احمد سالم يتكلم عن اسمهان

احمد سالم يتكلم عن اسمهان

دخل محرر الاثنين الغرفة التي يرقد احمد سالم في مستشفى القصر العيني وجده جالساً وحده يبكي بصوت لا يسمعه، وقد اسند رأسه بيده، ولم ينتبه سالم الى وجود المحرر إلا بعد لحظات..
وقطع المحرر عليه هدوءه وسأله:
لماذا تبكي؟
- فمسح احمد سالم دموعه، وتكلف بابتسام، وقال: كلا..

وكان المحرر قد سمع من ممرضيه انهم رأوه حزينا كما بدا بعد حادث مقتل اسمهان. ولم يكن متألما بعد حادث إطلاق الرصاص، وبعد القبض عليه كما كان في ساعات التي تلت سماعه الخبر.. وإنه في تلك الليلة لم يتم حتى استعانوا بثلاث حقن من المورفين ليستطيع ان يغمض عينيه لينام!
وسأله المحرر كيف بلغك الحادث:
قال احمد سالم: جاء في ظهر يوم الجمعة احد التمورجية وقال ان ستوديو مصر يعزيك تليفونيا في اسمهان، لانها قتلت وماتت في طلخا. فلم اصدق الخبر نهرت التمرجي وقلت له: هذا هزار سخيف، وظننت ان احد السخفاء اراد ان يدبر مقلبا، وقلت لنفسي: هل انا في حال يجوز فيها الدعابة؟!
وانتشر الخبر في المستشفى، ولكن بقيت مصمما على ان هذا لا يمكن ان يكون، ما الذي يدعو اسمهان للسفر؟.. واقبل بعض اصدقائي يؤكد النبا ويقولون: ان ستوديو مصر هو الذي يذيع النبأ، فقلت لهم لا بد انها دعاية للفيلم الجديد.. وهي دعاية سخيفة في كل حال!
وفي الساعة الثالثة اقبل احد اصدقائي في يده جريدة المقطم وفيها النبأ منشور بالخط العريض، فاطلعت على النبأ، ولم اصدق عيني! كيف يمكن ان تموت هذه الفتاة التي كانت كلها حياة! كيف تطوي الاعشاب المرأة التي كانت تحب حياة القصور والدمقس والحرير!
ولم ادرف دمعة واحدة، ولكني ان روحي تبكي من اجلها، شعرت ان خروجي عادت تفطر دما من جديد بعد ان كانت سكنت في الايام الماضية، وكنت اضيق بالجالسين معي، كنت اود لو يتركوني وحيدا لابكيها بيني وبين نفسي، ولم اشعر يوما اني مقيد في فراشي إلا في تلك اللحظة، فقد كنت اود ان اتحامل على نفسي، واذهب اليها لاقبلها الليلة الاخيرة، لأسند رأسها بيدي، واقول لها اني لا زلت احبها.. لاتاديتها يا سمو الاميرة كما كنت ادعوها عندما اداعيها، لاكون الى جانبها في محنتها الكبرى.
انني في تلك اللحظة نسيت كل شيء. نسيت ما قالته الصحف عني على اسائتها! نسيت الامي واحزاني وخيبة املي، نسيت ما نسبوه الى ظلماً، نسيت كل شيء إلا انني احببتها واحبها وساعيش طول حياتي احبها..
قال المحرر.. يقول اصدقاء اسمهان انها كانت تتوقع دائما ان تمون مقتولة، وانها كانت تصرح بان"عمرها قصير". فقال احمد سالم: هذا ما اسمعهلأول مرة، ان اسمهان كانت واسعة الامال.
كانت تحب الحياة، كان اسمها امال وكانت حياتها آمالا. وكنا نتكلم دائما عن مشاريعنا بعد الحرب، عن الحياة التي تريدها لنا، حتى بدأنا نضع مشروعا المسافر الى امريكا، وتمثل افلاما في هوليوود، وكنا نتحدث طويلا عن المجد الذي ينتظرها، عن روايات الاوبرا التي ستظهر فيها..
وكان كل ما يؤلم اسمهان انها مضطرة ان تخرج من مصر، كانت تريد ان تبقى طول حياتها في مصر ولا تغادرها، ولهذا كان يبدو عليها دائما انها تتوجس خيفة من ان شيئا سيحدث. ولم يكن هذا الشيء الذي تخشاه هو الموت، وانما خروجها من مصر..
