شاكر حسن آل سعيد..  إعادة تأسيس الصلة بين اللوحة (كواقعة مادية) وبين أسانيدها التدويني

شاكر حسن آل سعيد.. إعادة تأسيس الصلة بين اللوحة (كواقعة مادية) وبين أسانيدها التدويني

خالد خضير الصالحي
كان شاكر حسن آل سعيد رجلا قلقا لا يستقر، ولا يهدأ لحظة عن إعادة قراءة؛ ثم إعادة كتابة خطابه النقدي، ومنجزه الفني باستمرار؛ فكانت تهيمن عليه بقوة رغبة عارمة في مسك كل شيء بقبضة واحدة، فلم يترك لاتجاهه التجريدي ان يكتسب الشرعية من خلال «الانطلاق من الوعي التجريدي abstraction واختزال الأشكال الطبيعية الى أشكال هندسية تمثل المحيط نفسه أو بعض أجزائه وقيمه values» والتي يعتبرها آل سعيد «مفردات أبجدية يستطيع بواسطتها

(بناء) منظومته» بل كان يبدو في المحصلة النهائية وكانه يدفع بكل الاتجاهات التي تؤكد كونه ناقداً طامحاً ومؤسسا لرؤية قادرة على وضع التشخيص، والتجريد معا، تحت سلطته النقدية والتنظيرية، فحيثما كان آل سعيد يتجه، كان يترك لنفسه جسرا للعودة إلى الطرف الآخر من الفن (= الرسم)؛ فحينما أدار ظهره للفن المشخّص إلى الأبد، واتجه بكليته إلى أقصى مديات التجريد مقتفياً خطى عدد من الرسامين،أهمهم الفرنسي تابيه، كان يترك الباب موارباً ليطل منه إلى عشقه الأثير التراث، من خلال الفكر الصوفي الذي بدا وكأنه الصلة الوحيدة التي يمكن لها أن تترك الوشائج حية مع التراث، وبدرجة اهم مع المتلقين الذين تشبعوا حد الإقفال بطروحات خطاب النهضة العربية حول المزاوجة بين الحداثة والتراث؛ وبذلك فقد كانت ستراتيجية آل سعيد ثابتةً، لم يغيرْها منذ الخمسينات وحتى أيامه الأخيرة: الاتجاه نحو الاختزال ثم نحو التجريد اللامشخص بما يحقق البحث في شيئية اللوحة التي لن تجد متحققاتها سوى في ميدان وحيد هو سطح اللوحة، فيما كان التنظير لـ(مشخصات) الواقع (وللتراث في الوقت عينه) يتم على الورق، كفاعلية لغوية وكتابية؛ فكان هدف ذلك التنظير في النهاية، (دعم) التجربة وان يكن ذلك من خارجها، بهدف الإبقاء على الصلة حية مع المتلقين، فأضحت تجربته وكأنها تعيش محنة حقيقية استمرت طيلة حياته، محنة وقع فيها رسامو جيل الستينات بعد آل سعيد، فانتهى بهم الأمر الى ما أسميته (الشيزوفرينيا الثقافية)،وهي الحالة التي انفصلت اللوحة عن خطابها اللغوي، فكانت لوحات هؤلاء، ولنأخذ صالح الجميعي نموذجا، تتجه نحو المستقبل؛ فتنهل من آخر الصرعات (المتيريالية) بينما ظل خطابهم (جماعة الرؤية الجديدة وغيرها) مرتهنا بالمحركات القديمة التي تعود الى عقود الى الوراء.
ففي الوقت الذي كان آل سعيد يطمح لإعادة الصلة مع التراث الصوفي من خلال الكتابة، كان يدعو في الوقت ذاته الى الاشتغال على (الواقع المادي الشيئي) للوحة أي (الخامة) دون الحاجة الى استنادات خارجية، حتى انه صنّف تجارب مثل عبد القادر الرسام، الرسام المغرق في كلاسيكيته، وارتباطه مع مشخصات الواقع، على أنها تنتمي بدرجة أو بأخرى الى فن الحقيقة المحيطية من خلال «اتخاذ رسوم الغمامات والأجواء الفضائية الرحبة في أعماله وسائل للتعبير عن رؤيته المحيطية» مع ان عبد القادر الرسام «لم يتوخّاها لذاتها»، وهو ما يعترف به آل سعيد ذاته.لقد كان شاكر حسن آل سعيد يعيد قراءة خطابه عن الرسم العراقيّ، وربما عن تاريخ الرسم العراقي كذلك، في كل مرة طبقاً لمتّجِه اشتغالي يهيمن على تجربته التنظيرية، فقد أعاد في ثمانينات القرن الماضي، إعادة قراءة تجربة الرسم العراقي وفق مفهومه (فن الحقيقة المحيطية) فصنف رؤية كل رسام طبقاً لذلك: فكان رافع الناصري عنده مهتماً بالسحنة الخلوية، وبناء العمل الفني من خلال خط الأفق الذي يختزل شكل الطبيعة،موحياً بأجواء صحراوية، بينما اعتبر اهتمام سلمان عباس «بالأجواء التراثية منها وكأنما كانت تأملاً في: القباب، والمآذن، وكف العباس، وهي تبدو مختلطة بكتابات وزخارف وبنود», وكان سالم الدباغ يتمسك (بالشكل المربع) أساساً لرؤيته الفنية، فيجد في نقاوة الألوان غايته من التجريد حتى يبدو وكأنه كان يتخذ من كل ذلك ما يوحي بمعنى العدم أو العماء فلجأ الى «السحنة الملمسية للأرض والجدار»، وقد «انهمك مهر الدين بالبحث المحيطي باستخدامه الكتابات والإشارات كالاسم والدوائر ورسوم الأطفال وما الى ذلك من مفردات أو لقى»، وكان هاشم الطويل مهووساً «بالكتابات السحرية القديمة بخاماتها الورقية، وربما الجلدية (محيطياً) بالمفهوم الماورائي لهذا المعنى»، وكان لعجيل مزهر، وهو رسام ستيني من البصرة اهتمامات بالملمس Texture تطورت في مديات مدينته البصرة لدى فاروق حسن، محمد مهر الدين وشوكت الربيعي.
وهكذا نجد آل سعيد يبني تجربته في الرسم والنقد على نمطين من التعامل مع المنجز شكّلا تعاملا موضوعاتيا دلاليا وشيئيا، متيرياليا، حتى أنه يؤكد في المقال ذاته افتتانه «بقيمة الجدار... كمرآة تعكس واقع الحياة الإنسانية الحضارية اليومية»؛ بينما يستدرك «ان هذا الاستقصاء ظل مرتبطاً (بالخامة اللونية) لذاتها، أي بالواقع المادي الشيئي للمعطيات وليس (بواقعها الاعتباري) فحسب»؛ فكان استخدامه للخامات اللونية المعروفة، ولمواد الفن المعماري: كالسمنت، والجص، والأصباغ المنفوثة، واستخدامه (للفضاء الفعلي) كفراغ، او شقوق، أو فوهات. وبذلك يتضح ان فن (الحقيقة المحيطية) الذي بشّر به آل سعيد خلال عقد الثمانينات كان حاله كحال كل منجز آل سعيد، مركباً من جهدين: جهد نقدي يتواشج مع الصوفيات والأساطير ونحوها، وجهد حداثي شيئي يتفهّم اللوحة باعتبارها واقعاً مادياً شيئياً لم يكن موضوعها إلا مناسبة لوضع المادة (=اللون وكل المؤثرات المادية الملمسية) على سطح اللوحة.