الغناء والموسيقى في بغداد الخمسينيات

الغناء والموسيقى في بغداد الخمسينيات

خالص عزمي

في بداية القرن الماضي؛ ومع أن اغلب المطربين تعلم بدايات القراءة والكتابة والخط في الكتاتيب ويستمع إلى تلاوة الذكر الحكيم على أنغام مقامات الماهوري والمخالف والحويزاوي والبهيرزاوي... الخ؛ إلا أنهم كانوا يجهلون ابسط قواعد اللغة العربية؛ كما كانوا يجهلون أكثر معاني الأبيات الشعرية التي يرددونها أثناء الغناء أو الإنشاد؛ أما بسبب أميتهم؛أو لان الزمن الذي ترعرعوا فيه كان لا يمنحهم الفرصة لتعلم لغتهم الأم بالطرق المؤصلة؛

ولذلك كانت قراءاتهم الشعرية كبداية لبعض المقامات ؛ كالرست والاوج والدشت والاوشار والبيات و الطاهر ؛ والخلوتي والنهاوند والأرواح ؛ تعج بالأخطاء ويزدحم فيها التداخل في الكلمات والتعابير مع التشابك الصوتي بنطق الألفاظ بحيث يؤدي كل ذلك إلى الإبهام والغموض وبالتالي يجعل المستمع ضائعا في متاهات تمنعه من استيعاب ما يردده القارئ من شعر.

ومنذ أوائل الثلاثينيات وما أعقبها شعر بعض المطربين وهم يواصلون تطورهم وتقدمهم في مجال الغناء والموسيقى والكلمة المنتقاة لتعبر عما يريدون إبرازه بإحساس صادق عن المعاني التي يرتاح لها جمهور المتلقين؛ أنهم بحاجة ماسة إلى الاقتراب أكثر من الشعراء والأدباء؛ لكي تتاح لهم فرصة التعرف على ألوان من القصيد والغوص في مفهوم المفردات وقواعد اللغة في مختلف أبوابها؛ ذلك لان الاكتفاء بدائرة (الشاعر والملحن والمطرب) دون الاستعانة بآخرين من المختصين الذين حباهم الله موهبة الموسوعية الفائضة في هذا المجال؛ إنما يغلق تلك الدائرة على نفسها ويعرضها إلى الخطأ المحتمل أو التكرار الممل؛ وكان في طليعة هذه الكوكبة رائد المقام العراقي الأستاذ محمد الكبنجي؛ حيث لاحظ في تلك الفترة بالذات؛ أن عليه التعمق بدراسة بعض قواعد النحو والصرف والبلاغة ومعاني المفردات؛ فكان أن أفاد من مجالسة كبار الشعراء والأدباء وفصحاء اللغة وأخذ عنهم الكثير من الإرشاد والتوجيه ؛ وبهذه الطريقة استطاع أن يتألق في اختيار الشعر و يتفادى في ذات القوت مواطن الخطأ في الإلقاء إلى حد بعيد ؛ وكان من ابرز تلك الكوكبة التي استعان بها ؛ معروف الرصافي وبهجت الأثري وعلي الخطيب وعبد الرحمن البناء واحمد حامد الصـــــــــــراف وجلال الحنفي وعبد الكريم العلاف...الخ. ولعل لافتتاح الاذاعة العراقية ثم اذاعة قصر الزهور الدور المهم في جمع شمل الشعراء والادباء والملحنين والمطربين الى بعضهم البعض ؛ فأفاد الجميع من هذا التقارب العفوي ايما فائدة ؛ وبخاصة الأسلوب الأصح في تفهم مخارج الألفاظ ونطق الحروف والتوقف كثيرا عند انتقاء القصائد الملائمة طبقا لقاعدة لكل مقام مقال. ولعل للعلامة الشيخ جلال الحنفي تلك الشخصية الموسوعية متعددة المواهب الدور الرئيس في دفع العديد من مطربي المرحلة الثانية الى عوالم لغوية وشعرية أعطتهم الفرصة لكي يطوروا قابلياتهم ويصححوا مسار قراءاتهم.

كما لابد لنا من الإشارة إلى تأثر شعــــــــراء الأغنية المكتوبة باللهجة الدارجة ؛ حيث ظهرت لهم مجموعة من الأغنيات التي كانت تقترب كثيرا من اللغة الفصيحة في جوهر تعبيرها وكان في مقدمة هؤلاء بداية الشاعر الشعبي الكبير الملا عبود الكرخي بقصائده (المجرشة ؛ وشنهو السبب تنسوني ؛ ويا ولد يابو السدارة ؛ نور بوجنتك لو نار ؛ روحي سلبها نعمان... الخ) و عبد الكريم العلاف ؛ الذي عرف بقصائدة الفصيحة واغانيه الدارجة ايضا حيث قدم نماذج رفيعة من الاغنيات ذات الخيال الواسع واللغة الاقرب الى الفصحى ؛ تلك الاغاني التي دخلت التاريخ وما زالت حية الى يومنا هذا كأغنيات (يا نبعة الريحان ؛ كلبك صخر جلمود ؛ الهجر مو عادة غريبة ؛ على شواطي دجلة مر ؛ ما اكدر اكولن آه...الخ) ؛ كما ان المطربات البارزات من امثال منيرة الهوزوز؛ وسليمة مراد ونرجس شوقي وعفيفة اسكندر... الخ كن يتغنين بقصائد مشهورة من الشعر الرقيق الفصيح مثل (ان شكوت الهوى فلا انت منا ؛ وياحلو يا اسمر غنى بك السمر ؛ وايها الساقي اليك المشتكى ؛ وقيل لي قد تبدلا ؛ ويعاهدني لا خانني ثم ينكث ؛ ويا عاقد الحاجبين... الخ).

