ذكرى وفاة الملك فيصل الاول في 8 ايلول 1933..ماسينيون: فيصل الأول...كما عرفته

ذكرى وفاة الملك فيصل الاول في 8 ايلول 1933..ماسينيون: فيصل الأول...كما عرفته

اعداد: رفعة عبد الرزاق محمد
على الرغم من الكتب والمقالات الكثيرة التي كتبت عن الملك فيصل الأول، فان الكثير مما يتعلق به بقي بعيدا عن التحقيق والبحث، ومن هذا الكثير ما كتبه المستشرق الفرنسي الكبير لويس ماسينيون. فقد نشرت مجلة (النفير) التي صدرت ابان الحرب العالمية الثانية عن الدوائر الاعلامية للجيش البريطاني في منطقة الشرق الاوسط، سلسلة من مقالات لماسينيون عن ذكرياته مع رجال القضية العربية في الربع الاول من القرن العشرين،

ضمنها شيئا مفيدا عن الامير فيصل بن الشريف الحسين، وجدت الاشارة اليها لاتخلو من فائدة تاريخية.
كان ماسينيون نائب ضابط في الجيش الفرنسي في الشرق،ثم انظم الى البعثة الفرنسية البريطانية عام 1915،فابدى خدمة فائقة نالت اعجاب رؤسائه،فاصطفاه جورج بيكو مساعدا له في الشؤون العربية والاسلامية.ثم اختصه السير مارك سايكس بان يكون محررا لمحاضر الجلسات التريخية التي عقدت على ظهر البارجة (نورث بروك) في الايام 16- 20 مايس 1917، وحضرها الشريف الحسين ونجله الامير فيصل. ومن هنا بدات صلة ماسينيون بفيصل(*)
لقد ابدى ماسينيون ودا كبيرا للعرب ولتراثهم في كل ما كتب حتى ان لورنس قال له: انك تحب العرب اكثر مني.فلا غرو ان يبدي اعجابا عميقا بشخصية فيصل منذ ان تعرف عليه عام 1917 حتى لقائه الاخير به عام 1930. وهي شهادة فرنسية بحق فيصل الامير والملك العربي الكبير الذي قدر له ان يلعب دورا فاعلا في التاريخ العربي الحديث. وماسينيون (1883 – 1962) في مقدمة المستشرقين الاوربيين الذين قدموا خدمات ثقافية كبيرة للفكر العربي،انتزجت بشكل او اخر مع عملهم في خدمة حكوماتهم.
ذكر ماسينيون انه في 17 مايس 1917 راى فيصل لاول مرة في منطقة الوجه شمال الحجاز، عندما كان يهم بالصعود الى مدخل (نورث بروك) بشكله الرشيق،لينظم الى المحادثات الرسمية التي عقدها جلالة الملك حسين مع الحلفاء. يقول ماسينيون: لقد امعنت النظر في وجه الامير فيصل وقسماته الجميلة الاخاذة، كان صاحب فتوة وثابة لزعامته للثوار العرب،لكنه يعود الى الهدوء بسرعة فائقة ازاء هدوء ابيه وصبره ومزاجه الرقيق...ولقد تحقق لفيصل تدريجيا ان القومية العربية التي قدر بانه سيكون قائدها ودليلها،عليها ان تشق طريقها وسط المعارضة الاجنبية الكثيرة فاثبت انه لا يخشى شيئا في سبيل تنفيذ طلباته.
وعندما اصبح فيصل قائد الجيش العربي، سنحت الفرصة لماسينيون بالالتحاق بركب الامير،فيقول: في 12 تشرين الثاني 1917 استقدمني اللورد اللنبي من القاهرة الى مقره في غزة واوعز الي بالسفر عن طريق عكا بصفتي ضابطا فرنسيا مساعدا لفيصل. وقد جاء هذا التعيين بموافقة وزارة الخارجية البريطانية. غير ان معارضة للتعيين بدرت من لورنس الذي لم يرق له ان يدرك مستشرق فرنسي عارف بحركة القومية العربية وهو يلج الى صميم حياة الامير العربي الذي سيلعب دورا رئيسا في اقامة الاستقلال العربي.
...ولم استطع الا بعد سنتين وفي باريس ان اعرف الامير وخلقه حق المعرفة فقد خولني كليمنصو رئيس وزراء فرنسا بالمثول بين يدي الامير العربي اثناء ابرام الاتفاقية العربية الفرنسية وعينت لتيسير مهمة بعثته من 25 تشرين الثاني1919 حتى كانون الثاني 1920، فوفقت الى التحدث اليه يوميا. لقد كان يتحدث بهدوء وثقة بالنفس ويستحوذ وهو في سموه على عواطف محدثيه والتغلغل الى قلب السامع والحصول على ثقته...لقد اعجبت بطرقه في الدهاء لمداراة رفاقه من جماعة الاستقلال العربي كرستم حيدر و عوني عبد الهادي.
ويستمر ماسينيون في حديثه عن ذكرياته مع فيصل، فيقول: وحين ازمع فيصل الذهاب الى باريس، طلب مني ان اعمل للمعاونة في دمشق على وضع الاتفاقية العربية الفرنسية موضع التنفيذ، ولكن تعييني في (الكوليج دي فرانس) ابقاني في باريس وقد افهمني الامير بعينه النفاذة والنبيلة تكهنه بالتخوفات التي تنتابه. لقد فهمت ان الامير جاد تماما بسريرة صافية للاتفاقية، ولكن فاجعة ميسلون برهنت تمسك هذا الامير العربي بكلمته وعهده.
وعندما عدت الى دمشق في تشرين الثاني 1920 كان غيابه عنها شيئا طبيعيا. وقد رايت – للاسف – وجوب انقضاء سنوات وسنوات لكي تعود العلاقات العربية الفرنسية الى سابق عهدها... واستطعت ان اراه في عاصمته بغداد في 18 كانون الاول 1927 بعد ان سلمت على اخيه الامير عبد الله في عمان، فرايت وانا فريسة التاثر بالرجل الذي ظهر في سنة 1917 كانه مبعوث العناية الالهية للبعث القومي العربي، واتضح لي امله الكبير الذي لايتزعزع باليقظة العربية... ان مدينة بغداد هذه التي متعت ناظري برؤيتها عام 1927 (**) هي التي رضعت بها قبل عشرين عاما ثقافتي العربية الاسلامية الكلاسيكية وعلم الاجتماع الاسلامي مع ضيافة العلامة محمود شكري الالوسي (***) واسرته لقد وجدت بغداد وقد اصبحت بفعل مليكها وجهوده مركزا للتجديد العربي...لقد رايته في بغداد للمرة الاخيرة في 17 كانون الاول 1930. واكراما لذكراه كنت انطلق للتحنث كلما مررت ببغداد من خلال زيارة قبره فيها.
(*) ان جهود ماسينيون العلمية واثاره اكبر من الارتياب بسيرته وتحميل عمله في الدوائر العسكرية لبلاده فوق مايحتمل.
(**) كانت اول زيارة لماسينيون الى بغداد عام 1907 وسكن في بيت للاسرة الالوسية.وفيها وجد افاقا واسعة للبحث عن التصوف فضلا عن اهتمامه الرئيس بحياة الحلاج واثاره. وتكررت زياراته لبغداد في السنين اللاحقة
(***) كان الاب انستاس ماري الكرملي وصل الصلة بين ماسينيون والالوسي (ت 1924).وقد عبر ماسينيون عن احترامه للالوسي وجهوده العلمية مرارا.