أيّام وليال في ضيافة العلوجي

أيّام وليال في ضيافة العلوجي

رباح آل جعفر
أنت لم تشاهد مكتبة العلوجي.. أنت لا تعرف نصف الدنيا.
وأشهد أن المؤرخ والباحث والموسوعي الراحل الأستاذ عبد الحميد العلوجي أعطاني مفاتيح كثيرة للمعرفة في السنوات التي عرفته، وأن أغلب الذخائر والنفائس والفرائد من الكتب، التي قرأتها في تلك الفترة استعرتها من عنده، برغم أن ابن الخشاب البغدادي كان إذا استعار من أحد كتاباً وطالبه به، قال: دخل بين الكتب فلا أقدر على ردّه!.

وما أسهل عليك أن تستعين بالعلوجي بما تريد أن تستعين من أمور الحواشي والمذيّلات في الكتب المطوية وتصانيف الفقهاء والأدباء، فهو أشبه إلى حدّ ما بأبي عمرو بن العلاء الذي نقل عنه ياقوت الحموي، أن دفاتره كانت ملء بيته إلى السقف.
وكنت كلّما زرت العلوجي في بيته، قصدت مدخل المكتبة الشهيرة، وتطلّعت إلى دائرتها الواسعة، وأدوارها الشاهقة، وهي تحمل على رفوفها خمسة عشر ألف مجلد، وأخذت ورقة وقلماً ومضيت أدوّن عناوين بعض الكتب، وأنا أتجوّل في ممرات العرض، وأتوقف بين حين وآخر أرى ما حولي من تحف فكرية باهرة ورائعة تكاد تذوب من الرقة والجلال في آنٍ معاً، ثمّ أبقى ساكناً لعدة دقائق كأنني أقف في محراب للنور!.
صحبت الأستاذ العلوجي أياماً، فوجدته الرائي الذي رأى كل شيء كما جاء في مقدمة ملحمة كلكامش، واكتشفت أن أروع جوانب شخصيته وأحلاها، تلك اللغة الساخرة، التي كانت تتدفق من لسانه عفو الخاطر بلا رقيب، ومن دون تحفّظ، وبلا أي تكلّف.
والعلوجي يعرف كيف يكون الأديب ساخراً ومحترماً؟!.. وكان هذا الجدّ العلوجي يثير الأسئلة المشاكسة التي لا طاقة للفتيان بها. أذكر أني سألته مرة عن أعزّ مؤلفاته؟ فكان جوابه: (مؤلفات ابن الجوزي) لأنه سدّد عني دين الحدّاد الذي صنع أربعة شبابيك لإحدى غرف بيتي، و (الزوج المربوط) لأنه أبكاني مع الباكين على رجولتهم، و (تأريخ الطب العراقي) لأن المجمع العلمي العراقي عامل هذا الكتاب كما عومل حذاء أبي القاسم الطنبوري في ليلة من ليالي شهرزاد!.
وعرفت العلوجي مؤمناً بالمثل القائل: (الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما)، لذلك فإنه كان يعمل ليل نهار والى أقصى حدّ يمكن أن تتحمله الطاقة البشرية.
كان يستيقظ مبكراً في الساعة الخامسة فجراً ليبدأ يومه بالتدخين قبل كلّ شيء، ثمّ يذهب إلى أوراقه، التي كتبها قبل خلوده إلى النوم، وكان من عادته إذا كتب فإنه لا يراجع مسوداته، يخرج بعدها إلى حديقة المنزل ليدخّن مرة أخرى، وهو يستنشق الأنسام باردة عذبة ـ كان أبو غسان مفرطاً في التدخين ـ ثم يعود فيجلس إلى الكتابة بعيداً عن الضوضاء، وعند الساعة السابعة والنصف صباحاً يتناول فطوره، ويتجه إلى عمله الرسمي، وكان هذا البرنامج من الحياة اليومية للعلوجي يتكرّر بتفاصيله كلّ يوم.
