤول الأول عن إدارة مشروع سدة الهندية) ص33. غير ان الحدث وآثاره قد اسفرت عن اهتمامه (احمد سوسة) البالغ بدراسات الري والتوجه نحو بحث موضوعاتها وتصاميمها فأنجز الدراسات التي اشرنا في مقدمة هذه الدراسة بما فيها كتابه عن سدة الهندية نفسها الذي اشرنا اليه، وكان باللغة الانكليزية، والى هذا الكتاب نفسه يحيل القارئ في كتابه «تطور الري في العراق» حين يتحدث عن سدة الهندية ضمن حديثه عن مشروعات ري الفرات.
ان ارتباط هذا التوجه نحو دراسات الري وقضاياه وتاريخ فيضاناته بفتوة الباحث ومتطلبات مدينته.. موطن صباه ونشأته، اضفى على دراساته تلك من صبر الباحث ورغبته في الدرس عمقاً وشمولاً، وفتحت بدورها الباب واسعاً على مقومات الحقيقة التاريخية التي ترى ان الري والزراعة أساس الحضارات العظيمة.

ج. ولعه ومعايشته للآثار التاريخية القريبة من الحلة (بابل وكيش)
لم تتمثل تلك المعايشة بزياراته المستمرة لتلك المواقع الآثارية فقط وانما كانت جدران البيوت في الحلة مبنية من آجر مقالع من بنايات بابل الضخمة وهي تحمل اسماء ملوكها، فضلاً عن لقائه باوائل المنقبين في تلك المواقع.
بذلك كان الحس التاريخي بحضارة وادي الرافدين ينمو معه ويتحول الى مكون من مكوناته المعرفية حتى كتابه الضخم «تاريخ حضارة وادي الرافدين في ضوء مشاريع الري الزراعية والمكتشفات الآثارية والمصادر التاريخية» / دار الحرية - 1983 فضلاً عن دراساته الاخرى:»حضارة وادي الرافدين بين الساميين والسومريين»و»
تطور الحضارة العربية عبر العصور».
ويلاحظ ان ربط الحضارة بالزراعة والري في دراساته التاريخية لايعبر عن حقيقة موضوعية فحسب وانما يستجيب لمكون آخر من مكونات شخصية احمد سوسة هو ولعه بالري والزراعة ودراساته في مجالاتها المختلفة كما رأينا في المكون الثاني.

ثانياً. السمات المعرفية في المذكرات
لم نعدد تلك الثمار المعرفية لمكونات شخصية احمد سوسة كجزء من صورته فحسب وأنما، وكما اشرنا، هي تخوم بين صورته وصورة مذكراته.. سيرته هذه كنص مكتوب. إذ ترددت موجاتها واصداء مضامينها عبر هذه السيرة باكثر من صيغة كما نرى فيما يلي:

آ الدراسات وكتابات الرأي الواردة في المذكرات
وهي عديدة وتمثل ابرز السمات المعرفية للمذكرات.. ومن ابرزها تلك الدراسات:
1- تاريخ يهود العراق القديم /ص ص 79- 103.
2- دراسة مقارنة بين الاسلام والمسيحية / ملحق 1 ص- ص 219- 244.
3- فلسطين بين العرب والصهاينة /ملحق 2 ص ص 243- 247.
4- القضية الصهيونية والروح العربية/ ملحق 3 ص ص 249 - 258.
5- كلماته وخطبه التي القاها في ندوات ومؤتمرات الجمعية العراقية لطلبة الجامعة الأمريكية في بيروت.
ففي دراسته «تاريخ يهود العراق القديم» يتعانق اهتمامه بالاديان باهتماماته التاريخية عبر قراءة متأنية للوقائع التاريخية والآثار. ولعل العنوانات التالية تشير الى ذلك:
- اقدم وجود لليهود في شمالي العراق.
- اليهود في الاسر في آشور.
- امارة حدياب في آشور.
- بقايا يهود كردستان العراق وتهجيرهم الى إسرائيل.
- اليهود في الاسر في بابل.
- هجرة اليهود العرب من جزيرة العرب الى الفرات الأوسط.
- اليهودية في جزيرة العرب.
- عروبة يهود الجزيرة العربية.
- صلة يهود جزيرة العرب بفلسطين.
- تهجير يهود العراق.
وتشير الى نزعته في اشباع الموضوع الذي يدرسه والإلمام بجوانبه وهو ما سنقف عنده ثانية في السمات المعرفية الأخرى.
