المحقق عبد الحميد العلوجي

المحقق عبد الحميد العلوجي

د.عبدالأمير الأعسم
ليس القول إن فلانا محققا بالأمر اليسير أو السهل. فالمحقق في الموروث كان رجلا عملاقا بين رجال عصره من الباحثين أو المؤرخين أو العلماء و غيرهم، مثل: الفراهيدي صاحب كتاب العين،والرازي صاحب كتاب الحاوي، والطبري صاحب التاريخ، و الزبيدي صاحب تاج العروس …الخ! و في العصر الحديث عرفنا محمد فريد وجدي، و البستاني، و عبد الرحمن بدوي. و هكذا، لا يأتي الزمان بالمحقق إلا بالنادر من الرجال! و المرحوم الأستاذ عبد الحميد العلوجي واحد من أولئك النادرين في تاريخنا المعاصر.

ينحدر العلوجي من عائلة بغدادية متوسطةو عريقة،نشأ مع أب علمه الحياة العملية بمساعدته في إدارة (العلوة) التي كان يمتلكها، و تعلم و درس برغبة للتعلم و الدرس على طريقة القدماء، فنبغ مبكرا في البحث الأدبي، فالتاريخي، فالتراثي، حتى صار مرجعا للباحثين. فتقدم لدراسة القانون، فحصل لسانس الحقوق، و فكر كثيرا في أن يمارس المحاماة أو يستمر باحثا في وزارة الثقافة و الإعلام، و قد تسلم قرار تكليفه بتأسيس صرح ثقافي مهم هو (مجلة المورد) التراثية المشهورة، فرأس تحريرها حوالي عشرين عاما،كان محررها اللغوي و مهندسها الفني، فانتشرت في أقطار الوطن العربي، و دوائر المستشرقين في أوروبا و أمريكا في الغرب، و دوائر المستعربين في آسيا و أفريقيا في الشرق.نعم، انتشرت مجلة المورد في كل بقاع الأرض، و أنا أشهد على أني رأيتها في أمهات المكتبات الكبرى في العالم.

كتب المرحوم العلوجي مجموعة كتب أبرزها ” عطر و حبر”، و هو كتاب يقترب الى الجاحظ بلاغة، والى أبي حيان التوحيدي أسلوبا، ضم فيه انطباعات و خواطر مدهشة لرجل كان يعرف قيمته بين المفكرين. و كتبه كلها لا تخلو من أنها فريدة في الموضوع أو الفكرة التي انطلق منها في تأليف الكتاب.

و العلوجي كان أسن مني بما يزيد على عقد من الزمان، لذلك عرفته من كتبه قبل أن ألتقي به فأصبحنا صديقين حميمين. وكان، رحمه الله، لا يمتدح أحدا لا يستحق الثناء.وكنت فخورا دائما بأنه عرفني من أطرحتي لنيل الدكتوراه ” كتاب فضيحة المعتزلة لإبن الريوندي ” (بالانكليزية) التي كان معجبا بها جدا الى حد الإفراط في وصفها بالأصالة. و من هنا، عندما وجهت وزارة الإعلام و الثقافة الأفغانية سنة 1976 الدعوة لوزارة الثقافة و الإعلام العراقية لترسل من ترشحه للمشاركة في مهرجان ذكرى شيخ هراة عبدالله الأنصاري الهروي في كابل و هراة. فقد أصر الأستاذ العلوجي على ترشيحي للمشاركة في المنتدى المذكور، و كان إقترح علي أن أتناول الأنصاري، الصوفي الحنبلي، من وجهة نظر ابن قيم الجوزية. فأعددت بحثا عن ” الموقف الحنبلي المتأخر من الشبخ عبد الله الأنصاري الهروي و بوجه خاص ابن قيم الجوزية في مدارج السالكين ”، أثار اهتمام العلوجي قبل حضوري المنتدى. و كما توقع العلوجي كسبت إعجاب بعض الباحثين في المنتدى مثل: دي بوركي، و روجيه أرنالديز،و أو تاس و غيرهم من المستشرقين. و عندما عدت من أفغانستان، نشر العلوجي بحثي في مجلة المورد (خريف 1976)، و لكنه بدل عنوانه الى عنوان عام ” حول التصوف السلفي ”، و لم يستأذنني في التغيير، فأدركت بعد ذلك أنه لم يرد لبحثي أن يكون مفضوحا هكذا في بحث الحنبلية على النحو الذي ينضح به العنوان الأصلي. و عذرت العلوجي، لأنني أعرف أن الضغوط على النشر لا تخلص أحدا من الانتقاد!!

كتب العلوجي، و هو المفهرس الببليوغرافي الكبير، كتابه” مؤلفات ابن الجوزي “، فأثبت أنه لا يقل باعا عن جورج قنواتي في كتابه “مؤلفات ابن سينا ”، أو عبد الرحمن بدوي في كتابه ” مؤلفات الغزالي “. كما عمل فهارس مهمة لكتب وثائقية سيبقى العراق حتى وقت طويل لا يقدر باحثوه على فعل ذلك صبرا و دقة. و كان يحدثني رحمه الله، عندما كنا نلتقي في التسعينيات بهيئة ملتقى الرواد، أنه انجز في مجلدات كثيرة موسوعته القرآنية التي لم يترك شاردة أو واردة في القرآن، أو حوله في كل فنون الكتابات القرآنية إلا و أتى على ذكره في الكتاب. ودعوت في كلمتي في تأبين العلوجي في هيئة الرواد أن تتكفل وزارة الثقافة العراقية بطبع الموسوعة القرآنية التي إستغرقت منه أكثر من أربعين عاما بلا توقف! و لا أظن أحدا، شخصا كان أو مؤسسة، في كل العالم العربي و الإسلامي يعرف أن العلوجي في هذا الكتاب المطول يكاد يكون، إن لم يكن فعلا، المحقق الفرد الذي لا نظير له في كل التراث العربي، و الإسلامي. و لكن، للأسف، ما زال الكتاب مخطوطا و محفوظا في رفوف مكتبة العلوجي الفخمة عند عائلته!!

و الغريب، أن العلوجي كان قدم مرة أحد كتبه للمجمع العلمي لغرض نشره، و بعد تسويف من إدارة المجمع، طلب منه أن يقابل أحد أعضاء المجمع، فرد هذا المجمعي العتيد إليه الكتاب متسائلا: ” ما شهادتك حتى تكتب مثل هذا الكتاب؟”.
و لم يتردد العلوجي لحظة في استرجاع مخطوطة كتابه، و ترك المجمع خلف ظهره و هو يلعن اللحظة التي سوغت له نفسه فيها أن يقصد المجمع لنشر كتابه فيه! نعم، مات العلوجي أعظم محقق تراثي في تاريخ العراق و لم يكن عضوا في المجمع العلمي العراقي!