مقاربات فنية وحضارية.. اسماعيل فتاح الترك.. من اقطاب الفن العراقي المعاصر

مقاربات فنية وحضارية.. اسماعيل فتاح الترك.. من اقطاب الفن العراقي المعاصر

د. كاظم شمهود
يبدو ان سمة التمرد عند الانسان مطبوعة بالفطرة اذا ما انتهكت وحصرت حريته في نمط العيش والمعتقد والفكر (الحيف يجلب السيف). غير ان البعض يعتبر ذلك نوع من الانحدار والشذوذ ويحكم عليه بالفشل والنهاية الكارثية.. ولكن البعض الآخر يراه يمثل نهضة وحركة جديدة تتطلع الى اعادة النظر بما خلفه الآباء والاجداد من الطرز والافكار..

(لا تضربوا اولادكم فانهم ولدوا في زمان غير زمانكم) ظهرت حركة التمرد في اوربا في مجال الادب والفن في اواسط القرن التاسع عشر وبلغت ذروتها في السنوات العشرة الاخيرة منه.. وكان الفنانون الشباب في ذلك الوقت قد انشأؤا اسلوبا ثوريا للصدام مع الطبقة البرجوازية المحافظة التقليدية. مطالبين بمزيد من الحرية والانعتاق.. وكانت تلك الحركة التمردية تهدف الاطاحة بكل القيم الفنية الكلاسيكية ومعظم القيم الميتافيزيقية والاخلاقية عدا الجمال.. لهذا ان كثير من المذاهب الفنية التقدمية المعاصرة اسقطت معظم القيم بحجة انها تقف حجر عثرة امام انطلاقها من حيث حرية التعبير وطرق الاداء..

مرحلة التمرد:
كانت بداية حياة اسماعيل الترك (البصرة 1934) متمردا مشاغبا. وينقل عنه انه كان في صباه منشغلا في اللعب وصيد العصافير مع اصحابه في منطقة الخندق في البصرة.. وهي منطقة شعبية تحيط بها الترع وبساتين النخيل والخضر والبيوت المتواضعة والتي غالبيتها معمولة من الطين في عقد الثلاثينات والاربعينات. وكان هو الولد الوحيد في العائلة التي تتكون من اربع او خمسة بنات. وينقل عنه ان والده كان على فراش الموت وقد لامه على سلوكه وعدم مبالاته، وكيف يترك مصير العائلة بيده.
تخرج من معهد الفنون الجميلة عام 1956 فرع الرسم وعام 1958 فرع النحت في بغداد.. ثم عين معلما في مدرسة الرستمية الواقعة على ضفاف نهر ديالى، سافر الى ايطالية في بعثة دراسية وتخرج من اكاديمية الفنون الجميلة في روما عام 1963، كما درس السيراميك في معهد سان جاكومود في روما وتخرج منه عام 1964.. وعندما عاد الى الوطن عين استاذا ورئيسا لقسم النحت في اكاديمية الفنون الجميلة في بغداد... اقام عدة معارض، وحاز على عدة جوائز.. وهو عضو جمعية الفنانين العراقيين ونقابة الفنانيين..

