علي جواد الطاهر.. ممثل لمرحلة ثقافية ...

علي جواد الطاهر.. ممثل لمرحلة ثقافية ...

د. قيس كاظم الجنابي
ولد الدكتور علي جواد الطاهر عام 1919م، اي انه اسبق من حسين مردان الذي ولد عام 1927م. ولكنه تأخر عن حسين مردان في اصدار كتابه الاول (مقالات) الى عام 1962 في حين صدر كتاب حسين مردان (مقالات في النقد الادبي) عام 1955، ولكنه يمتلك حق تأسيس نقد نظري وعملي في كتابة (المقالة الادبية) ولعل هذا هو السبب الذي دفعه لجمع مقالات حسين مردان في كتاب عنوانه (من يفرك الصدأ)؟

حتى يخيل للقارئ بانه كتب عن مردان وكأنه اسبق منه فراح يتقصى اخباره ويبحث عن خلجاته وسكناته، فقد كان الطاهر ناضجا ومتسلحا بثقافة نظرية حول كتابة المقالة الادبية، فهو كما وصفه احد النقاد مقالي يكتب المقالة بوعي كامل، بل يخيل لي انه ظل يحاول ان يؤكد حضوره ككاتب مقالي.

منذ اواخر الخمسينيات او على الاقل منذ ان اصدر (مقالات) عام 1959وهو امر مبالغ فيه لان كتاب (وراء الافق الادبي) كان عماد موقف الطاهر التطبيقي في كتابة المقالة، ولان كتابه (مقالات) كان تمهيدا اوليا في هذا الجانب، ولكن الطاهر منذ السبعينيات وخصوصا بعد الاستقبال الكبير الذي حظي به كتابه (وراء الافق الادبي) اصبح يخطط لدراسة الجوانب النظرية لكتابة المقالة وتطبيقاتها؛ ذلك ان ادب المقالة في العراق (ظل ينمو في الادب العراقي بشكل يكاد يكون عفويا، وظل الكثير من كتابه يجهلون الكثير من مقوماته وعناصره الجمالية والبنائية، ويخلطون بينه وبين اساليب البحث والدراسة من جهة واسلوب الخاطرة من جهة اخرى (...) فان المقالي قلما ينتبه الى اهمية استيعاب وتفحص مكونات هذا الفن وعناصره التركيبية الاساسية، لذا تراه يتخبط في متاهات عديدة، ولا يستطيع ابدا ان يرتفع الى مستوى كتاب المقالة المتميزين باسلوب مقالي وشخصي واضح.

في نظرية المقالة
اذا كان حسين مردان قد نشر كتابه الاول مقالات في النقد الادبي عام 1955 فان الدكتور علي جواد الطاهر بدأ بكتابة مقالاته عام 1955 في مجلة (المعلم الجديد) في هذا العام، فاستحقق لقب (كاتب المقالة الاول، في العراق) ولا يريد يها المقالة التعليمية، وانما المقالة الفنية التي تقترب من الشعر والقصة، حينما تمتزج بالخيال، وحينما تتحول تجربتها.. الى (وعي + سهل + ممتنع) ويدخل هذه التجربة الى (التأنق اللغوي).. وهكذا تختمر هذه التجربة من خير او شر، تبسط او تعقد، وتختلج في النفس وتلح عليه تريد الخروج من مكامنها، فيسرع الطاهر الى القلم.. ويسجل ما تمليه التجربة (المتفعلة) و(المتفاعلة) بمنهج نظري مدروس معمق.. ثم يعطي للعقل حصته، فيعيد النظر فيما كتبه، خفيفا، ولا يهمه بعد ذلك..طول المقالة او قصرها زيادتها او نقصانها، ما دام بناؤها قد تم برضا منه (خياله وعقله)، بل لا يهمه الاستقصاء والاستيعاب في مقالته وانما يهمه ان يترك مجالا للقارئ يزيد ويلاحظ ويدقق (ويفتش بوعي منه) عن الجوانب التي يريد البحث عنها.. اذن كتب (فنا) من فنون الادب، وترك الحكم عليه للاخرين.
لقد وضع الطاهر مجموعة ضوابط جعلها اشبه بعناصر خاصة لمقالته لتكون منهجا تنظيريا له وللاجيال التالية التي ستتأثر به، اذ ان بعض مجايليه لهم اساليبهم المختلفة من امثال حسين مردان ومهدي شاكر العبيدي ومحيي الدين اسماعيل لانهم كانوا قريبين منه عمرا وتجربة وتصورا؛ لذا نجده يرى بأن بناء المقالة الادبية يقوم على العناصر التالية:
1 ـ لغة ذات بناء متين، عذبة الجرس، تدخل في ايقاع متكامل، بمفردات منتقاة تبتعد كليا عن المحاكاة وهي من قاموسه، وقاموسه يتكاثر ويولد مشتقات والفاظا غير مألوفة، ويحكمها بدلالات بيانية بحث لا تطغى على تراث ولا تتجاوز معاصرة.
2 ـ ويمازج هذه (اللغة الانيقة) ما هو جزء.. من شاعرية وقصصية فيها طراوة وفي كنايات وضمائر غائبة ومتكملة.. وحوارات متقطعة يغوص بها الى النفس، فتخرج الاستعارات والايقاعات الصورية وتصل بينها سجعة هنا وسجعة هناك، وجناسا لا يتعارض مع هذه الاستعارات.
3 ـ ويركب هذه اللغة (الفاظا ومفردات وجملا) تركيبا (رياضيا) يعتمد الابعاد القياسية بين بدء الفقرة ونهايتها، بين بدء المقطع ونهايته.. وبين اسلوب واحد، يتنقل نقلات، وهذه النقلات محسوبة في حساب الجمل، فلا يكرر جملة بين فقرة وفقرة، فاذا اكررها فلغرض بناء الاسلوب، انه يزن كلامه وهو يخرج مرة واحدة من القلب الى الورق.. وكأن روحه واسلوبه يندفعان معا بحركة سلسلة حركة متواصلة فيها طاقة اللغة طاقة غنية بالاشارات والايماءات ولابد لهذه الحركة من موسيقى وربما يشعرك بأنك تقرأ جملا في موسيقى تدار بشعر او ايقاع داخلي، دون ان يؤثر هذا الايقاع على المضمون او الفكرة.. ومقالته في هذه العناصر: بناء متسق العمارة.. ولذلك، ايضا لا تجد في (مقالاته) كلمة خارجة عن الحدود ولا كلمة ناقصة عما يدعو اليها.. وكان تكنيكه وعيا بشخصيته!
والطاهر يرى ان المقالة فن ابداعي خاص مثله مثل القصة والقصيدة، وليست كالنقد كلام على كلام، اي انه فن مبتكر وان المقالة هي (دفن ذو نسيج خاص)، اي موهبة ويعني هذا، انه ليس شرطا ان يكتب شاعر كبير..(مقالة ناجحة) او قصاص او مسرحي، مثلما ليس شرطا ان يكتب (المقالي) قصيدة ناجحة.. او مسرحية ناجحة او قصة ناجحة هي اذن قصة الموهبة.

