عبد الحميد العلوجي.. مسيرة عطاء وشهادات بعطر الذاكرة

عبد الحميد العلوجي.. مسيرة عطاء وشهادات بعطر الذاكرة

اسماء محمد مصطفى
بين رحلته القرائية منذ طفولته، وبتشجيع من والده، الى عوالم الإعراب في «الاجرومية» للشيخ خالد الأزهري وكتب طه حسين، وإطلاعه على القاموس المنجد وإعجابه بكتابات الجاحظ وأبي حيان التوحيدي، ووفاته تاركا حلمه باستكمال مشروع كتاب ضخم يحمل عنوان الخزانة القرآنية او موسوعة الدراسات القرآنية، ثمة محطات كثيرة في حياته ترك عبرها آثارا أدبية تعتز بها المكتبة العربية.

هو العلوجي عبد الحميد.. الباحث الموسوعي، المولود في كرخ بغداد ـ منطقة الجعيفر سنة 1924. تخرج في كلية الحقوق، ولم يعمل في حقل اختصاصه الأكاديمي. من مؤسسي مجلتي المورد والتراث الشعبي. بلغت مؤلفاته 41 كتاباً، وشغل مناصب عدة كان آخرها مديرا عاما للمكتبة الوطنية في ثمانينيات القرن الفائت ومن ثم مديرا عاما لدار الكتب والوثائق بعد دمج المكتبة الوطنية والمركز الوطني للوثائق معا، حتى تقاعده في سنة 1993.

أثرّ عليه الحصار الاقتصادي في التسعينيات سلبا كما أثر على سواه من العراقيين، فاضطر الى بيع مكتبته الشخصية التي احتوت على أكثر من 17 ألف كتاب ومجلد من خيرة المراجع، ليسد بثمنها قوته وقوت عائلته. مكتبته تلك احتوت كتبا نفيسة كما أكد في حوار له ـ ومنها: كتاب الساق على الساق لأحمد فارس الشدياق الذي طبع في منتصف القرن التاسع عشر - طبعة باريس -، والكتاب عبارة عن رحلة قام بها المؤلف وزوجته الى أوربا، والملاحظات التي تراها زوجته يعقب هو عليها وقد عاش الشدياق في زمن السلطان عبد الحميد الثاني.

مكتبته العامرة.. كُتِب عنها:
« أنت لم تشاهد مكتبة العلوجي.. أنت لا تعرف نصف الدنيا « ـ لنا وقفة لاحقة معها في هذا الموضوع.
لقبه العلوجي جاء من عمله في علوة والده عشر سنوات، فقلبها الى مكتبة، إذ كان يتسوق الكتب بدلاً عن الحنطة والشعير والدهن، وأدى ذلك الى خسارة والده رأس المال.
وذات مرة حين كان العامل يزن الحنطة في العلوة، انشغل العلوجي بقضية إعرابية.
قال إنه من دعاة إلغاء الإعراب مفضلا الاستغناء عنه ببعض القواعد الأساسية.
من آرائه: إنّ العلاقة بين التأريخ والاسطورة مثل علاقة التوابل بالأطعمة، التأريخ اسطورة كبيرة لكنها تدعو الى الثقة والإيمان.
ومن آرائه أيضا: إنّ الحكايات الشعبية انعكاس لطقوس وخوف من الغيبيات والماورائيات، وإن الحكايات الشعبية ظلمت المرأة.
امتلك روح النكتة، وهوى الزراعة وصيد السمك، وربى القطط، وصادق عنكبوتا وكان يطعمه ذبابا يصطاده له.
رحل عن عالمنا سنة 1995، لكنه ترك في ذمة الذاكرة الثقافية سيرته ومؤلفاته التي نعرضها هنا من خلال ماأطلعنا عليه وماقاله وكتبه الآخرون بحقه.
العلوجي في موسوعة أعلام العراق

(باحث موسوعـــــــــــــــــــي بغدادي، مارس التعليم مدة، وبلغـــــــــت مؤلفاته 41 كتابـــا، خاض معارك جدليــــة مع الدكتور محسن جمال الدين حول الاستشراق الروسي، ومعركــــة مع فــــــؤاد جميل حول كتاب (في بلاد الرافدين) ومعركــــــة مع المجمع العلمي العراقــــــــي حول الطب العراقــــــــي، كــــتب عنه حســــــــــــــين نصــــــار والمستشــــــــــــرق البريطانـــــــــي بيرسون، حصــــــــــــل على وســــــــــــام المؤرخ العربي وشارة جمال الدين الأفغانــــــــــــــــــــي وشـــــــــــــارة الفارابـــــــــي وشـــــــــارة بغداد والكـــــــــندي).
مؤلفات العلوجي

