نزيهة الدليمي:  للمرأة العراقية قضية..!

نزيهة الدليمي: للمرأة العراقية قضية..!

رشيد الخيون
اشتهرت نزيهة الدليمي (1924 ـ أكتوبر 2007) في آفاق العراق، ناشطة يسارية منذ الأربعينيات، وقيادية منذ الخمسينيات، وطبيبة طافت في معظم مدن وقرى البلاد، وأول وزيرة. وعلى الرغم من أن توزيرها لم يكن تمثيلاً للحزب الشيوعي العراقي، مثلما يُشاع، بل لشخصها وتمثيل بنات جنسها، إلا أن هتافات العوام طرحتها على الألسن موضوع خلاف.

هذا يصيح: «نزيهة صارت بالحكم موتوا يا بعثية»، وذاك يرد: «نزيهة... على الجسر وتمزلك المهداوي»!
في أجواء (1959) لم يكن المرسوم (480)، الذي أصدره رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم (قُتل 1963) والقاضي بتوزير امرأة، مستهجناً! ولا يفسر هذا بما جلبته ثورة 14 تموز من انفتاح، إنما كان تراكماً سابقاً. ففي الخمسينيات في ظل العهد الملكي حصلت فورة مدنية، منها صياغة قانون موحّد للأحوال الشخصية، عرقل رجال دين صدوره، ليصدر مع الإضافات بعد الثورة. ويُذكر للدليمي أنها كانت المحرك لإصدار ذلك القانون. ذلك إذا تأكد أن رابطة المرأة التي كانت تقودها بلغت أكثر من أربعين ألف منتسبة. لكن، الفلك عاد القهقرى إلى ما كان عليه في دستور (1925)، وأخذت المادة (39) من الدستور الجديد تقلق النساء، وهنَّ أكثر خلق الله عدداً بالبلاد. رأيت واحدة من حفيدات الدليمي تعرض لجلال الطالباني امتعاضها من تثبيت تلك المادة، وكانت عليها إمارات التدين وتتحدر من أسرة معروفة بديوانها الأدبي ببغداد. كان رد الرئيس توفيقاً، فهو لا يمتلك صلاحيات الرؤساء السابقين، ويعمل مع قوى وكأنها ابتغت السلطة من أجل هذه المادة! وسبق لها أن عرضت القضية في مجلس جمعنا بمسعود البارزاني، فوعدها أن يعمل ما في وسعه لإزالة تلك المادة، التي تُشتت العراقيين: هذا يزوج بعمر تسع سنوات، وذاك يبيح الطلاق بلا شهود، وهذا لا يشترط الزواج بشهود، وهذا يورث البنت، وذاك لا يبيح.. إلى آخره.
تكاثرت ظاهرة الوزيرة ونمت، وأصبح لبغداد وزيرات، وبرلمانيات ناشطات في قضيتهنّ، على الرغم من الهيمنة الفقهية على عدد منهنَّ. إلا أن الرجال البرلمانيين، من العمائم والأفندية، لم يتضايقوا من ترأس زميلتهنَّ زكية إسماعيل حقي (تموز 2006) لجلسة أو أكثر من جلسات البرلمان، في غياب الرجال من الرئيس ونائبيه (مقال للمحامي طارق حرب).
وإذا عدنا إلى ماضي بغداد الغابر، نجد نموذج الدليمي تحقق في القهرمانة (ثمل)، عندما اُسندت إليها إدارة ديوان المظالم (التنوخي، الفرج بعد الشدة). وصحيح أن الدولة آنذاك كانت في قبضة أم المقتدر (ت 320هـ)، ولربما هي التي دفعت لهذا التعيين، غير أن إمامين لهما حضورهما ببغداد العباسية: أبو حنيفة (قتل 150هـ)، وابن جرير الطبري (ت 310هـ) جوَّزا ولاية النساء للقضاء (الأحكام السلطانية). وما أشبه رد المظالم بالقضاء! كان المستوى البغدادي آنذاك، كما يبدو، شبيهاً بأجواء تعيين أول حقوقية عراقية، وهي صبيحة الشيخ داوود قاضيةً (1956)، ورئيسةً لمحكمة الأحداث. والحقوقية واثبة السعدي عضواً في المحكمة، ومحاضرة في المعهد القانوني، وكم من الرجال القضاة تعلموا على يدها. ولا نتوقف عند رفض إسناد وظيفة القضاء للمحامية بالنجف (2003)، فهي مدينة لها قيودها وليبراليتها أيضاً، بل نلتفت نحو القاضية التي تجلس إلى جنب رئيس المحكمة العليا، التي حاكمت أعوان السلطة السابقة. حقاً لنزيهة الدليمي التسربل بلقب «عميدة الحركة النسوية العراقية»، و«الشخصية الوطنية المرموقة»، حسب تأبين رئاسة الجمهورية. وليس لمَنْ رغب بتذييل كتاب «الأوائل» أبي هلال العسكري (ت 395 هـ) نسيان أنها أول وزيرة في تاريخ العراق والعرب أجمعين. لم تفارق الدكتورة، مثلما يناديها المحبون، معنى اسمها، فقد ظلت نزيهة، ويُشهد لها، وهي وزيرة البلديات، أنها أغضبت قيادياً في حزبها لامتناعها من تعيين شخص غير مؤهل (حسب المحامي خالد عيسى طه).
سمعتها عبر فلم أعدته لها أنعام كه جه جي، تقول: «نودي عليَّ لمقابلة الزعيم عبد الكريم، فذهبت إليه راكبةً الباص، وحينها كلفني بوزارة البلديات»! وظلت وزيرة لفترة تكفيها لو تخلت عن اسمها، مثلما هو الفساد اليوم، ألا تعود لركب الباص العمومي، وها هي انتقلت إلى بارئها ولم تدخر شيئاً، سوى عضويتها في مؤتمر السلام العالمي جنباً إلى جنب مع صاحب العمامة البيضاء الشيخ عبد الكريم الماشطة (ت 1959)، وما تركته في نفوس مَنْ أنقذتهم من (البجل)، وهو مرض معدٍ انتشر في أرياف العراق بداية الخمسينيات، وما لها من حصة في إسكان أهل الصرائف من أطراف بغداد بمدينة الثورة.