التفلسُف النَّقدي.. أمانويل كانط والمعرفة البديلة

التفلسُف النَّقدي.. أمانويل كانط والمعرفة البديلة

أوراق
بعد كتابه (السرد المفتون بذاته)، الصادر عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة عام 2015، صدر كتاب الناقد والمفكِّر العراقي الدكتور رسول محمَّد رسول (التفلسُف النَّقدي.. إمانويل كانط والمعرفة البديلة) عن منشورات ضفاف في بيروت، ومنشورات الاختلاف في الجزائر، ومنشورات الأمان في الرباط، ودار كلمة في تونس 2015.

جاء الكتاب بمقدمة وستة فصول تعود بنا إلى مفاصل فلسفة كانط كان المؤلف قد كتبها بين عامي 1993 – 1994 كجزء من متطلّبات حصوله على درجة الماجستير في الفلسفة الألمانية من كلية الآداب - جامعة بغداد، وهو من الدراسات الكانطية الرائدة في العراق (حينها) حيث لم يسبق لأي باحث عراقي أن انفرد بكتاب يتناول فلسفة إمانويل كانط.
في مقدمة الكتاب، يقول رسول: "لقد استطاع كانط أن يتجاوز الأزمة التي تهاوت بها الفلسفات واحدية الاتجاه كالفلسفة التجريبية والفلسفة العقلانية كلاً على انفراد في التوصُّل إلى صياغة تركيبية تكاملية يتواشج فيها الحس مع الفهم على نحو مقبول لتوليد المعرفة تواصلاً دقيقاً مُحكم البناء، مما أضفى على فلسفة كانط في المعرفة النَّقدية قيمة تأريخية مُهمة في مجال الفلسفات الحديثة".
لذلك يستعرض المؤلف الأفكار الفلسفية التي قدَّمها الفلاسفة قبل كانط في نظرية المعرفة، ويتوقف عند الإرث النَّقدي الذي صاغ كانط وفقه عناصر نظريته في المعرفة النَّقدية، وهذا ما تضمَّنه (التمهيد) الذي تصدَّر كتابه المتواضع هذا.
وبحسب فصول الكتاب الستة، تقوم نظرية المعرفة النَّقدية لدى كانط على عنصرين تهيئهما مَلَكتين تتكاملان في توليد المعرفة النَّقدية، وهما: ملكة الحس/ الإحساس أو (الحساسية) Sensibility، وملكة الفَهم أو (الفاهمة) Understanding.
ويبدو أن كل واحدة من هاتين الملكتين تنطوي على عناصر تمثل قيمة أساسية لأي معرفة ممكنة. ولهذا، تتضّمن ملكة الإحساس صورتين قبليتين هما المكان والزمان، وقد تناول الباحث في (الفصل الأول) أثر المكان المتداخل في هذه الملكة من خلال استعراض دلالة (المكان) كمفهوم فلسفي لدى الفلاسفة قبل كانط. ولما كانت فلسفة هذا الأخير قد تطوَّرت خلال مرحلتين أو أكثر من ذلك، فإن (المرحلة النَّقدية) تفصل بين مرحلة سابقة وأخرى لاحقة في حياة كانط ومشروعه الفلسفي.
ومن هنا أيضاً، وجد الباحث من المناسب تحديد دلالة مفهوم كانط لـ (المكان) في المرحلة قبل النَّقدية وبعدها، وهو ما يمثل جوهر فهمه باعتباره مفهوماً قبلياً محضاً يُعد شرطاً من شروط الحس أو الإحساس أو الحدْس الحسي.
إلى جانب المكان، تناول رسول في (الفصل الثاني) دلالة مفهوم (الزمان) في الفكر الفلسفي الغربي الحديث قبل كانط، وموقف الأخير من الفلاسفة قبله، ونقده لمفهوم إسحق نيوتن (1642 – 1727) وليبنتز، ثم الوقوف عند العَرضين، الميتافيزيقي والترْسندالي أو (المجاوز) للزمان حسبما يراهما كانط في فلسفته لنظرية المعرفة النَّقدية.
