أستاذ جميل ومنير بشير وسلمان شكر ونازك الملائكة...  البحث عن الشريف محيي الدين حـيدر

أستاذ جميل ومنير بشير وسلمان شكر ونازك الملائكة... البحث عن الشريف محيي الدين حـيدر

علي الشوك
سمعتُ باسم الشريف محيي الدين حيدر للمرّة الأولى أواسط الأربعينات، من صديقي وجاري جواد مهراد، ابن أحد اعضاء السلك الديبلوماسي الايراني في بغداد، وكان يدرس يومذاك العزف على الكمان في معهد الفنون الجميلة الذي أسّسه - أو أسّس فرع الموسيقى فيه - الشريف محيي الدين حيدر الذي يمتّ بصلة قربى إلى العائلة المالكة في العراق.

وكان صديقي جواد يحدثني عن معزوفات الشريف المذهلة على العود، ويذكر من بينها مقطوعة «كابريس»، مترنحاً بلحنها الآسر. وبعد أن استمعت إلى هذه المقطوعة، ومقطوعات أخرى للشريف، قام بعزفها تلميذه الموهوب سلمان شكر، أدركت أننا أمام موسيقى عربية جديدة، بأسلوب تأليفها وطريقة عزفها: التأليف يذكّر بأسلوب باغانيني وفرانز ليسْت، والعزف يتّبع طريقة الضرب على الوتر إلى الأسفل والأعلى في آن واحد، بخفّة تبدو كأن الضربتين ضربة واحدة، إلى جانب استعمال الموضع في العزف Position، وهو تحريك اليد اليسرى إلى الأعلى أو الأسفل على عنق الآلة الوترية العود هنا لكي تؤدي الأصابع أصواتاً - نوطات - أخرى. كأن يكون موضع اليد اليسرى في «البوزيشن» الأول مثلاً، أقرب إلى ملوى العود الذي يُشدّ إليه الوتر، والموضع الثاني أبعد عن الملوى، وهكذا.

