في سرده لسيرته الذاتية.. المؤرخ هوارد زين يكتب التاريخ الشعبي للولايات المتحدة

في سرده لسيرته الذاتية.. المؤرخ هوارد زين يكتب التاريخ الشعبي للولايات المتحدة

مدني قصري
عرف المؤرخ الاميركي هوارد زين، على غرار المؤرخ اريك هوبسباون نجاحاً مهماً وغير متوقع بكتابه تاريخ الولايات المتحدة الشعبي. فبعد صدور كتاب المؤرخ البريطاني جاء دور سيرته الذاتية في الصدور بالفرنسية. على عكس "الجندي غير النظامي" للمؤرخ هوبسباون نلاحظ ان سيرة "زين" الذاتية لا تهدف الى سرد او تحليل مسار حياة برمتها بقدر ما تهدف الى وصف حركة اجتماعية وسياسية من الداخل، هذه "الحركة التي تزيل الوضع الحالي للأشياء".

لذلك فان شخصية المؤرخ تختفي في مناسبات عديدة وراء المعارك الكبرى للشعب الاميركي، اي ان مساره الفردي ياتي بمثابة خط التوجيه في وصف نشاطات سياسية ومعارك اجتماعية تخوضها كتلة مناضلة أظهر منها الكاتب وجوها ناصعة. ياتي الكتاب وصفا للافراد وحركاتهم، اكثر مما يصف مسارا فرديا برغم ما يبرزه الكاتب من عناصر اساسية لهذا المسار. على هذا النحو نرى ان المناضل اليساري الراديكالي لا يذيب الفرد مطلقا ضمن المجموعات السوسيوسياسية الكبرى ("الكتلة"، "الشعب"، "الحركة العمالية") طالما "ان الافراد يشكلون العناصر الضرورية، وطالما كانت حياتي مليئة بهؤلاء الافراد العاديين العجيبين، الذين منحني وجودهم وحده كل الأمل".
لذلك حرص الكاتب على ان يرسم بورتريهات قوية ومؤثرة لمناضلين، ولاسيما النشطاء السود الذين عبروا مدن جنوب الولايات المتحدة غير مبالين بالمخاطر التي كانت تهدد حياتهم، سعيا لتحسيس الناس وتوعيتهم بالمعركة التي كانوا يخوضونها من اجل الحقوق المدنية للسكان السود الذين سحقتهم عنصرية خانقة برع الكاتب زين في وصفها ايما براعة. هذا وبالتناغم مع رفضه لبناء هذه السيرة الذاتية حول شخصه هو فان المؤرخ لم يختر مسارا كرونولوجيا (اي تسلسلا تاريخيا) بل آثر الاسلوب المبحثي الذي بناه حول المراحل التاريخية الكبرى للكفاحات الشعبية التي هزت بلاده:الكفاح من اجل الحقوق المدنية، والكفاح ضد الحرب في الفيتنام، ثم بوجه عام الكفاح من اجل تغيير المجتمع الاميركي (العدالة الاجتماعية، الجامعة، وضع العمال). في داخل هذا الاطار وحده يستعرض المؤرخ زين تفاصيل حياته الشخصية: ففي وقت مبكر تأقلم هذا الشخص المنبثق من عائلة عمالية قادمة من شرق اوروبا مع وضع العمال في اميركا ومع المثل الاشتراكية قبل ان تقطع الحرب مساره. في خضم هذه الحرب وعَى ألوان الرعب والفظاعة التي خلقتها الحروب المسلحة، وما لبث ان انغمس في حب السلم ونبذ العنف. هذا الجندي القديم منحته الدولة في الاخير منحة ليتابع الدراسة في الجامعة، فهيئت له هذه الدراسة حياة مهنية جامعية. لكن هذه الفرصة لم تكن ارتقاء اجتماعيا من شانه ان يغير خياراته السياسية او يشغله عنها، لان زين ما لبث ان خاض في الجامعة كفاحات اساسية الى جانب زميلاته الطالبات السود. وها هو اليوم، رغم تقدّم سنه، يُجند نفسه من جديد الى جانب نضال نعام تشومسكي ضد غزو العراق من قبل حكومة جورج بوش الابن. قد ناسف لكون ان تاملات المؤرخ وبحوثه العديدة لم يرد ذكرها الا قليلا من قبل المؤرخ نفسه، لكن الناشرين ضموا الى الكتاب مقتطفات من كتبه ومن مقالاته السابقة بهدف تعميق التحليلات، ومن اجل اثارة التأمل الدائم حول مكانة المؤرخ المناضل داخل المجتمع. لقد سعى زين بكل قواه لان يضم التزامه اليومي بقضية الشعوب الى كل كتابة من كتاباته، وهو ما جعل منه تلك الشخصية البارزة المميزة في عالم المثقفين الاميركيين.

عن لومانيتيه