وقبل أن نعرض ماكتبه وقاله الآخرون، نشير الى عدد من مؤلفات العلوجي التي وجدناها في فهارس دار الكتب والوثائق الوطنية * في بغداد ومصادر أخرى:
حكومات بغداد منذ تأسيسها حتى عصرها الجمهوري، 1962
الزوج المربوط، 1964
المواسم الادبية عند العرب، 1965
مؤلفات ابن الجوزي، 1965
من تراثنا الشعبي، 1966
عطر وحبر، 1967
تأريخ الطب العراقي، 1967
الشيخ ضاري قاتل الكولونيل لجمن في خان النقطة، بالاشتراك مع عزيز جاسم الحجية، 1968
رائد الموسيقى العربية، 1969
الهجرة الصهيونية الى فلسطين، 1969
كتاب الوزارات مخطوط جليل يحسن دراسته، 1970
أيام في المربد، 1971
الأصول التأريخية للنفط العراقي، بالاشتراك مع خضير عباس اللامي، 1973
النتاج النسوي في العراق، 1974 ـ 1975
المرشد الى النتاج الموسيقي، 1975
الفارابي في العراق، 1975
المتحف البغدادي، 1975
عقبة بن نافع رجل البيت والقومية، 1975
المثنى بن حارثة الشيباني، 1980
القعقاع بن عمرو التميمي، 1980
المربد مواسم ومعطيات، 1986
آثار حنين بن إسحاق، بالاشتراك مع عامر رشيد السامرائي
جمهرة المراجع البغدادية، فهرست شامل بما كتب عن بغداد منذ تأسيسها حتى الآن، بالاشتراك مع كوركيس عواد.

شهادة:
عبد الحميد العلوجي.. كاتباً وباحثاً ومحققاً

كانت لنا وقفة عند السيد جمال عبد المجيد العلوجي الذي يشغل الآن منصب معاون المدير العام لدار الكتب والوثائق الوطنية، ليحدثنا عن محطات في حياة خاله عبد الحميد العلوجي. وقد عمل العلوجي جمال مديرا للعلاقات حين كان العلوجي عبد الحميد المدير العام لدار الكتب والوثائق.
قال العلوجي جمال عن خاله إنه:
كاتب وباحث موسوعي.. ولد في بغداد في الأول من كانون الثاني سنة 1924.
انضم الى صفوف الحزب الشيوعي أواخر سنة 1950 حينما كان معلما في إحدى مدارس بغداد. دخل السجن لاشتراكه بنقاشات حادة ومشاجرات مع آخرين لدفاعه عن أفكار الحزب ومفاهيمه. وبعد خروجه من السجن واصل دراسته فتخرج في كلية الحقوق سنة 1962.
بلغت مؤلفاته أكثر من أربعين كتابا كان أبرزها رائد الموسيقى العربية 1964، وتأريخ الطب العراقي1967، والمد الصهيوني بين الهجرة والهجرة المضادة1970، والأصول التأريخية للنفط العراقي1973.
وهو عضو إتحاد المؤرخين العرب وإتحاد الحقوقيين العرب، حضر مؤتمر الموسيقى العربية 1964 والمؤتمر الانثولوجي 1967 ومهرجان جمال الدين الأفغاني في كابل 1977.
مؤسس ورئيس تحرير مجلة المورد التراثية. خاض معارك جدلية مع الدكتور محسن جمال الدين حول الاستشراق الروسي، ومعركة مع فؤاد جميل حول كتاب (في بلاد الرافدين)، ومعركة مع المجمع العلمي العراقي حول الطب العراقي. كتب عنه الدكتور حسين نصار والمستشرق البريطاني بيرسون..
حاصل على وسام المؤرخ العربي، وعلى شارة جمال الدين الأفغاني وشارة الفارابي وشارة بغداد والكندي.
اشترك مع آخرين بتأليف العديد من الكتب والمصادر التراثية، أبرزها المعجم المساعد للأب انستاس الكرملي، وجمهرة المراجع البغدادية، وآثار حنين بن اسحق، والمدخل الى الفلكلور العراقي، والشيخ ضاري قاتل الكولونيل لجمن، وله أكثر من 300 مقالة في الصحافة العراقية والعربية. عين مديرالمتحف الأزياء ثم مدير التأليف والترجمة والنشر في وزارة الإعلام ورئيس قسم الدراسات الشعبية في المركز الفلكلوري، واخيرا مديرا عاما لدار الكتب والوثائق حتى تقاعده في العام 1993 لبلوغه السن القانونية.
كان أحد الرواد الذي واكبوا الحركة الفكرية منذ الخمسينيات وله من العطاء الكثير بالرغم من المرض ومتاعب السنين التي شغلته، فقد ترك اثرا كبيرا كان أمله الذي عاش معه مذ كان معلما إلا أن وفاته حالت دون تحقيق ذلك الأمل، وهو الشروع في نشر سفر عظيم أسماه (الخزانة القرآنية) يتناول فيه تفسيرا معاصرا للآيات القرآنية، ولا يزال محفوظا على شكل قصاصات ورقية في مسكنه.
وقبل وفاته في 25 من كانون الاول 1995 بدأ ببيع أهم ركن في حياته كان قد أنشأه منذ صباه وهو مكتبته الشخصية ليواجه بثمنها معاناته الاقتصادية والحياتية في ظل الحصار الاقتصادي..
وهكذا رحل علم من أعلام العراق كان قد أسهم في إغناء المكتبة العربية بمؤلفاته في الادب والتراث والتأريخ، فكان خير كاتب وخير باحث.

