نزيهة الدليمي: علامة مضيئة في تاريخ العراق الحديث

نزيهة الدليمي: علامة مضيئة في تاريخ العراق الحديث

عبد الرحمن جدوع التميمي
الدكتورة نزيهة الدليمي رائدة نسائية، ومكافحة وطنية، وخبيرة في شؤون المجتمع العراقي، ولدت في بغداد عام1926م، تفوقت في دراستها حتى دخلت كلية الطب في بغداد،، فكان أول احتكاك سياسي لها اثناء حركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941م، وايامها كانت في المدرسة الثانوية، فأكدت لزملائها أن هذه الحركة نهاية للوجود البريطاني في العراق،

فنزلت الى ساحة المدرسة تهتف ضد الاستعمار البريطاني بروح وطنية عالية، لم ينتابها أي خوف أو وجل، وفي كلية الطب برز نشاطها السياسي وانذاك بدأ ظهور حسها الوطني لرؤيتها اوضاع البلاد المتردية ومن استغلال لثرواته، إذ كانت ذات روح حماسية ضد الاستعمار وكل من يطمع في العراق، حيث شاركت زملائها الطلبة بحلقات نقاشية تتناول الاوضاع السياسية العراقية، وكيفية بلورة دورهم في الوقوف ضد الاستعمار البريطاني والدفاع عن حقوق الفقراء، حيث بدأت تتأثر باراء زملائها من ذوي الافكار والميول الديمقراطية.
ففي عام 1942م وعن طريق زميلتها فكتوريا نعمان، كان لنزيهة الدليمي نشاط نسوي وذلك من خلال مشاركتها بأول جمعية نسائية عرفت بـ ” الجمعية النسائية لمكافحة النازية والفاشية “، وظلت مواكبة لنشاط هذه الجمعية حتى غير اسمها الى ” الرابطة النسائية في العراق”، حيث اصبحت نزيهة الدليمي احد ابرز الاعضاء فيها ولم تترك اي فعالية الا وكان لها المشاركة الفعالة فيها، حتى اصبحت ضمن الهيئة الادارية للجمعية، وقد صدر عن هذه الرابطة مجلة عرفت بـ ” مجلة تحرير المرأة “، وكان لنزيهة الدليمي كتابات كثيرة فيها تناولت فيها واقع المرأة العراقية، ومن هنا جاء قرارها في الانتماء الى حزب التحرر الوطني وعندما لم يحصل الاخير على الاجازة انتمت الى الحزب الشيوعي وذلك عام 1947م، وبعد عام من العمل نالت شرف العضوية فيه، وبعد تخرجها من كلية الطب عملت في اماكن عدة منها المستشفى الملكي والكرخ والسليمانية وكربلاء وكان للحكومة من وراء نقلها في هذه الاماكن هو اضعاف نشاطها السياسي، الا ان هذا التنقل جعلها على علاقات واسعة ووطيدة مع مختلف فئات المجتمع العراقي وخصوصاً الفلاحين والنساء، حيث اصبحت على اطلاع واسع باوضاعهم المتردية سواء الاقتصادية او الاجتماعية او الصحية، ومن هنا بدأت تفكر في تأسيس جمعية تعنى بحقوق المرأة العراقية حيث أسست ” جمعية تحرير المرأة” واصبحت على رأس ادارتها حيث دعمت المرأة وطبقات المجتمع العراقي بمختلف توجهاتهم.
وبالاضافة الى نشاطها الداخلي فقد كان لها مشاركات دولية منها مشاركتها في مؤتمر النساء العالمي السنوي الذي اقيم في كوبنهاكن عام 1952م، ومن هذا المؤتمر اصبحت جمعية ” تحرير المرأة” عضواً في الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي، واصبحت الدكتورة نزيهة الدليمي عضواً دائماً في سكرتارية الاتحاد، وفي عام 1954م كان لها مشاركة اخرى في حركة انصار السلام لتوحيد القوى الوطنية بجبهة اطلق عليها ” الجبهة الوطنية المتحدة”، ولمناصرتها للسلام والحرية لشعبها وشعوب العالم اجمع، ساهمت في مؤتمر السلام العالمي عام 1956م في استوكهولم، اضافة الى مساهماتها في الحركات الوطنية الداعمة لحقوق المرأة والدفاع عنها.
