عبد الحميد العلوجي كما رأيته

عبد الحميد العلوجي كما رأيته

جواد عبد الكاظم محسن
في العام 1980 أصدرت مجلة (المورد) عددا خاصا عن بغداد، وقد كتبتْ عنه الصحافة كثيرا، وانتظرت وصوله إلى مكتبات مدينتي في المسيب بلهفة شديدة إذ كنت من المشتركين في المجلة غير أنه لم يصل، كما بحثت عنه في مكتبات المدن المجاورة ولم أجده، ولم يكن ذلك من سوء الحظ كما تصورت حينها بل من حسنه، ولما يئست من ذلك لم يبق لي سوى كتابة رسالة إلى رئيس تحرير مجلة (المورد) يومذاك المرحوم عبد الحميد العلوجي شارحا (المشكلة)، وراجيا تلبية رغبتي الملحة في الحصول على نسخة منها.

وجاءني الرد بكتاب رسمي من إدارة المجلة وبتوقيع العلوجي نفسه، وهو يدعوني للحضور إلى دار الجاحظ حيث إدارة مجلة المورد، واستلام نسخة منها، وطرت من الفرح لأكثر من سبب، ولكن أهمها كان هو ضمان حصولي على هذا العدد الخاص من المجلة، وقد خشيت أن لا أحصل عليه أبدا في ذلك الوقت!!
وقصدت إدارة المجلة وكانت تقع في بداية شارع الجمهورية من جهة الباب الشرقي، وأرشدني موظف الاستعلامات إلى الطابق الثالث، ولما بلغته بالمصعد دخلت، فوجدت نفسي وجها لوجه أمام رجل بانت عليه آثار الشيخوخة، وهو واقف في مدخل الإدارة كأنه بانتظاري إذ ربما هاتفه موظف الاستعلامات وأعلمه بحضوري، وقد عرفته مباشرة لأني رأيت صورا عديدة له في الصحف والمجلات ؛ إنه رئيس التحرير والمؤلف التراثي المعروف عبد الحميد العلوجي.
تصافحنا بحرارة ورحب بي كثيرا، مما أخجلني، ونادى على فتاة لفتت نظري بحسن منظرها وهدوئها وملامح الطيبة والجمال المرتسمتين على وجهها، ولما حضرت، قال لها:
•- هذا جواد الذي أرسل لنا رسالة يطلب فيها نسخة من العدد الخاص ببغداد.. هيا اجلبي نسخته..
وذهبت الفتاة وعادت بسرعة ورشاقة لتسلمه نسخة ضخمة الحجم من المجلة، ومع رؤيتي لنسخة العدد سرت الفرحة في نفسي، وقام العلوجي بدوره بتسليمها لي، فاستلمتها منه شاكرا، ثم مددت يدي لمصافحته وتوديعه كما يقتضي الحال والخجل الذي لازمني في هكذا موقف، فقال لي مستنكرا بلهجته البغدادية المحببة:
•- أوكف يابه شفتهمنه منك شفتهمت منا؟!!
فذهلت بداية ثم ابتسمت وسحبت يدي وسكت علامة على موافقتي للبقاء معه، فقادني إلى قاعة استقبال صغيرة، وجلسنا معا، وطلب لنا قدحي ماء وفنجانين من القهوة، وهنا تشجعت وابتدرته بالكلام:
- أستاذنا الفاضل أنت من جيل ملأ الحياة بالعطاء، أطال الله في عمرك وعمر بقية العلماء الأحياء من أمثالكم..
انتبه لكلامي وقد لاحت علامات الرضا والارتياح على وجهه المتعب، فأضفت:
•- قل لي يا أستاذي حين رحل مصطفى جواد وفؤاد عباس ؛ هل جاء من يعوضهما ويسد مسدهما؟!
أيد كلامي، وحدثني عن مدى حبه للتراث العربي والعراقي على وجه خاص، وحرصه على وصول مجلة (المورد) التي يرأس تحريرها، ويبذل قصارى جهده فيها إلى كل المتخصصين والمعنيين بالتراث وعارفي قيمتها، وما يبذل من جهود من أجل إصدارها..
وقال لي:
•- لذلك اهتممت جدا برسالتك حين وصلتني، وسررت بها، وحرصت على الكتابة لك لتحضر وتستلم النسخة المطلوبة منها..
وأخبرته عن كبير حبي لبغداد الحضارة، ونشري لموضوعة قصيرة بعنوان (بغداد في ضمير الشعر) في جريدة الجمهورية في تلك الفترة، وتبادلنا الحديث الجميل لأكثر من ساعة جلنا فيه على التراث والأدب وما يعجب كل واحد منا فيهما، ومنحني فرصا أكثر للكلام، وأذكر أني حدثته عن شدة إعجابي بمجلة (الأديب) اللبنانية لصاحبها البير أديب، فأيد كلامي أيضا، وأثنى عليها.
وبعدها استأذنت منه وودعته شاكرا فضله وحسن ضيافته، وكان هذا وداعي الأخير له - للأسف الشديد- إذ لم نلتق ِ بعدها بسبب صروف الحياة..
بعد ثلاثين عاما على هذا اللقاء كنت في مقر مجلة (المورد) في دار الشؤون الثقافية، وقد انتقلت إلى بنايتها الحالية، وكان لي حديث مع إنسانة طيبة وباحثة مميزة هي الدكتورة هدى شوكت بهنام، وكان لضيافتها أثر كبير في نفسي، إذ عملت الشاي خصيصا لي، وسكبته في قدح وأخرجت من حقيبتها قطعا من علبة بسكت صغيرة وقدمتهما لي بمنتهى الكرم الأخوي والخلق النبيل، ودار بنا الحديث، فتذكرت قصة زيارتي القديمة لمجلة المورد، فرويتها لها بالتفصيل، فسألتني:
•- هل مازلت تعرف الفتاة الجميلة التي رأيتها مع المرحوم العلوجي يومذاك، وقلت إنها أحضرت لك نسخة من المجلة، وقدمت لكما القهوة؟
فأجبتها بالنفي، وقد استغربت سؤالها..
ابتسمت وقالت:
- هي أنا!!
اتسعت حدقات عيوني عجبا!! ما أصغر العالم!! ثم نظرت في وجهها محاولا استعادة الصورة القديمة، فرأيت شبها ولكن اختفى بريق الشباب والجمال، ولاحت على وجهي غمامة حزن لما رأيت من تعب وإجهاد عليها، فأضافت قائلة:
- لقد أتعبتنا السنين العجاف، وغيّرت الكثير من ملامحنا القديمة!!
قلت:
- ولكنها لم تستطع تغيير شيء من طيبتكم وجمال روحكم أبدا!!