وليس ادل على انها كانت تحب الحياة من انها كانت.
ثم سكت احمد سالم قليلا، ومسح دموعه وسكت..
فالح عليه المحرر ان يتكلم فقال احمد باكيا: اننا كنا ننتظر حادثا سعيداً، فانا ابكيها وابكي ابني الذي مات معها.. قال المحرر: يقولون ان اسمهان تركت ثرة تقدر بعشرين الف جنيه.
فقال احمد سالم: لا اعرف، ولست مهتما بان اعرف.. فقال المحرر: ولكنك زوجها وسترت فيها بحكم القانون.
وصاح احمد غاضبا! انا ارث فيها؟
اني ارض ان امس مليما واحدا مما تركته.، اني اعلن اني متنازل عنه للخير.. ليبني به قبر يليق بها، او تنشأ به مؤسسة للفن الذي عاشت له وماتت وهي تفكر فيه.
ثم تتنهد وقال:
عند ما تعرف الحقيقة كلها سيعرف الناس كم ظلمني الذين صوروني رجلا اعيش على حساب النساء! انني عشت طول حياتي انفق كل ما املك على من احب.. ولعل سوء حظي كان نتيجة لايماني بانه لايجوز لرجل شريف ان يعيش على حساب امرأة، ان الرجل الذي تنفق عليه زوجته يصبح دلولا لها، اما انا فقد كنت استدين من اقاربي لاقدم الى زوجتي هدايا.. والرجل الذي عاش ينفق الالوف والمئات على النساء لاينزل الى مستوى الرجل الذي تنفق عليه النساء!
ولكن الصحف سامحها الله – صورتني هذه الصورة الشنيعة، واصدرت حكمها علي، ونفذت الحكم دون ان تسمع دفاعي عن نفسي، ولست اريد ان اقول انها تحاملت علي ولكني اقول انها لم تنصف الحقيقة، ان المسألة كلها كانت خلافا بين زوجين عاشقين..
قال المحر: يبدو عليك انك لا زلت تحب اسمهان.
فاعتدل احمد سالم في جلسته ثم قال في حسرة مؤلمة:
- احبها؟ ان كلمة الحب لا تكفي لتدل على شعوري نحوها، الى اني اعتقد انها ماتت وهي لا تزال تحبني، قد كانت الي قبل موتها ترسل الى رسولا يقول لي انها لا تزال تحبني، وان الرصاص الذي اطلقته لم يقتل حبها بل زاده اشتعالا، وانها تعرف اني لم اقصد قتلها..
وارسلت لي قبل موتها تقول لي"اذكر جيدا يوم 11 من كل شهر ففيه تزوجنا،وقد اعتدنا ان نحتفل بهذا اليوم، وكنت احب ان احضر الى المستشفى لاحتفل به كعادتنا، ولكن الظروف تمنعني من ذلك، ففي نفس اللحظة التي تزوجنا فيها فكر في فانني ساكون جالسة وحدي افكر فيك، وناجيني من بعيد فاني ساسمعك. وقبلني في وحدتك فاني ساحس حرارة قبلتك"..هذه الرسالة حملها الى رسول قبل وفاة اسمهان بايام.. فهل تعجب اذا بقيت حتى اليوم احبها!
ولعلك قرأت في الصحف انهم وجدوا مع جثة اسمهان مجوهرات عليها اسم احمد سالم، اتعرف ما هي هذه المجوهرات؟ هي خاتم زواجنا الذي كانت تحمله في اصبعها الى ان ماتت، والتي لم تخلعه رغم حادث اطلاق الرصاص.
ثم بكى وقال:
- انني اعتقد انها ماتت وهي لا تزال تحبني، انها ضحية وانا ضحية كذلك..
وحبنا كان ضحية اولئك الذين تدخلوا ليفسدوا الحياة بين زوجين سعيدين..
قال المحرر: ألم تحاول ان تقتل اسمهان
- قال وشفتاه ترتعشان من الحزن وقد بدا عليه الاعياء من طول الحديث:
- انا اقتلها؟ اني لم احاول ان اقتل اسمهان، ولا يمكن ان اقتل اي انسان، فما بالك بالمراة التي احببتها اكثر من كل شيء.. ثم سكت وقال:
- كنت اريد ان اعيش لاثبت للناس اني بريء.. ولكن اليوم بعد ان ماتت اسمهان لم اعد اهتم هل مت.. ام عشت بلا امل وبلا قلب.. وبلا اسمهان؟

الأثنين والدنيا /
حزيران- 1944