وبعد ثورة 14 تموز عام 1958م وما خلفته هذه الثورة من تغييرات لمسار العراق داخلياً وخارجياً خصوصاً تحويل نظام الحكم من الملكية الى الجمهورية، ازداد دور الدكتورة نزيهة الدليمي في النهوض بواقع المرأة العراقية، ودعمها حيث استقبلت العديد من النساء كعضوات في رابطة الدفاع عن حقوق المرأة العراقية وذلك بتوعيتهن في ممارسة حياتهن والمطالبة بحقوق المرأة، حيث شرحت الدكتورة نزيهة الدليمي ما ستقدمه الثورة من اهتمام بالمرأة العراقية، وتوسعت هذه الرابطة إذ اصبحت تضم عدة فرق نسائية تعمل جاهدة في سبيل مشاركة المرأة الفعالة الى جانب الرجل في شؤون البلاد، وتوسيع مشاركة المرأة في صفوف الحركة الوطنية والمحافظة على الاستقلال الوطني في العهد الجمهوري، من خلال تعميق الوعي الوطني بين صفوف النساء ودعوتهن للانتماء الى المقاومة الشعبية ضد من يحاول المساس بالوحدة الوطنية.
وكان للدكتورة نزيهة الدليمي من باب حبها للسلام العالمي، دعوات لشجب الاحلاف والتكتلات الدولية وتحريم الاسلحة التي تهدد الآمن والسلام العالمي، حيث شكلت لجنة لرعاية الطفولة والامومة في بغداد والمطالبة بحل مشاكل المرأة واعطائها الحق في العمل واختياره بحرية، وضمان تكافؤ الفرص والتعليم والمطالبة بجعل التعليم الزامياً للبنين والبنات، والعمل على تغيير النظرة القديمة الى الزواج، وتوفير حقوقها السياسية المتمثلة في حق الانتخاب وحق الترشيح.
ونظراً لكفاحها ونضالها الطويل في سبيل التحرر الوطني دعاها الزعيم عبد الكريم قاسم وقد لبت الدعوة وذهبت الى وزارة الدفاع راكبة الباص رقم (4) المتوجه الى منطقة باب المعظم وذلك لبساطتها وتواضعها، ونتج عن هذه الدعوة تكليفها بتولي وزارة البلديات والاشغال، وتعتبر الدليمي أول وزيرة عراقية، كما أنها أول امرأة تتولّى منصب الوزارة في العالم العربي، واستمرت في سعيها لتحقيق اهدافها الاساسية في التخلص من التبعية للاستعمار والاحتكارات الاجنبية، وكان لها دور كبير في صوغ قانون الأحوال الشخصية العراقي عام 1959م، فضلاً عن دورها في إنشاء ضاحية الثورة شرق بغداد، والتي تسمّى حالياً “مدينة الصدر”، علماً أنها لم تتولى الوزارة كممثلة لحزبها بل لما تتمتع به من قدرات وكفاءات في تولي هكذا وزارة.
وقدمت الدكتورة نزيهة الدليمي اثناء استئزارها لوزارة البلديات والاشغال خدمات كثيرة على الرغم من صغر فترة توليها الوزارة التي لم تدم سوى عشرة أشهر، لكنها حاولت تقديم خدمات البلدية لكافة مناطق العراق، وذلك من خلال النزول الى ميدان العمل والاشراف المباشر على تنفيذ المشاريع، وزيارتها لبعض المناطق منها الزعفرانية في الوقت الذي كان اهلها بأمس الحاجة الى زيارة مسؤول وتقديم الخدمات والاطلاع على اوضاعهم، حيث تفقدت المنطقة ووعدت اهلها خيراً في تنفيذ مطالبهم، ولم تمضي ايام على زيارتها الا وبدأت المعدات بمشروع تبليط شوارع المنطقة، فأوفت بوعودها فقد ابدى اهالي الزعفرانية لها الحب والتقدير، وقد وجهت الدكتورة نزيهة الدليمي بعقد مؤتمر جمعت فيه كل مهندسي مشاريع الماء والكهرباء في العراق وذلك لوضع دراسة فنية لمشاريع الماء والكهرباء في كل لواء وقضاء وناحية سواء من ناحية اقامة مشاريع جديدة او توسيع المشاريع القائمة، حيث كلفت المختصين باجراء مسح دراسي شامل لمشاريع الماء في العراق على ان يتم تقديمه خلال شهرين، ومسح اخر لمشاريع الكهرباء وأن يتم هو الاخر خلال ستة اشهر، وكان الغرض من ذلك التوجيه معرفة الوزارة لاحتياجات البلديات ووضع خطط مستقبلية على اساسها، وقد اصدرت قراراً لكافة مديريات الوزارة منعت بموجبه منعاً باتاً فصل اي عامل من عمال البلديات لكونهم اعضاء في النقابات الخاصة بهم، حيث اعادت جميع العمال الذي فصلوا قبل هذا القرار، وكان هدفها منذ توليها الوزارة ان يكون رؤساء البلديات واعضاء هيئاتها منتخبين وأن لا يتم تعينهم من قبل الحكومة الا أن ذلك لم يتم بسبب رفض الزعيم عبد الكريم قاسم، ولم تقف عند هذا الحد فقد سعيت الى تطوير خدمات البنى التحتية لاسيما فيما يتعلق بصحة الناس، وكان لها الدور في تعيين الكفاءات من حملة شهادات الماجستير والدكتوراه في المناصب القيادية في الوزارة، ومنهم انذاك محمد الجلبي العضو في هيئة ادارة صحة ماء بغداد، والاستاذ عبد المهدي القيم مدير عام مصلحة المجاري في بغداد، كونه من المهندسين الاكفاء ويحمل شهادة الماجستير في الهندسة الصحية وهندسة الانشاءات من جامعة ميشغان الامريكية.
