حين يمتزج الواقع بقصة سينمائية..  زويه فالديس في  الملاك الأزرق

حين يمتزج الواقع بقصة سينمائية.. زويه فالديس في الملاك الأزرق

أوراق
شاهدت في طفولتي فيلما أو اثنين لمارلين ديتريش، في برنامج على القناة الثانية للتلفزيون الكوبي، كان يعرض، بادئ ذي بدء، في فترة الظهيرة ثم في الخامسة من بعد الظهر قبل أن يختفي بعد بضعة أعوام. كان اسم ذلك البرنامج" السينما في بيتك" وكنا نستطيع أن نشاهد من خلاله كل أفلام السينما الامريكية القديمة تقريباً بالابيض والاسود، وحتى عندما تكون هذه الافلام بالالوان،

فلم يكن بالامكان مشاهدتها إلا بهذين اللونين، وكان فيلم " الملاك الازرق" من بين تلك الافلام".
من هنا بدأت الكاتبة "زويه فالديس" حكايتها مع مارلين ديتريش وفيلم " الملاك الازرق" لجوزيف فون سترنبرغ، والذي أصدرته فالديس في عشقها للسينما في كتاب صدر عن مؤسسة المدى للاعلام والثقافة والفنون مترجما من قبل رانيا قرداحي، وقد جعل هذا الكتاب من الممثلة الالمانية رمزاً للمرأة القاتلة وايقونة الثلاثينات الجنسية.
تروي الكاتبة في رحلتها من كوبا الى باريس مروراً ببرلين كيف غزت مارلين ديتريش بدور "لولا لولا" المغنية الصغيرة في ملهى الملاك الازرق حياتها كطفلة، ثم كامرأة حتى سكنت خيالها تماما وتبعث مغامراتها الشخصية أمام عيوننا واحدة تلو الاخرى، فالفنانة المرأة المغرية، العاشقة، المناضلة التي كانت عليها مارلين ديتريش.
وزوية فالديس، الكاتبة والشاعرة والناقدة السينمائية امتزجت من خلال هذا الفيلم، أو من خلال هذا الكتاب.
روت فالديس قائلة "ذات يوم أحد، قادنا أحدهم إلى متحف الرعب، وقد غادرته مكتئبة تماماً، كما هو منتظر. والأنكى من ذلك أن السماء كانت، عند مغادرتي، تمطر حبالاً مصحوبة بهواء جليدي. أعلمنا الرجل الذي كان يرافقنا أن هدف الزيارة التالية هو متحف السينما، فوافقت مدفوعة بالخضوع، أكثر منه بالرغبة. أخذت بطاقتي فصدمتني صورة مطبوعة لمارلين نحيلة، بيدين تسحقان شعرها الأشقر أكثر مما تداعبانه. كانت تضغط مقدم رأسها للإيحاء بقسوة ملامحها. وكانت شفتاها ترسمان نصف ابتسامة لم تكن كافية لإظهار أسنانها. كانت نظرتها ترسم ملامح المجون المتهكم الأزلي ذاك الذي يقف على الخط الفاصل بين الخير والشر. كان ذراعاها مكسوين بلفاع من الفرو لم يكن يظهر إلا بالكاد بياض بشرتها، وكان صدرها يتلألأ بإغواء بثوب كاشف. أخبرنا مضيفنا أنه قد تم، أخيراً، إنشاء قسم مخصص لمارلين ديتريش كي يكون معرضاً رئيسياً في المتحف. "
أذهلت فالديس على وجه الخصوص، تلك الشاشات التي تعرض لقطات متحركة لبعض اللحظات الحميمية في حياة الممثلة: مع ابنتها التي كانت صغيرة للغاية، مع المخرج جوزيف فون سترنبرغ، ثم مع جان غابان؛ كانت تقف بالقرب من طاولة روليت أو شيء من هذا القبيل. وتابعت فالديس المعرض بترتيب محتوياته بقليل من التشكك والحنين إلى الماضي، أو، بالأحرى، بكآبة على طريقة القرن التاسع عشر وبوقفة فيها مبالغة في تقليد خوانا بوريرو، شاعرتنا الكوبية. ذاكرة " كنت أتجنب على الدوام التعلق بصورة مفرطة بمقتنيات تلك المرأة، ذلك الملاك الأزرق، وبملابسها، لكني عجزت، هذه المرة، عن مقاومة الانجذاب إلى متعلقاتها أو الافتتان بضروب هوسها الكبيرة منها والصغيرة أو الوقوع من جديد في حب التفاصيل الروحية، متجسدة في زجاجة عطر عتيقة أو في لطخة على منديل، التي جمعتها بنفسها، بولع فائق، امرأة تعرف أنها جديرة بالخلود، امرأة متفردة في طموحها إلى الأبدية."
قد يكون لهذا الفيلم أثر في حياة فالديس، التي ذكرت "يذكرني فيلم"الملاك الأزرق"بدراسة لأوكتافيو باز عنوانها"اللهيب المزدوج"، يشير فيها إلى الفرق بين الحب والرغبة كي يخلص، في النهاية، إلى أن الحب أكثر حرية، بالتأكيد، من الرغبة، على الرغم من أن الأمر قد يبدو خلاف ذلك. لكن لا. فالحب أكثر استقلالاً من الرغبة بكثير لأنه يمنحنا حتى حرية أن نجن بسبب ما يمكن أن نتصوره أو نختلقه في تفسيرنا لبادرة لطيفة صدرت عن المحبوب، وحرية أن نموت عندما نحس أننا لم نعد محبوبين."
إن ما هو مؤكد، في رائعة جو سترنبرغ، هو أن القصة منسوجة من دلو الماء الذي تم إلقاؤه على صورة امرأة في واجهة مزججة وبطاقة بريدية خبيثة وطائر كناري ميت تفحم في موقد وسروال من الدانتيلا دس خلسة في جيب معطف مدرس بارز. وقد لجأ المخرج، كي يروي لنا الحكاية، إلى العناصر الجمالية الرائجة، إلى الانطباعية الألمانية، إلى تنورة الريش التي تكشف، عند النفخ عليها إلى الأعلى، الفخذين الرائعين للمغنية المكتنزة التي ترفع حاشية ثوبها أمام مدرس خجول وخائف هو الدكتور إيمانويل رات الذي يوحي اسمه بانطباعية خالصة. لا أرغب، على وجه الخصوص، في نسيان لحظتين من الفيلم أعشقهما: اللحظة الأولى هي التي ترقص فيها فتاة الملهى الممتلئة على إيقاع الموسيقى وتدير رؤوس الزبائن، ثم اللحظة التي تنفخ فيها لولا لولا علبة مساحيقها على صديرية الأستاذ. فقد تحول الفيلم، منذ ذلك الحين، إلى زوبعة من الصور تتطور فيها لولا لولا بخفة المسحوق الذي يغطي صدر عاشقها، الذي صار زوجها. حب، رغبة، شغف، تخل، تلكم هي موضوعات الانطباعية. "
زوية فالديس الكاتبة والشاعرة والناقدة السينمائية الكوبية أصدرت منذ الثمانينات نحو خمسة وعشرين كتاباً في الشعر والرواية والسينما وعملت في الصحافة كرئيسة تحرير مجلة السينما الكوبية ويتميز اسلوبها بالرشاقة والجرأة والتشويق وترجمت بعض كتبها إلى اللغات الاجنبية.