صلاح عبد الصبور.. رائد الشعر الحر والدراما الشعرية

صلاح عبد الصبور.. رائد الشعر الحر والدراما الشعرية

شيرين صبحي
أبحر وحده في عيون الناس والأفكار والمدن تائهاً في صحارى الوجد والظنون، وقف مشرع القبضة مشدود البدن على أرائك السعف، طارقاً نصف الليل في فنادق المشردين وحوانيت الجنون حسبما يقول في تأملات ليله.. هو شاعر وناقد يعد من رواد الشعر الحديث والدراما الشعرية في مصر، وهب الشعر كل حياته فقد كان يؤمن بأن قول الشعر جدير وحده بأن يستنفد حياة بشرية توهب له وتنذر من أجله، هو الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور.

مولد الشاعر
ولد صلاح عبد الصبور في 3 مايو/ أيار1931 في مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، تلقى تعليمه في المدارس الحكومية، ودرس اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا), وفيها تتلمذ على يد الرائد المفكر الشيخ أمين الخولي الذي ضم عبد الصبور إلى جماعة (الأمناء) التي كوّنها, ثم إلى (الجمعية الأدبية) التي ورثت مهام الجماعة الأولى. وكان للجماعتين تأثيرا كبيرا على حركة الإبداع الأدبي والنقدي في مصر أخذ يكتب الشعر في سن مبكرة وكان ذلك في مرحلة دراسته الثانوية، ثم شغل صلاح عبد الصبور أعمالا عدة، بعد تخرجه عيّن مدرسا بوزارة التربية والتعليم إلا أنه استقال منها ليعمل بالصحافة، حيث عمل محررا في مجلة روز اليوسف، ثم جريدة الأهرام. أخذ ينشر قصائده في مجلة الثقافة القاهرية والآداب البيروتية، وكان صلاح عبد الصبور مهتما بالفلسفة والتاريخ، كما كان مولعا بصورة خاصة بالأساطير، وفي الوقت ذاته كان يحب القراءة في علوم الإنسان المحدثة كعلم النفس والاجتماع والأنثربولوجيا وفي عام 1961م عيّن بمجلس إدارة الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر، وشغل عدة مناصب بها، عمل مستشارا ثقافيا للسفارة المصرية بالهند، ثم اختير رئيسا لهيئة الكتاب. حصل علي العديد من الأوسمة منها: جائزة الدولة التشجيعية عام 1965، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي عام 1965، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1981، ووسام الاستحقاق من الدرجة الأولي، والدكتوراه الفخرية في الأدب من جامعة المنيا عام 1982، أطلقت الإسكندرية اسمه علي مهرجانها للشعر الدولي.

رائد الشعر الحر
الكلام عن الشكل الجديد.. أو الشكل القديم.. الحر.. التقليدي.. العمودي.. العروض.. مناقشات ساذجة أضعنا فيها وقتاً طويلاً.. إننا نريد الشاعر الذي يقول الكلمة الصادقة ولو كانت بالإيماء أو الرقص.. يعتبر النقاد أن صلاح عبد الصبور من أهم رواد حركة الشعر الحر العربي، وواحداً من الشعراء العرب القلائل الذين أضافوا مساهمة بارزة في التأليف المسرحي, وفي التنظير للشعر الحر. ففي منتصف الستينات خاض عبد الصبور أول تجربة في الدراما الشعرية فكتب مسرحيته: مأساة الحلاج عام 1965، ويري النقاد انه تأثر في هذه المسرحية بالشاعر الإنجليزي إليوت حيث جاءت مسرحيته شبيهة بمسرحية إليوت: جريمة قتل في الكاتدرائية، كما تأثر بكتابات كافكا السوداوية يقول الدكتور كريم الوائلي أن عبد الصبور تخرج فنياً ونقدياً من تحت عباءة المدرسة الرومانسية العربية وظل مخلصا لكثير من مبادئها طيلة حياته في إبداعه الفني النقدي على السواء، وطور جانبا من تصوراتها نحو نـزعة صوفية تدفعنا إلى وصفها بالرومانسية الصوفية، إذ يبدو عبد الصبور متأثرا بالمنجز الصوفي في كتاباته الإبداعية لمأساة الحلاج ـ مثلا ـ وفي حديثه عن سيرته الفنية في كتابه حياتي في الشعر، إذ يؤكد ذلك أثناء تحدثه عن المتصوفة واستخدامه مصطلحاتهم ورموزهم ومحاكاة عباراتهم، ويطبق ذلك بصورة تكاد تكون متماثلة بين الوجد الصوفي والإبداع الشعري، كما أنه تأثر برموز الرومانسية العربية، وبخصائص الرومانسية الفنية، ويؤكد الوايلي أن عبد الصبور تجاوز هذه الرؤية وتجاوز إبداع القصيدة الغنائية يري سلاف أحمد علوش أن في قصائد عبد الصبور بعداً قصصياً واضحاً إذ اعتمد في استلهام التاريخ على الحكاية لا على الرمز التاريخي. أما العالم الشعري لعبد الصبور فيري صدوق نور الدين انه تغلفه مسحة الحزن والألم، وفق ما يدل عليه المعجم الشعري الموظف في القول الشعري، وبصفة تكاد تكون شاملة، حيث تطالعنا مفردات من قبيل: الليل، المرض، الفراغ، الموت، الشتاء، وهو معجم تطفح به كتابات بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي أيضا، ولكن الرؤية في دلالتها انهزامية بالأساس.