روح النكتة

في لقائنا معه، أشار العلوجي جمال عبد المجيد الى أن خاله عبد الحميد العلوجي كان يتمتع بروح النكتة. ومن المواقف الظريفة التي حدثنا عنها، إن الباحث الراحل عمل وصديقه الباحث سالم الآلوسي مدة في لجنة تقويم (تقييم) المطبوعات في دار الكتب والوثائق لغرض شرائها، وذات مرة أرسل وزير الثقافة والإعلام شخصا من طرفه، كان قادما توا من أميركا ومعه مجموعة كبيرة من الكتب، عرضها للبيع بالدولار، استقبله العلوجي والآلوسي وطلبا منه إحضار الكتب لتقويمها ماديا، فجلبها لهما في أكياس جنفاص، فقاما بتوزيع الكتب بين ثلاث أقيام وعلى وفق حجم الكتاب، مجموعة بـ 5 دنانير للكتاب الواحد، ومجموعة بـ 10 دنانير للكتاب، ومجموعة بـ 15 دينارا للكتاب الواحد، فكان هذا التوزيع أشبه بالنكتة من قبلهما، ولأنهما محددان بميزانية مالية معينة، وحين عاد صاحب الكتب في اليوم التالي صدمته الأسعار، فقال لهما: (قابل دا ابيع لكم رقي)!!
وذات مرة جاء الى المكتبة شخص عرض بيع صورة فوتوغرافية نادرة تمثل الملك غازي في مطار بغداد، وبمبلغ باهظ جدا، ففوجئ العلوجي بارتفاع السعر الذي يطلبه صاحب الصورة فقال: (شنو؟! قابل هي صورة الإمام علي حتى ندفع بيها هيج سعر)؟!!