ب التعريف الوافي بالمكان والزمان:
ويتخذ في المذكرات أكثر من شكل:
1- السرد التاريخي لاصل الواقعة موضوع البحث. وابرز تطبيق لذلك عرضه لتاريخ أسرته، إذ كان يستطيع ايجازه بعدة سطور لكنه طاف بنا من الجزيرة العربية حيث القبائل العربية المتهودة ومنها قبيلته (آل سواسة) في اليمن الى هجرتها الى الشام وتونس وبلاد الرافدين فمر على المدن التي اقامتها تلك القبيلة والنشاطات التي مارستها وصولاً الى استقرار اسرته في الحلة والصقلاوية بالعراق مروراً ببغداد. بعد ان كان قد وقف عند شيء من تاريخ اليمن وقبائلها وامر الخليفة عمر بن الخطاب بتهجير القبائل المتهودة وتعويضهم عن أراضيهم. والعلاقات الزراعية السائدة في المناطق التي هجرت اليها. ووقف عند حقيقة المعتقد الديني للقبائل العربية المتهودة معتقداً انه نوع من التحزب أكثر منه عقيدة دينية. فكان ذلك طوافاً في التاريخ والجغرافية.. وكانت دراسته تاريخية - جغرافية أكثر منها توثيقاً لأصل الأسرة وانها ملمح بارز من ملامح روح البحث في المذكرات (ص ص 52 -70).
2التعريف بالمكان او الوقائع / الاشخاص من خلال الهوامش
وهي هوامش مشبعة بما يتعلق بموضوعها من تاريخ وجغرافية والمنجز الحضاري المتصل بالمكان. او المنجز المعرفي المتصل بالشخصية دون اغفال للمصادر التي درست موضوع الهامش.. والحق انها متون موازية للمتن الرئيس اكثر منها هوامش.
وكمثال لذلك الجهد المعرفي الذي حملته تلك (الهوامش) نقف عند تعريفه بموقع تل حلف/ هامش ص84:
«تل حلف: تل اثري يقع في شمال سورية على بعد خمسة كيلومترات جنوب غربي رأس العين قرب منبع الخابور. يرجع تاريخه الى الحقبة الممتدة من حوالي 4800سنة الى سنة 4200 قبل الميلاد. وتمثل اثار تل حلف عصرا من العصور الثقافية التاريخية يتميز بها، وقد سماه علماء الاثار عصر حلف وهو اول ادوار العصر الحجري المعدني لتميزه عن بقية الادوار التاريخية. وقد اصبحت منطقة تل حلف في منتصف الالف الثانية (ق.م) ضمن دولة ميثاني الحورية ثم اخذ الاراميون موضع هذا التل في القرن العاشر قبل الميلاد لبناء عاصمة لاحدى ممالكهم المسماة (بيت بحياني) عليه، كانت تسمى (جوزانا)».
او كالهامش الذي يعرف بالمذهب النسطوري الذي صبأ اليه اليهود الذين تنصروا قبل اكثر من 1500عام، اذ لم يكتف بموقعه من المسيحية، وانما اشار الى ابرز منطلقاته ومواقع انتشاره وتاريخه.. الخ../ هامش ص86.
ان تلك الهوامش شهادات عن انغماس كاتبها في البحث ويقظته وتركز انتباهه الى جوانب هذا العالم الهائل الذي حقق فيه ذاته.. حتى اذا جاء للحديث عن حياته لم يجد ما يتحدث عنه، بعد ولادته وطفولته واسرته، سوى هذا البحر الواسع من قضايا التاريخ ورموزه وحقائقه وكيف تفتحت شخصيته في خضمها.
ونستطيع ان نجد امثلة لهذه النزعة المعرفية في التعريف والاحاطة بما يتحدث عنه حتى ضمن ذكرياته عن دراسته في الولايات المتحدة كتعريفه بالامكنة وصفا وتاريخا.
-تعريفه بالعادات والمسميات.
-تعريفه بالانظمة الدراسية او ببعض الاعراف الحياتية.
وفي كل ذلك يضع الذات ضمن محيطها الاوسع.
ج تعامله مع المصادر:
على كثرة المصادر التي يشير اليها فيما انجزه من دراسات، الا انها لا ترد كوسيلة للتوثيق فحسب، وانما يتعامل مع الكثير منها بروح نقدية تمتد من محاورتها الى رفض بعض ما يرد فيها كلا او جزءاً، او ان يقيم بين عدد منها او عدد من الروايات والبيانات مقارنات اذا كانت قد تناولت الموضوع نفسه أو أشارت اليه او دارت حوله كلما كان ضروريا.