والعلوجي ليس من الطراز الذي يهرب من ماضيه أو حاضره، فهو متفق مع الفيلسوف اليوناني انكسارغوس بأنه (لا يوجد شئ من العدم)، وكان يقول يقول: أنه من مواليد اليوم الأول من كانون الثاني سنة 1924 في أسرة لم تجتمع على مذهب فقهي واحد، ونشأ في محلّة (الجعيفر) بجانب الكرخ من بغداد، ولم يعرف منها سوى مسجدها ومقهاها، وتعلّم في الخامسة من عمره على يد والده (الملاّ) عبد الكريم، الذي كان يتقن التحدث بالتركية والإنكليزية والفرنسية، وأن ذاكرته لا تستطيع نسيان أفاضل الذين علّموه في مدرسة الكرخ الابتدائية كالأستاذ ميخائيل عواد، والفنان حافظ الدروبي، وعندما أصبح طالباً في المرحلة الثانوية شاء والده برغبة قاهرة، أن يمارس التجارة في (علوة) ومن يومها اشتهر عبد الحميد بلقب (العلوجي).
لقد كانت حياة صعبة تلك التي أعدّتها الأقدار للعلوجي، وكانت أكثر صعوبة من كل رواية حاول هو أن يرويها بنفسه.. ووسط أهوال الحياة ومتاعبها وجد لنفسه مكاناً حطَّ فيه رحله، وحصّن موقعه، فأصدر نحو (42) كتاباً ضمن (34) عنواناً، وكانت تجربته في الحياة أطول بكثير من سنوات حياته التي انتهت سنة 1995، وأعرض بكثير من حياة الآخرين.
روى لي: أنه أيام كان (علوجياً) أخذ يبدّد رأس مال العلوة وأرباحها في شراء الكتب، حتى تنامت في العلوة ـ ومع الأيام ـ مكتبة هائلة، وكان حريصاً أن يكسو من هذا المال عدداّ من الفقراء والمحتاجين، وفي البدايات كتب الشعر ثمّ هجره، وامتدح الشيخ جلال الحنفي بقصيدة عصماء لم يشفعها الحنفي بردّ، وقال لي: أنه انتخب سنة 1984 عضواً في المجمع العلمي الأميركي، لكنه رفض قبول هذه العضوية احتجاجاً على مواقف الولايات المتحدة من قضايا العرب.
وأسرّني العلوجي يوماً، وكان الأجل يدنو منه، أنه ترك بين يدي ولده (غسان) مذكراته (ذكريات ومطارحات) بـ (600) صفحة من الحجم المتوسط، وأوصاه بعدم نشرها نظراً لما تحوي من صراحة متناهية قد تحرج الآخرين ولعلها تجرحهم، وأنه كان يتمنى لو وجد من يرعى مشروعه الضخم (الموسوعة القرآنية) الذي شرع بكتابته منذ سنة 1952، بدلاً من أن يبقى محفوظاً في صناديق مقفلة، فلكي تستطيع البذرة أن تكون شجرة باسقة وارفة الظلال، فإنها تحتاج ليس فقط إلى شمس وماء، وإنما تحتاج أيضاً إلى عناية ورعاية، وتلك على أي حال أمنية للعلوجي لم تتحقق.
كان يومها قد دخل في العقد السابع من عمره، وقد بدأت الأمراض تنهش من جسده، وأخذت صحته بالتدهور، وإن بقيت روحه خصبة متوهجة، فقد أصيبت عيناه بنوع من التقوّس، ودمه بالسكر والضغط، وكذلك أذنه بثقل في السمع، ودبّت في أطرافه الرعشة، وفمه بسقوط الأسنان، وكان العلوجي يقول عن نفسه: أنه صار يماثل خراب البصرة بعد عدوان الزنج، وأنه ينتظر رحلته الأبدية إلى عالم الغيب، التي كان يعتقد أنها لن تكون مخيفة أو مفزعة، لأن ما زرعه العلوجي في دنياه سيجني ثمره مثوىً كريماً تحت سدرة المنتهى في أقصى الجنة.