وما كادت فترة الزمن التي تهادت ما بين الأربعينيات ــ والخمسينات تطل بعدئذ ببشائرها المتألقة في شتى أنواع المعرفة؛ حتى كان للمطربين والملحنين والشعراء دورهم في شد الأواصر بصيغة برزت بشكل جلي في كثير من الأعمال التي قدمها شباب تلك الأيام؛ كيوسف عمر؛ وعبد الرحمن خضر؛ وناظم الغزالي؛ ورضا علي؛ ويحيى حمدي ؛ ومحمد كريم ؛ وعباس جميل ؛ ومحمد عبد المحسن ؛ وكان للشعراء والأدباء أثرهم في صقل ذائقة أولئك الفنانين والارتفاع بكفاءاتهم اللغوية والبلاغية إلى مستويات أهلتهم الى ولوج الوسط الثقافي و الى التقرب أكثر من عوالم المعرفة بشكل عام.

إن الذين عاشوا تلك الحقبة الزمنية يتذكرون جيدا مدى العلاقة الحميمة التي كانت تربط أولئك المطربين بعدد كبير من صفوة تلك النخبة الفذة ؛ من أمثال الشـــعراء عبد الكريم العلاف ؛و أنور شاؤل ؛ وعبد الستــار القره غولي ؛ و عبد القادر رشيد الناصري ؛ وعبد المجيد الملا ؛ وعلي الفراتي ؛ ومحمود المعروف ؛ ومكي عزيز ؛ وعبد الصاحب الملائكة ؛ وخالد الشواف ؛ وخاشع الراوي ؛ ومهدي مقلد؛ وصفاء الحيدري؛ وحسين مردان وكذلك مع شعراء الاغنية كجبوري النجار ؛ وسبتي طاهر ؛ وسيف الدين ولائي ؛ وجودت التميمي ؛ ثم مظفر النواب ؛ وزاهد محمد ؛ وزهير الدجيلي... الخ كما كان لبعض المذيعين توجيههم المؤثر على كثير من المطربين ؛ وكان في مقدمة اولئك المذيعين ؛محمد علي كريم ؛ وناظم بطرس ؛ وموحان طاغي ؛ وحافظ القباني ؛ وسعاد الهرمزي ؛ وصبيحة المدرس ؛ ناهيك عن عدد كبير من الصحفيين الذين مدوا يد التعاون مع المطربين البارزين ؛ كروفائيل بطي ؛ ورزوق غنام ؛ وخالد الدرة ؛ ويحيى قاسم ؛ ومجيب حسون ؛ وعبد القادر البراك ؛ وسجاد الغازي ؛ وصادق الازدي ؛ وصبيح الغافقي ؛ وعبد المنعم الجادر ؛ وشاكر الجاكري ؛ وناصر جرجيس ؛ وشاكر علي التكريتي ؛ وغازي العياش ؛ واحسان وهيب.... وغيرهم

...

وكما كانت الإذاعة موئلا لهذا الترابط المتين ؛ كان لفرقة الموشحات بقيادة الموسيقار والباحث الحلبي الكبير علي الدرويش ومن ثم الموسيقار روحي الخماش ؛ دورا بارزا في تقويم السنة أعضائها الذين كانوا يشنفون الأسماع بأرقى القصائد واعذب الالحان والذين أصبح من بينهم عدد من المطربين المعروفين حسني النطق سليمي التعبير أنيقي الاختيار الشعري.

هنا أورد امثلة واقعية لمستها بنفسي عن ذلك التعاون البناء بين اقطاب ركائز الغناء الاساسية: (الكلمات واللحن والغناء) في تلك الفترة الزاهرة التي واكبتها:

الاول: يختص بذلك التجمع الذي دعا اليه الفنانان الكبيران محمد القبنجي وحقي الشبلي يعاونهما الشاعر عبد المجيد الملا والذي يدعو الى التعاون وشد الآصرة ؛ وذلك عن طريق لقاءات مكثفة ما بين رموز الشعر والادب ؛ والموسيقا ؛ والغناء ؛ فكان ان التأم الشمل مع بعض تلك الرموز على سطح جمعية الموسيقيين في الحيدرخانة في صيف عام 1951 ؛ والذي أكدته صورة فريدة التقطت في حينه تمثل اللقاء الاول.