وتشير بعض مناقشاته وهو يعرض هذا المصدر او ذاك.. او يورد هذه الواقعة او تلك أو هذا الرأي او ذاك الى سعة قراءاته ويقظته في تلقي ما يقرأ.. كمناقشته أدعاء اليهود بان تاريخهم يرجع الى عهد ابراهيم الخليل (ع) (4000 سنة ق.م) او ان عددهم حين هاجروا معه من العراق كان 4000 نسمة/ص82 وكمناقشته في دراسته المقارنة بين المسيحية والاسلام لمن رمى الاسلام بما ليس فيه ص-ص 217-242.
وايا كانت ردود الباحث على من لا يتفق معهم فانها تبقى مناقشة معرفية رصينة تتسلح بالوقائع والاستقراء والاشارة الى المراجع البديلة، فتقدم بذلك سنة معرفية في تقاليد المناقشة العلمية وآدابها.
د اعتماد الصور والمرتسمات في متن السيرة:
كثيرا ما نجد صورا في مذكرات الساسة او عدد من الشخصيات العامة وكثيرا ما تأتي كملحق للمتن، لكن احمد سوسة في سيرته هذه استثمر الصور والمرتسمات ايضا، ومعرفيا فوزعها ضمن المتن لتكون شاهدا يوثق الواقعة ويعمقها مما يشير الى انتباهه لصلة الصورة بالمتن. ولذا يحرص على فهرسة تلك الصور والمرتسمات بجدول فهرسة لكل منها.
هـ الاستشهاد بالشعر والمأثور وتوظيف التاريخ:
اول استشهاد بالشعر في هذه السيرة نجده في كلمة صاحبها التي القاها في اول اجتماع للطلبة العراقيين في الجامعة الامريكية ببيروت عام 1924 موظفا اياه للحث على الاعتبار بالماضي واستخلاص دروسه. وقد تكرر ذلك في كلمة اخرى يحث فيها على تحرير المرأة واشراكها في نشاط المجتمع (ص142)، وفي كلمة ثالثة عام 1925، ثم وهو يتحدث عن بعض وقائع حياته.
وتلك ممارسة تشير لا الى نزوعه الادبي فحسب وانما الى وعي احمد سوسة بما للشعر من قوة تأثير واقرار بدوام ما فيه حكمة او عاطفة. ولذا يستحضره وهو يتذكر حبة المبكر.. ويستحضر الشعر وهو يتجرع لذعات الشوق الجارف الى ولده (ص213) ويستحضره وهو يودع ذكريات شبابية وقد كبر (ص214).
ولعل اثباته لقصيدة الشاعر جميل صدقي الزهاوي التي القاها في دار حزب النهضة العراقي ببغداد عام 1925 في مذكراته عن يوم 18/4/1925 رثاء للامام مهدي الخالصي (ص157-159) تعبير اخر عن ثقته بقدرة الشعر لا على التأثير فقط وانما على التوثيق ايضا، يعزز ذلك استشهاده بالشعر وهو يدرس قضية «هجرة الساميين من بوادي الجزيرة العربية الى اقاليم الهلال الخصيب واعمارها واستمرار الهجرات عبر العصور». ويبرر ذلك الاستشهاد بقوله ان الشعراء هم خير من يعبر عن شعور الناس بالاحداث العامة»(1).
ولعل ايراد ذلك الشعر في مقام دراسة قضية تاريخية مهمة يعمق ما يراه للشعر من قوة توثيق ولذلك يستشهد حتى بمقطع من الشعر الشعبي من لون (الأبوذية) الذي ردده الناي ابان الاحتلال الانكليزي للعراق في اشارة الى عمق معايشته للاحداث وتذوقه للشعر المعبر.
على ان الشعر لم يكن المأثور الوحيد الذي استثمره في هذه السيرة وفي دراساته الاخرى اذ تجد استشهادات بآي القرآن الكريم ونصوص من الكتب المقدسة في موارد مختلفة واقوال للامام علي (ع) وأقوال مأثورة لغيره مستنبطا منها ما يمنح موقفه من القضية التي يتناولها قوة او يتخذها وسيلة لزيادة قدرته على الاقناع.
وفي هذا الاطار نضع تصديره لسيرته هذه بكلمات لتوماس جيفرسون عن حماس الشيخوخة للتسجيل والتوثيق بينما ليس في العمر ما يكفي، ليعبر بما يحسه هو.
اما الوقائع التاريخية فهي دائمة الحضور لديه للاستشهاد بها كاستشهاده بما كتب او قيل عنها. تجد ذلك في سيرته هذه كما تجده في كتبه ودراساته التاريخية وسفره الضخم (تاريخ حضاره وادي الرافدين..) يعج بهذه الممارسة.