التقنية:
كان اسماعيل اكثر الفنانين العراقيين جرأة وتمرد على التقاليد الفنية السائدة حيث كان يسعى لتهديم الشكل وتحويره وتشويهه من اجل الوصول الى عمقه وماهيته والتعبير عنه، وكان يتأرجح بين التجريدية والتعبيرية والتشخيصية. فكان اكثر الاحيان يختزل الاشكال في الانشاء وفي الخطوط وفي الالوان.. وهو يقترب في حريته وتقنيته في الرسم من تقنية الفنان الفرنسي جورج روو - 1871- حيث كان اكثر حرية في استخدام الالوان القوية وتحريف الاشكال والخطوط حيث يعتبر في صف الالمان التعبيريون الذين اسسوا مذهب القنطرة عام 1905 – وتمتاز اعمال روو بالمساحات المسطحة والوجوه التي تحدد باللون الاسود السميك.. وهو مانجده عند اسماعيل في تعامله مع الاشكال المختزلة والالوان القوية ومساحة السطح وخلق البقع والخطوط التي تحيط بالاشكال خاصة الوجوه وبفرشاة تعبيرية قوية.
مارس الحفر في سنوات السبعينات والثمانينات وبتقنية عالية واشباع في الالوان. وهي تجارب حديثة ناجحة وفريدة تضاف الى معارفه الاخرى. وكانت منحوتاته ورسومه متشابهة في التقنية والاختزال وذات طابعا واحدا. وعادة ما يستخدم اللون الابيض والازرق والوردي والرمادي ودرجاتها اللونية. وتظهر تجاربه راقية كأنها متحدية مشاغبة سالكة طريقا آخر يختلف عن الرواد.. ويذكرنا بالفنان الهولندي كاريل ابيل Karel Appel 1921 الذي تمرد على معاصريه ومحيطه و اشتهر بقوله: (انا رسام عبثي)
و كان هذا القول مفاجئة للنقاد الذين يتابعون اخطائه واتخذوه كمثال لانحطاط الفن الحديث.. غير انه كان لايهتم بما يقولون وينتقدون. فكان مصمما على السير بآرائه واسلوبه دون خشية من اي طرف آخر، معبرا بذلك عن قناعاته الشخصية. وكان ابيل منفردا مستقلا داخل جماعة – كوبرا – وكان يستخدم الخط الغليظة في تحديد الوجوه والاشكال والمساحات وبالوان ساطعة، وكان يحور ويشوه من اجل عبور افكاره الى المتلقي، ويعده البعض من التعبيريين الالمان..
و الملاحظ عند اسماعيل انه درس وخاض تجارب واسعة ولم يتوقف عند حد انما سعى بكل امكانياته للحصول على قدر كبير من المعرفة في جميع صنوف وفروع الفن التشكيلي. فقد تعلم طرق التقنيات والابداع في الرسم والنحت والسيراميك والحفر – الكرافيك – وغيره، وفي كل حقل نرى بصماته واضحة وصادقة... وكثير ما نجده منشغفا برسم الوجوه وداخل اطارات مربعة احيانا وبفرشاة منفعلة وتسجل المرأة في هذه الوجوه حضورا مميزا.

النحت:
اما اعمال النحت فقد اخذت منحيين الاول التجريد وتأثيراته بالفنان السويسري الفرنسي جياكوميتي 1901 والانكليزي هنري مور حيث نشاهدها مختزلة مستطيلة محورة. واحيانا برؤس صغيرة وسيقان طويلة وجذوع عريضة... اما القسم الاخر من اعمال النحت فهي تمثل الواقعية التقليدية التي نراها بارزة في النصب المنتشرة في ساحات بغداد مثل تمثال عبد المحسن الكاظمي 1972، تمثال ابو نؤاس 1962، تمثال الواسطي 1972، تمثال الفرابي 1965 ’ تمثال الرصافي، ونصب الشهيد ذو القبة المنفلقة الى نصفين. ويعد هذا العمل من من الاعمال العملاقة الى جانب نصب الحرية لجواد وجدارية فائق حسن. وكان اسماعيل هو اول فنان عراقي يلون تماثيله، ويذكرنا ذلك بالفنانيين المصريين القداما الذين كانوا يلونون منحوتاتهم الفرعونية، ويمكن الاطلاع على النماذج المعروضة في المتحف المصري للآثار القديمة.. وكان اسماعيل قد تزوج من الايطالية ليزا وكانت فنانة معتبرة تثقفت بالثقافة العراقية وساهمت بفعالية كبيرة في المعارض المشتركة التي تقام في العراق. وعندما توفت ليزا ورحل اولاده الى ايطاليا. حدث فراغ عاطفي في حياة اسماعيل مما اثر وانعكست على اعماله فخرجت الوجوه في لوحاته حزينة منكسرة..
و اتذكر يوما كان اسماعيل مدرسا للسيراميك في اكاديمية الفنون الجميلة وانا طالبا فجائني وقال لي يا كاظم ان انتخابا ت جمعية الفنانين قريبة وعليك ان تصوت لي وجماعتي.. فقلت له انا ليست عضوا في الجمعية.. فضحك ضحكته الانفجارية المعروفة.. قال لايهمك سنعمل لك هوية.. ومنذ ذلك الوقت كانت علاقتي معه جدا طيبة...
توفى اسماعيل عام 2004 في احد مستشفيات بغداد وقد بلغ السبعين من العمر..
- لك يا منازل في القلوب منازل - / المتنبي