ولا بد من الاشارة إلى أنه لولا الشريف محيي الدين حيدر وتقنيته المتميزة في العزف على العود، لما أنجب العراق موسيقيين ممتازين مثل سلمان شكر، وجميل بشير، ومنير بشير، وغيرهم، ممن تتلمذوا على يده. وكانت نازك الملائكة، رائدة الشعر العربي الحديث، من بين تلاميذه أيضاً. وهي تؤكد أن «لهذا الفنان طريقة فريدة في العزف والتدريس تعكس موهبته الفنية العظيمة». وتروي صاحبة «عاشقة الليل»: «... كنتُ أجلس في صف العود مسحورة، وكأني استمع إلى صلاة، وكان الشريف يكرر عليّ أن لي سمعاً موسيقياً حساساً وموهبة ظاهرة، ولكنه كان خائفاً عليّ أن يجرفني حبي للشعر، ويبعدني عن الموسيقى، وهو ما حدث بالفعل». وتصف حياة شرارة الشريف في كتابها عن نازك الملائكة، بأنه أشقر الشعر، أبيض البشرة، ضخم البدن، مهيب، له محيّا الملوك وجبروتهم في فرض إرادته على طلابه. وكانت نازك تهابه وتتمرن في البيت كثيراً حتى لا تخطئ في العزف أمامه.
وخلال لقاءاتي بسلمان شكر في العراق، منذ الستينات، ثم في لندن في الثمانينات، كان يذكر أستاذه الشريف محيي الدين حيدر بمزيد من الإكبار، ويتحدث عنه باعجاب لا حدّ له. وعلمت منه أن الشريف كان، إلى جانب العود، عازفاً ماهراً على التشيلو أيضاً، وأنّه عزف على هذه الآلة بصحبة أشهر العازفين العالميين، مثل بادريفسكي على البيانو، وياشا هايفتس على الكمان. ونقل إليّ سلمان تعليق ياشا هايفتس على مقطوعة «الطفل الراكض» للشريف محيي الدين حيدر: «لم أرَ طفلاً يركض بمثل هذه السرعة»، وذلك إطراءً لمعزوفته التي تعتبر حقاً من أصعب المعزوفات المؤلفة للعود، إن لم تكن أصعبها إذ ليس إداؤها في متناول أي عازف. وقد عزفها لي سلمان على عود أستاذه الشريف محيي الدين حيدر الذي أوصى بأن يسلَّم إلى سلمان بعد وفاته. ولا أزال أحتفظ بتسجيل لهذه المقطوعة مع مقطوعتين من تأليف الشريف، هما: «كابريس» و»ليت لي جناحاً».
وروى لي سلمان شكر ما رواه الشريف محيي الدين حيدر لتلاميذه، عن قصة اللقاء السياسي بين كليمنصو، رئيس وزراء فرنسا بعد الحرب العالمية الاولى، وعازف البيانو بادريفسكي عندما أصبح أول رئيس وزراء في بولندا بعد استقلالها العام 1919. في هذا اللقاء سأل كليمنصو بادريفسكي: «أأنت عازف البيانو الشهير؟» فردّ بادريفسكي بالإيجاب. فقال له كليمنصو: «لا للانحطاط!»، وكان يقصد الانتقال من الموسيقى إلى السياسة! والأرجح أن بادريفسكي روى هذا الحوار بنفسه للشريف.
ولا شكّ في أن العرب ذاكرتهم ضعيفة، فمن ذا يأتي اليوم على ذكر الشريف حيدر؟ من سمع به من الأجيال الجديدة؟ من قام بتسليط الضوء على دوره الرائد ومكانته المرموقة؟ قلت ألجأ في اقتفاء أثره إذاً إلى المراجع الغربية، ألم تربطه علاقة موسيقية بالعازفَيْن الشهيرين بادريفسكي وهاينتس؟ عنَّ لي أن أبحث عن اسم الشريف حيدر في قاموس «أوكسفورد» الموسيقي الذي يرد فيه تعريف جيد بكل من هذين الأخيرين.
لخيبة ظني لم أعثر على ذكر للشريف محيي الدين حيدر في هذا القاموس الجامع - إنما غير المانع على ما يبدو. بحثت تحت اسم «حيدر» بتهجئاته المحتملة كافة، وكذلك، من باب التعلّق بقشة، تحت اسم «الشريف»، و»محيي الدين»، ولكن بلا طائل. هل كنت أنشد المستحيل، كون هذا المعجم يقتصر على أعلام الموسيقى الغربية؟ ربما، علماً أن قاموس «أوكسفورد» لم يهمل ذكر عازفين يابانيين وكوريين جنوبيين من المتعاملين مع الموسيقى الغربية.
لكنني لم افقد الأمل. حملت نفسي وذهبت إلى مكتبة حي إيلنغ في غرب لندن، حيث أقيم. وفي قاموس «غروف» GROVE الموسيقي الموسوعي، الذي يتعامل مع الموسيقى والموسيقيين في الغرب والشرق والشمال والجنوب على حدّ سواء، بحثت عن اسمه وبتهجئاته المحتملة كافة، ولكن بلا جدوى أيضاً، مع انني وجدت هنا إسْمَيْ سيد درويش ومحمد عبدالوهاب. كما لم أقع له على أثر في قاموس «من هو» في جميع طبعاته. وبعد أن استعرضت جميع القواميس الموسيقية الأخرى، قلت سأجد ضالتي في الموسوعة البريطانية، إلا أنني لم أكن أوفر حظاً من محاولاتي السابقة!
هكذا انتهت جولتي مع المعاجم الموسيقية، وأنا لا أزال متعطشاً للوقوف على أخبار الشريف محيي الدين حيدر وعلاقته بالموسيقى العالميّة. ترى من المسؤول عن الحيف الذي لحق بالشريف حيدر، الغرب أم نحن؟ لاحظت أن التعريف بسيد درويش ومحمد عبدالوهاب في معجم «غروف»، كان بقلم الباحثة المصرية سمحة الخولي. كما أخبرتني الباحثة العراقية شهرزاد قاسم حسن أن المشرف على المعجم المذكور فاتحها بعزمه على تخصيص فسحة لموسيقى «المقام» فوق صفحاته. وإذا فات محرّرو المعاجم الغربية التعريف ببعض موسيقيينا، سهواً او جهلاً، أفلسنا أولى بأن نذكّرهم بضرورة ملء هذا الفراغ؟ ولا شك في أنهم سيرحبون بذلك.