ردود فعل ثائرة على شعره
ثارت ثائرة الشعراء المحافظين علي أشعار عبد الصبور التي أعدوها شكل من أشكال النثر، لأنها تخلو من الإيقاع المألوف للقصيدة العربية القديمة وحين كتب صلاح عبد الصبور قصيدته وبعث بها إلى مسابقة المجلس الأعلى للفنون الاجتماعية وقعت قصيدته بين يدي العقاد، وحدثت المواجهة بين شاعر يكتب قصيدة الشعر الحر وشارع من الديوان وعندما قرأ العقاد القصيدة كتب تحتها:تحال إلى لجنة النثر لعدم الاختصاص، مما دفع بصلاح عبد الصبور إلى أن يكتب مقالا يدافع فيه عن هذا الشعر الحر بعنوان موزون والله العظيم موزون كما ثار الكثير من النقاش حول وشربت شاياً في الطريق والتي أثارت الاستهجان والاستهزاء في حينه، ولكنها لقيت أيضاً من الاهتمام ما مهّد الطريق لاستعمال المفردات اليومية في الشعر العربي، ومهّدت لتحقيق الانتصار على لغة القاموس، التي كانت سائدة ومتسلطة آنذاك تنقل نص عبد الصبور بين ساحات عديدة لها ميزة واحدة هي القلق الوجودي العالي والمركب، حسبما يقول سلاف أحمد علوش فمن الغرق الميتافيزيقي إلى نقد الميتافيزيق، ليخلص في نهاية مشروعه إلى الفهم العلائقي الصوفي، فاستطاع من خلال عيشه للنقيضين الميتافيزيقيا ونقدها أن يستخلص المطلق الجمالي وينزع إليه من علاقة جدلية هي الإنسان والإله، ففي فترة النقد الميتافيزيقي كان عبد الصبور مشغولاً بالوعي الاجتماعي وبالتقاطه للألم الإنساني بصيغته الأرقى سابراً الفقر والقهر والحرمان الذي يغلف السواد الأعظم ويستشري في حياتهم
يقول عبد الصبور أظنني لم أدرك أن الشعر هو طريقي الأول إلا في عام 1953، أما قبل تلك الفترة فقد كنت مشغولا بأشياء كثيرة، كنت أحاول القصة القصيرة، والكتابة الفلسفية على نمط محاورات أفلاطون التي قرأتها في مطلع الصبا بترجمة حنا خباز وفتنت بها فتوناً، و لكن في ذلك العام تحددت رغبتي الأدبية، وارتبطت بالشعر ارتباط التابع بالمتبوع. وأنا ممن يظنون - وهم قلة - أن قول الشعر جدير وحده بأن يستنفد حياة بشرية توهب له وتنذر من أجله. وقد وهبت الشعر حياتي منذ ذلك الأمد. وجهدت حتى أصير شاعراً له مذاقه الخاص، و عالمه الخاص تأثر إبداع صلاح عبد الصبور بمصادر متنوعة فمن شعر الصعاليك إلى شعر الحكمة العربي, وسيَر وأفكار بعض أعلام الصوفيين العرب مثل الحلاج وبشر الحافي, اللذين استخدمهما كأقنعة لأفكاره وتصوراته في بعض القصائد والمسرحيات، وقد نشأ عبد الصبور وتربي بين كتب المنفلوطي وعمالقة الأدب والفكر، وتأثر برموز الرومانسية العربية وبخاصة جبران خليل جبران الذي يعده قائد رحلته. كما استفاد الشاعر من منجزات الشعر الرمزي الفرنسي والألماني (عند بودلير وريلكه) والشعر الفلسفي الإنجليزي عند جون دون وييتس وكيتس وت. س. إليوت بصفة خاصة. وكذلك استفادته من كنوز الفلسفات الهندية ومن ثقافات الهند المتعددة أثناء إقامته بالهند مستشارا ثقافياً للسفارة المصرية. ومن الذين لم يخف إعجابه بهم لوركا، و بودلير وفي محاولاته الشعرية الأولى كان صلاح عبد الصبور متأثرا ببعض الشعراء القدامى كالمتنبي وأبي العلاء المعري الذي أعجب به كثيراً والذي رآه من وجهة نظره ثلاثة أرباع التراث الشعري مقدما إياه على أبي تمام وبشار وأبي نواس والمتنبي، فكان يقول يعجبني المتنبي ولكني أحب أبا العلاء! بعد ذلك بدأ يتأثر ببعض الشعراء المعاصرين كإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل.