بعد عام 1961م مرت بحياة الدكتورة نزيهة الدليمي مصاعب عدة تمثلت بهجرتها عن ارض الوطن بسبب تعرضها لهجمة شرسة من قبل المتشددين كونها ساهمت في تشريع قانون الاحوال الشخصية، كما حكم عليها بالسجن المؤبد غيابياً عام 1964م، لكنها عادت الى الوطن بعد عام 1968م، فكانت الاجواء غير مناسبة لاستمراها في عملها السياسي ونضالها لنصرة المرأة العراقية فغادرت العراق مرة اخرى في عام 1979م وبقيت متنقلة في عدة دول حتى استقرت اخيراً في المانيا، وخلال فترة تنقلها ظلت مستمرة في الدفاع عن قضيتها فشاركت في حركة الدفاع عن الشعب العراقي ومعها شاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري وبعض الوطنيين العراقيين، وفي عام 1998م القت محاضرة في البيت الثقافي العراقي في هولندا بمناسبة الذكرى الاربعين لثورة 14 تموز 1958م حيث قالت ” لو ولدت ثانية لسلكت نفس الطريق، لان هذا الطريق كانت فيه سعادتي، فسعادتي في الكفاح ضد من اراد التخلف والتقهقر لمجتمعنا “، ولكونها شخصية عراقية مرموقة خصص مجلس الحكم المحلي في العراق عام 2004م مبلغاً رمزياً كراتب تقاعدي لها، وظلت الدكتورة نزيهة الدليمي في المنفى حتى وفاتها في 9 تشرين الاول عام 2007م في المانيا، فنعاها الرئيس العراقي جلال الطلباني حيث قال ” مني العراق بخسارة فادحة، بفقدان مناضلة بارزة وشخصية وطنية مرموقة هي الدكتورة نزيهة الدليمي أول وزيرة في تاريخ العراق والوطن العربي، المرأة التي امضت ستة عقود في سبيل حرية الانسان وسعادته “، ومن حبها لارض وطنها اوصت أن تدفن في العراق وبعد وفاتها تم دفنها في مقبرة الشيخ معروف في بغداد.
ولا ننسى شهادة الغارديان حول الدكتورة نزيهة الدليمي حين قالت: ” كانت امرأة بارزة، صافية القلب، عطوفة كالام تيريزا، وطبيبة نبيلة السلوك في مهنتها، لم يصبها الجشع، فكانت تداوي المرضى بحنان، كما كانت مناضلة نسائية مارست نضالها في عهود العراق في ادوار العلو والانحدار من دون كلل ولا ملل، كانت شفيعة الفقراء، لا سنية ولا شيعية، ولا مسيحية ولا مندائية ولا عربية ولا كردية، ولا أيزيدية ولا تركمانية، بل جميعهم في آن واحد، عملت على جعل المرأة مساوية للرجل وناصرها في ذلك الكثير من رجال الدين التقدميين، إلا أنها حتى في أيام العز لقيت الامرين من هجمات المتزمتين”.
هذه هي المرأة العراقية الاصيلة التي لا تتوانى في خدمة بلدها والوقوف بجانب اخيها الرجل صفاً بصف، دفاعاً عن ارض العراق ومساندة كل من يحتاج الى العون والمساعدة، والنظر بما تعانيه المرأة العراقية من مصاعب سواء النزوح أو التهجير أو غياب المعيل،، فالعراق الأن بحاجة الى هكذا نموذج يحتذى به خاصة لما يمر فيه العراق وما ينفقه من اموالاً هائلة لكل وزارة والبلديات من ضمنها ولكن لا فائدة من كل هذه الاموال في غياب المتخصص والنزيه، ومهما كتبنا واستذكرنا فلن نوفي حقها، رحم الله الدكتورة نزيهة الدليمي وادخلها فسيح جناته.