وراء الافق الادبي:
فاذا ما بلغنا معه مسيرته الى كتاب (وراء الافق الادبي) الصادر عام 1977، وهو كتاب تأسيس بالنسبة للطاهر في كتابة المقالة الادبية نجده يثبت على غلافه كلمة (مقالات)، علما ان العنوان اساسا هو بابا او عمودا كان الطاهر ينشر مقالاته الادبية فيه بجريدة الجمهورية منذ عام 1972 وهو ما ينطبق على كتبه الاخرى في هذا الشأن كـ(الباب الضيق، وكلمات) وكانت وفاة حسين مردان عام 1972 حافزا له لاكمال المسيرة في كتابة المقالة الادبية بعد ان ترك لنا كتابين في المقالة الادبية كتبها بعفوية تامة هما: (مقالات في النقد الادبي) و(الازهار تورق داخل الصاعقة) مما يشير الى اهمية ريادة مردان في هذا المجال لاكمال تجربة الطاهر وتطورها. والكتاب الذي اصدره الطاهر من الناحية التطبيقية يدعو بمجمله الى نوع من النظرية النقدية والى نوع من المقالة التي تجمع الطرافة الى رصد الحاضر الادبي ـ الثقافي والاهتمام بالغد.
وللمقالة لدى الطاهر صلة بالتلقي الشفاهي، من خلال اذاعته لبعضها؛ لهذا تنوعت موسيقى اللغة التي يكتب، وتنوع ايقاعها وان بقي منهج الكتابة واحدا، والخصائص الاسلوبية واحدة؛ فكان في نقده ومقالاته واضحا وشفافا ومؤثرا، لذا بدأ كتابة (وراء الافق الادبي) جامعا مانعا، وتطبيقيا، ثم تلاه استكمالا للفائدة بكتاب (الباب الضيق) الذي كان عبارة عن عمود صحفي لقد كتب الكثير من الادباء العمود الصحفي لكنهم لم يكونوا واعين لموضوع خلود النص، واهميته الانشائية، حتى ان الطاهر عقب في مقالة له في هذا الكتاب على عمود ليوسف الصائغ عنوانها (يوسف الصائغ.. حالة!) فقال: كتب الخاطرة باناقة ولباقة بما يستهوي القارئ ويذكره ان الخاطرة ـ المقالة فن فيه شعر وفيه قصص ثم عرج على شعر الصائغ وبالذات ديوان (اعترافات مالك بن الريب) فقال:
ــ “تقرأه فترى نفسك ازاء شاعر من طراز خاص، فنان يمزج الحقيقة بالخيال حتى يضيعها فيه ويضيعه فيها، ويمزج التراث بالمعاصر فتعجب له، وليوحي بالاسطوري فتدهش له.. والواقعي بالسريالي والمسيحي بالمسلم والشيوعي بالاشيوعي.