مسرحه الشعري
أنا لا أحب المسرح إلا شعرياً، و لا يعجبني كثيرا مسرح إبسن و أتباعه من الناثرين. و اعتقد أن مسرح إبسن الاجتماعي النثري مثل (بيت الدمية) و (عدو المجتمع) وغيرهما، هو مجرد إنحرافة في تاريخ المسرح كانت مسرحيته مأساة الحلاج هي بداية اتجاهه إلى المسرح الشعري الذي أصبح من أهم رواده في الأدب العربي وعن سمات مسرح عبد الصبور يقول الدكتور مدحت الجيار: على الرغم من تعدد مسرحيات صلاح عبد الصبور الخمس، من حيث الموضوعات المعالجة، والشخصيات، بل الأجواء الدرامية التي يستخدمها داخل نصوصه، أقول إنه على الرغم من ذلك، فإن مسرح صلاح عبد الصبور يبدو ضيقا، ترتد عناصره المكانية إلى حيز ضيق.. أعنى أن مسرحياته تتحرك على المستوى المكاني، حول ثنائية البيت والسجن، ثم الاتساع في المكان. والبيت قد يتحول إلى قصر أو كوخ بسيط، أو منزل شعبي أو مقر جريدة؟ لكنه يظل محتفظا بدلالة الألفة والنشأة. وعلى النقيض يتحول السجن ولوازمه (المحكمة) إلى الضيق من المكان، ويترادف في غالبية السياقات مع الظلم و القهر ويؤكد الجيار أن مسرح عبد الصبور يتحرك خلال عناصر مكانية محدودة، وثيمات مكانية ثابتة، وإن كانت تتعدد، فهي تتعدد في تجليات مختلفة، لا يتغير جوهرها، بل يظل الجوهر ثابتا، ويتحرك العرض، الشكلي؟ الأمر الذي يلقى سؤالا حول المكان في مسرح صلاح عبد الصبور، هل هو فقير في عناصره ومكوناته، وهل يترتب على ذلك القول بضيق ومحدودية عناصر الرؤية الجمالية للواقع عند عبد الصبور؟ خاصة وأن مسرحياته ترتد دائما للوراء حيث نجد الكوخ، والقصر، والطير النائم، والسجن، والبيت، ومخدع النوم، ومحل العمل، وكلها مفردات كثيرا ما شكلت مسرحيات كثيرة قبله، وليس ببعيد، مسرح أحمد شوقي الشعري، أو مسرح على أحمد باكثير. ومن هذين السؤالين نستطيع أن نقول: إن توظيف صلاح عبد الصبور لهذه المفردات المكانية المحدودة قد أغنى هذه المفردات، حتى أننا نحس للوهلة الأولى بتعددها، وكثرتها، بسبب جودة التوظيف، والقدرة على وضعها موضعا صحيحا يبعد عنها الملل والتكرار والفقر.

عن صحيفة الاهرام الناصرية