مع (الفصل الثالث)، يدخل البحث إلى مرحلة النَّظر التفكُّري في (ملكة الفهم أو الفاهمة)، لذا كان لا بدَّ من تحديد دلالة الفهم أو الفاهمة، وبيان أثرها في نظرية كانط الخاصَّة بالمعرفة النَّقدية التي كان يأمل تكوينها، ومن ثم الكشف عن العلاقة فيما بين ملكة الفهم، من جهة، و(الأحكام) من جهة أخرى؛ فالمعرفة، في نظر كانط ورؤيته المعارفية أو الابستمولوجية، ليست انعكاساً للموضوعات المتأتية إلى فكرنا من الخارج بواسطة الانطباعات الحسية، إنما هي عبارة عن عملية حُكم يصدره فهمنا على الموضوعات والأشياء.
إن لائحة الأحكام عُدَّت، من وجهة نظر كانط، وبحسب الدكتور رسول محمد رسول، الأساس الرُّباعي الذي صنَّف عليه كانط لائحة المقولات. لهذا، تناول الباحث في (الفصل الرابع) علاقة المقولات بالأحكام، وتبينّتُ العلاقة بين مقولات كانط ومقولات أرسطوطاليس، وحدَّدت الخصائص التي تتميز بها مقولات الأول على الثاني، وانتهى إلى تحديد دور المقولات في ملكة الفهم، وكذلك تالياً في بناء المعرفة النَّقدية حسب ثوبها الكانطي.
إن العلاقة بين عناصر الحساسية أو عناصر عوالم الحس والإحساس، أي المكان والزمان بوصفهما حدوساً حسية، وبين المقولات والأحكام من قبل، هي علاقة لما تزل غامضة، بل غير ممكنة ما لم تتوافر بعض المقاربات التي توصل هذه العلاقة بين الطرفين.
وبناء على ذلك، درس رسول في (الفصل الخامس) عدداً من المفاهيم الأساسية في هذا المجال مثل مفهوم (الربط أو التأليف)، ومفهوم (وحدة الإبصار التأليفية)، ومفهوم (المخيِّلة)، ومفهوم (الرُّسوم أو الخطاطات أو الشَّيمات)؛ حيث إن هذه المفاهيم تُعد، من وجهة نظر كانط، أدوات فاعلة للتوصيل بين مَلكتي الإحساس والفهم، أي بين المكان والزمان والمقولات والأحكام في عالم الذهن والعقل.
ومع هذا، لم تكن هذه المقاربات، وبحسب المؤلِّف، كافية أيضاً لخلق معرفة نقديَّة ممكنة من حيث ارتباطها بالعالم الموضوعي؛ عالم الأشياء والموضوعات، وأيضاً وعالم الفهم وعالم المفاهيم القبلية والمجرَّدة. وفي (الفصل السادس) يلقي الكاتب الأضواء على ما يجعل كل هذه المفاهيم تضم إمكانية الانطباق على الموضوعات والأشياء؛ فلذلك لجأ رسول إلى العرض التفكُّري للمبادئ التركيبية القبلية المحضة التي تسمح بانطباق مفاهيم الإحساس ومفاهيم الفهم القبلية المحضة على مُعطيات العالم الموضوعي انطباقاً من شأنه توليد معرفة نقديَّة ممكنة قبلياً، وهذه المبادئ هي: (مبدأ مسلَّمات الحدْس)، و(مبدأ استباقات الإدراك)، و(مبدأ تمثيلات التجربة)، و(مبدأ مُصادرات الفكر التجريبي).
لقد اعتمدت نظرية المعرفة النَّقدية لدى كانط، وكما يقول رسول في مقدمة الكتاب، "على الإرث النَّقدي الذي دشَّنه عدد من الفلاسفة قبله، وقد حاول في تفكُّره لبناء نظريته النَّقدية أنْ يتجاوز الأزمة التي وقعت بها التجريبية النَّقدية لدى جون لوك، والمثالية الاحتمالية أو الإشكالية لدى رينيه ديكارت، بل والمثالية الدغمائية لدى جورج باركلي".
ومن هنا، فإن المعرفة البديلة لدى كانت إنما تجمع بين عالم الذهن وعالم الحس في بوتقة واحدة، وهذاما يكشف عن طبيعة التفلسف النقدي لدى الفيلسوف الألماني إمانويل كانط.