الثاني ـ وكما المحت اعلاه ؛ كان كثير من المطربين يعتمدون على بعض الشعراء والادباء في تقويم سلامة النطق الشعري ؛ وانتقاء الابيات التي تتلائم مع المقامات او الالحان ؛ ومن ذلك فان الفنان ناظم الغزالي كان يعتمد اعتمادا مباشرا على اثنين من الشعراء اللذين كانا يعملان في امانة العاصمة وهما العروضي واللغوي المعروف عبد المجيد الملا (والذي كان هونفسه يكتب ايضا كلمات الاغاني بالفصحىاو باللغة الدراجة لبعض المطربين والمطربات) ؛ و الشاعر الرومانسي الرقيق عبد القادر رشيد الناصري ؛ (وقد شرحت تفاصيل ذلك في محاضرتي الواسعة عن ناظم الغزالي و التي القيتها في فينا في المنتدى الثقافي الذي عقد في مقهى نيل وقدم لها الاكاديمي والباحث المعروف الدكتور زهير المخ).

الثالث ـ نموذج من الحوارات البناءة:

في نهاية الاربعينيات كانت مقهى الخراز (او عبدالله ابو ماشة) في محلة جامع عطا من جانب الكرخ ؛ والمعروفة بسعتها وجنينتها التي تتوسط باحتها الصيفية ؛ ملتقى بعض الشعراء والمطربين وقراء المولود النبوي والمقامات... عصر ايام الخميس و كلما كان ذلك متاحا ؛ وكان من بين هذه الصفوة ؛ الشعراء خضر الطائي ؛ وخليل الخشالي ؛ وعبد المجيد الملا ؛ وعلي الشجيري ؛ وجبوري النجار ؛ وعبد الصاحب الملائكة ؛ وبسيم الذويب... وغيرهم اما من المجموعة الثانية ؛ فكان عبد المنعم ابو السعد ؛ وعبد الفتاح معروف ؛ وعبد المنعم السيد علي ؛ وحسن خيوكة ؛ ومجيد العاني.... وآخرين ؛ و في ذات مرة قال المطرب الكبير حسن خيوكة انه اتفق مع الموسيقار جميل بشير وفرقته (التي كانت مكونة يومها من منير بشير ؛ وخضير الشبلي ؛ وخضر الياس ؛ وحسين عبدالله... الخ) على مرافقته في قراءة وتسجيل بعض المقامات ؛ ثم راح يقرا بعض الابيات الشعرية التي سيبدأ بها بعض مقاماته التي تتطلب مثل هذا النهج كما اسلفت ؛ ومن جملة تنويعاته قرأ الابيات التالية:

قد علا نظمي ورق الغزل في هوى قوم بقلبي نزلوا

ثم قال: هناك لغط بين بعض الشعراء وقراء المقام حول هذا المطلع ؛ اذ يقول البعض ان المعنى لا يستقيم على هذا النحو ؛ في حين ان البعض الآخر يقول ؛ بل يجب ان يقرأ هكذا لان القراء القدامى في العشرينات قرأوه بهذا النص ؛ فما هو رأيكم؟! هنا رد خضر الطائي قائلا: هذا المطلع غريب وغير متوزان في تناسقه: اننا نعرف ان صفة العلو في طبقة الشعر تصاحب الفحولة و الجزالة في الالفاظ ؛ وعلى هذا: فان الاصح ان تقول(قد حلا) حتى لو كان الشاعر قد كتبها (قد علا) ؛ اذ ان التناسق في المعنى يستوجب تقارب الحلاوة مع الرقة.

هنا أيده في هذا الاتجاه بقية زملائه من الشعراء.

اما الشا عر الضابط بســـــــيم الذويب فقد أثار موضوعا آخر حينما قال ؛ وانا ارى ان قول الشاعر في عجز البيت (في هوى) غير مطابقة لواقع الحال ؛ اذ يتوجب ان تكون (من هوى) اذ ان رقة الغزل انما جاءت لسبب حدد بموضوع واحد هو ان (هوى الحبيب قد حل في القلب) فأستدعى الوصف ؛ فرد عليه عبد المجيد الملا قائلا ؛ كلا انا ارى ان(في هوى) اصح ؛ ذلك لان الشاعر لم يرد تبرير سبب حلاوة النظم وانما اراد تقرير الحقيقة المقصودة و هي مختصة في هوى الحبيب ؛ اذ لولم يحل في القلب لما كان لها ان تكون بتلك الحلاوة والرقة ولتحولت الى (كلبك صخر جلمود)

هكذا كانت الحال في الماضي سجال ونقاش وحوار بين ارباب القلم واساطين الموسيقى والغناء ؛ لهدف نبيل يرمي الى التعاون البناء من اجل ان يكون الغناء في المستوى اللائق بتراثه الباذخ العريق.

ج. الاتحاد 1988