شهادة:
العلوجي المثقف الحريص على التجديد والتطور والعصرنة

كتب خالد القشطيني عن العلوجي، وقد ذكره في بعض فقراته بكنية (أبو غسان)، وغسان هو الابن البكر للعلوجي:
« طالما قيل إن المصريين يكتبون، واللبنانيين ينشرون، والعراقيين يقرأون. ولهذا نجد أن الناشرين ينظرون أولاً هل سيقبل العراقيون على الكتاب قبل نشره. يصدق هذا حتى في الوقت الحاضر حين راح العراقيون يواجهون كل هذه المصاعب الاقتصادية والأمنية. لقد ظل حرصهم على المطالعة والتزود بالثقافة والمعلومات شغلهم الشاغل.
كان سوق السراي، سوق الكتب في بغداد، من أكثر أسواقها نشاطا. وبالإضافة اليه انتشرت مكتبات شعبية صغيرة في شتى المحلات. اعتاد من لم تسعفه حاله على شراء الكتب، استئجارها منها بأربعة فلسات. يأخذ المشترك الكتاب الى البيت فيقرأه هو وأولاده وأصحابه قبل أن يعيده للمكتبة، وكله بأربعة فلسات.
حرص آخرون من المتمكنين على إقامة مكتباتهم الخاصة في بيوتهم. اشتهر منهم الحاج عبد الحميد العلوجي. اكتسب هذا اللقب لأن والده كان يملك علوة. وفيها قضى عبد الحميد شبابه يتعامل مع الحنطة والشعير والطحين، ونحو ذلك من بضائع العلوات. ولكنه أظهر إهتماما كبيرا بالأدب ودأب على اقتناء الكتب. وبعد أن توفي والده أخذ يكرس وقته للقراءة ولمكتبته الخاصة، بما أدى الى إفلاس العلوة التي راحت الكتب تبتلع أرباحها.
كان أبو غسان يمثل الشخصية العراقية في نزوعها الى العصرنة والتطور. فجل ما احتوته مكتبته كان من الكتب المترجمة عن الأدب العالمي. كان يقول إن الروايات العربية لا تثير في نفسه غير القرف. بل كان يمقت حتى قراءة نجيب محفوظ. ولم يحز في نفسه شيء كجهله بمعرفة اللغات الأجنبية ليقرأ هذه الكتب بلسانها الأصلي. أخيرا جمع ما في نفسه من شجاعة فانتمى الى المعهد الفرنسي، لتعلم لغة فكتور هيغو وبلزاك، بيد أن المحاولة لم تثمر عن شيء فانقطع عن المعهد والألم يحز في نفسه.
كان مثالا للمثقف الحريص على التجديد. حرص على استيعاب الموسيقى الغربية وحضور حفلاتها. يقتطع من طعامه ليشتري بطاقاتها الغالية. يروي صديقه أنور الناصري أنه عندما قدمت فرقة غربية حفلة في قاعة الشعب، لم يكن بيده ما يشتري به بطاقة وكان فرات الجواهري قد حصل على بطاقة شرف. فأغراه أبو غسان على لعبة «دومنة» يكون فيها الرهان على تلك البطاقة. وكان بارعا فيها ففاز بها وتوجه الى الحفلة. نظر اليه والى حذائه الممزق مفتش التذاكر، فقال له: « لو اشتريت لك قندرة بثمن البطاقة، مو أحسن لك؟ «. وفي نهاية الحفلة، تقدمت فتاة لجمع التبرعات فقدمت له وردة. لم يكن في جيبه غير درهم واحد فاعطاه لها، ولكنها أدركت أن هذا كان كل ما عنده، فأعادته له وقالت، لا. أنت تحتاج الدرهم أكثر من الوردة!
كان من أبناء ذلك الجيل المؤمن بحرية الفكر والحداثة. ومن سخريات القدر أن عينوه أخيرا رقيبا على المطبوعات. وصله كتاب ثوري لعبد الله القصيمي. وأصبح عليه كرقيب أن يمنعه. ففعل، ولكنه بادر بعين الوقت الى تقديم استقالته".

وفاته
توفي سنة 1995 تاركا وراءه آثاره الادبية وظلال ملامحه في قلوب من عرفوه عن قرب.. لاسيما من تواصلوا معه في أيامه الأخيرة..
يقول الكاتب مهدي شاكر العبيدي الذي وصف العلوجي بأنه مجبول على البساطة والتواضع:
« صادفتُ العلوجي ضحى يوم قائظٍ في مسرح الرشيد في أخريات أيَّام حياته، وفي غضون عام 1994م، فتفرَّسْتُ في ملامحه وأمارات وجهه وتبيَّنَ لي فيها آثار الجهد والكلال، ما ينبي عن شعوره بالضياع والمتاهة في دنيا الأحياء بعد أنْ نفر منه أكثرهم وبانوا، وصار مجانِبا للضُرِّ والنفع، لكن نائيا في الوقت ذاته ومستريحا عن سماع اللغو والثرثرة والادِّعاء، والطريف أو المؤسي أنـَّه دأب بعد تقاعده عن مسؤوليَّاته على زيارة رفقائه وأصدقائه في دوائروظائفهم ليُحَادثهم في شؤون الفكر والأدب والثقافة، مختتما حديثه بإبلاغهم أنـَّه سيرحل قريبا، بعد أنْ عاش وديعا مسالما منطويا على الخير والحبِّ، مادايد العون للجميع من معارفه ومعاشره، وكأنـَّه المعنيُّ بوصية عبد الحميد الكاتب للأدباء بأنْ يتعاونوا ويتعاضدوا وينبذوا التناحُر والشِقاق، هذا إلى جانب ماألفته من ظرفه وميله للفكاهة التي لا يصطنعها عامدا، بل هي لصيقة به وسمة من سماته، ومزيَّة يروض بها خلقه وطبعه على الجلاد والتحمُّل ومغالبةالأوصاب والأنكاد التي تعرض له في ميدان عمله «.
وأشار العبيدي الى أن الباحث الأستاذ طلال سالم الحديثي أهدى كتابه: مراجع في الفلولكلور، الى روح الأستاذ عبد الحميد العلوجي، وروح صنويه لطفي الخوري وعزيز الحجية، ضارباً بذلك المثل الأروع في الوفاء والعرفان ـ وفقا لتعبير العبيدي.

شذرات من مبحث طويل للكاتبة
اسماء محمد مصطفى