ان تلك الاستشهادات لا تنم عن حافظة واسعة يقظه فقط وانما هي بشكل او بآخر احالات توسع افق المتلقي وتغريه بالتوسع وارتياد آفاق معرفية جديدة.
و - الفهرسة التفصيلية للمحتويات
وهذه ممارسة معرفية اخرى نقلها احمد سوسة من تقليد اكاديمي تلتزم به الاطاريح والرسائل الجامعية، الى كتبه وابحاثه التي يفترض انها تتوجه للقارئ المختص والقارئ العام، وانه هنا ليسحب ذلك التفصيل في فهرسة المحتوى الى فهرسة الصور والمرتسمات ايضا، بل ويضيف اليها اشارات تربطها بالمتن، وان يأتي ذلك في هذه السيرة كما يأتي في كتب البحث فلا حساسية بما تؤديه كتب السيرة من دور معرفي وبالتالي بما تتطلبه من تقنيات البحث المعرفي.
والحق ان تفصيل الفهارس، لا سيما فهارس المحتويات ومحتويات كتب احمد سوسة شاهدنا هنا - يساعد القارئ على:
-تكوين فكرة عن موضوعة الفصل الواحد ويوسعها الى موضوعة الكتاب والبحث كاشفا عن علاقات الاجزاء بالكل.
-ويدرب المتلقي على المنهجية العلمية في الاقتراب من الموضوع ومعالجته..
-الكشف عن منهج الباحث واحاطته بالموضوع.
وحين نجد ذلك الكتاب للسيرة فليس الا لان كاتبها يرى في السيرة جهدا معرفيا ولذا يستوفيه بوسائل البحث وطرائقه وأدواته. وتلك ملامح مشتركة بين هذه السيرة وبين بحوث صاحبها في القضايا الاخرى الى جانب ملمح مهم بارز آخر هو كتابته خلاصات وافية تتصدر كتبه الكبيرة.

خاتمة..
من ذلك يحق لنا القول ان سيرة حياة احمد سوسة اذ ترسم صورة شخصية له.. فانما تضعه في لحظته التاريخية زمانا ومكانا.. واننا لنجد تصعيدا باهرا لهذا المنهج في التأليف ودراسة الشخصيات في عمل احمد سوسة الضخم «الشريف الادريسي في الجغرافية العربية»(2) الذي لم يدرس فيه هذا الجغرافي العربي الكبير الا بعد عرض مذهل لتاريخ الجغرافية وعلم الخرائط منذ اقدم العصور الى العصر العباسي ثم الى زمن الادريسي نفسه مرورا بدولة الادارسة في المغرب، ليضع جهد الشريف الادريسي في تسلسله التاريخي وليحتل المكانة التي له، عارضا كتبه ومؤلفاته ونسخها المتوفرة وما كتب عن كل منها.
وان تلك الملامح المعرفية التي اشرنا اليها التي لم تنشر، قسمات مشتركة في اعماله الاخرى كجزء من منهجه في التـأليف مما يسمح لنا اذ نقرأ سيرته هذه انها مذكرات مختلفة فعلا، فنحن نقرأ فيها متنا معرفيا وان حمل عنوان «سيرة حياتي في نصف قرن».
انها حياة احمد سوسة الذي امتزج فيه الانسان بالمؤرخ والمهندس الباحث برجل القانون الاداري في كل متكامل، حتى اذا كتب عن نفسه - ولو عن غرامة الاول- لم يستطع ان يفصل احتمالات مغامراته الغرامية عن مسؤولياته الوطنية!
فهل عجب ان نقول معه.. فعلا انها مذكرات مختلفة؟!
ابداً.. وانها سيرة معرفية كما رأينا.. واننا بانتظار جزئها الثاني.

الهوامش
* دراسة انجزها قاسم عبد الامير عجام بتاريخ 6/3/2002 في اقامته بناحية المشروع خصيصا لحلقة دراسية خاصة له في الحلة ،ونشرتها صحيفة «المدى» تحت عنوان»قراءة في مذكرات مختلفة» وعلى اربع حلقات في تشرين الثاني 2005. واختيارنا لهذه الدراسة جاء لاعتبارات عدة ، فهي تعنى بعالم عراقي (احمد سوسة) فذ تجاوز كل اشكال التمييز الديني والعرقي والمذهبي واعلى من فكرة بلاد الرافدين حتى بدت هوية شخصية له، وهو ما يبدو رسالة شديدة الاهمية في هذه الاوقات الحرجة من تاريخ العراق المعاصر، كما انها دراسة تعنى بلون كتابي وادبي هو أدب السيرة الذي لطالما كان من العناصر المهمة في ثقافة قاسم عجام والمؤثرة فيه فكريا و وجدانيا ايما تأثير.