ويمزج يوسف الصائغ باي دم واي خوف او اي حساب واي شجاعة.. يدخل نفسه فيها او يدخلها في نفسه ـ كأنك من شعره في يوم القيامة ويوم ينفخ في الصور.. لقد مزج الشعر بالقصة اذ كتب القصة.. وهو اليوم يمزج القصة بالشعر اذ يكتب الشعر. كما كان يمزج المقالة الانشائية بالهاجس النقدي، مما يفضي الى تلمس مسيرة الناقد الصحفي في مقالاته الادبية او المقالة النقدية، فهو ناقد تأثري، انطباعي على مستوى متقدم جدا، وباحث اكاديمي رفيع، واحكامه في مقالاته تحقق الكثير من اشتراطات الناقد الصحفي في التشخيص والحكم وهو يسعى جاهدا الى تحديد منهجه وطريقة تناوله الاعمال الادبية باسلوب يتمكن عبره من معالجة النشاط الادبي بشكل يفي بحاجات المتلقي، او جمهور قراء الصحافة، بما يحقق مواصفات النقد الذاتي الذي يقوم الاحكام النقدية من خلال شخصية الناقد الصحفي واسلوبه الذي ينسجم مع طبيعة الصحافة وبذلك حقق الطاهر النزعة الذاتية وابرز الجانب التأثري من خلال براعة الاسلوب، وتوهج اللغة بالصور، والاتصال بالقارئ لانه يبني علاقته معه على اساس المزايا الاسلوبية في سهولة التعبير وبساطة اللغة وبلاغتها.. وافكاره العميقة، وضرورة الحفاظ على الاشتراطات اللغوية والنحوية، والابتعاد قدر الامكان عن الموضوعات الحساسة كالدين والجنس والسياسة، مع الاقتراب بالضرورة من هموم القارئ العادي والقارئ المثقف، واحيانا مغازلة القارئ العادي، لانه كاتب مقالة لها جمهور كبير من القراء، لا ناقدا في ابوابه واعمدته واحاديثه الاذاعية، ولكنه يمس النقد من هنا وهناك لان النقد لديه جزء من هم اكاديمي وثقافي لهذا نجده يحقق اشتراطات النقد الانطباعي، كاللغة البسيطة والايجاز والنقد اللاذع، السرعة، التنوع، الاتقائية، الاثارة، والتحريض، الاستعراض، الشفافية، الذاتية مما يشير الى انه لم يكتب ما كتبه اعتباطا وانما على وفق رؤية نقدية، ذلك ان كل ما كتبه من مقالات ودراسات (يدخل في النقد ينقذ الاثر او الجنس الادبي بتجرد وموضوعية، ويخرج بعد النقد بنتيجة اما بانحياز تام الى الشكل والمضمون. واما التحريض الخفي الى رفض الشكل والمضمون. اذ لم يعهد ان وقف بين بين، ولم يعهد ان تنازل عن ارائه النقدية. وتخرج اراؤه النقدية من نظرية (فن + موقف + رؤية) وعرف القراء هذه النظرية باحاسيسهم الفطرية والعاقلة، فعرفوه فيها ناقدا كبيرا) فكان مدرسة في المقالة وفي النقد وقد جعل الطاهر النقد مادة سهلة الهضم، على الرغم من كون النقد ادبا ثقيل الاستيعاب، فلا بد والحالة هذه من ايصاله الى القارئ بطريقة وباخرى.. ذلك ان المقالة الادبية تعبر عن حالة واحدة، لمحة او ومضة كاشفة لموقف ما. فلم يترك العنان لقلمه وفكره ــ كما هو حال مونتيني ــ لينتقل من فكرة لفكرة موجزا مرة ومطيلا مرة حتى انه ليجانب العنوان الذي انطلق منه ويثبته في راس المقطعة كأن العنوان وسيلة عابرة ولا يهم بعد ذلك ان يطابقه الكلام كثيرا او قليلا او لا يطابقه بتاتا، انه يستطرد ولا يحرض على وحدة القطعة. والطاهر لا يتردد بالاعتراف بانه (ناقد انطباعي) لانه يعتقد ان (الانطباعية لا تعني الهوى الشخصي ولا الراي المفروض ولا الحكم المستعجل، فما هي (...) ثمرة قراءة متأنية (...) انا انطباعي من خلال الموضوعية.. انه السهل الممتنع فكانه يشير الى تأثره بالمقالة الادبية في مصر لدى العقاد ومدرسة أحمد حسن الزيات ومجلته ( الرسالة)؛ لذا يرى نفسه انه معني باثبات موقفه ضد التهجين في الادب او المودات والتيارات الطارئة او (المستوردة بدءا من البنيوية ـ بعد موجة من الوجودية والماركسية ـ متقلبا مع متقلباتها دون انتهاء ـ بلذة النص ومرورا بما طفا ـ ويطفو على السطح من مصطلحات السردية والسويولوجية والتأويلية والسحرية).