إشكالية التحول في الاقتصاد العراقي..(ضبابية الرؤية وهدر الامكانية)

إشكالية التحول في الاقتصاد العراقي..(ضبابية الرؤية وهدر الامكانية)

عبدعلي كاظم المعموري
كان مفترضاً أن تتم إعادة النظر الشاملة بأوضاع الاقتصاد العراقي بعد سنوات طوال مابين (اقتصاد حرب) و(اقتصاد حصار)، و(اقتصاد تدمير ونهب وفساد)، وكان متوقعاً أن يكون هذا مبكراً، عندما انكشفت غبار الحرب واحتلال بغداد واستيعاب رعب الصدمة العسكرية،

ومن الطبيعي أن يكون هذا الهم هو هماً وطنياً خالصاً وليس هماً احتلالياً، فإستراتيجية أصلاح الاقتصاد العراقي وانتشاله من أوضاعه المركبة، تبقى في المقام الأخير هدفاً يفترض أن يظل هاجساً للقوى الوطنية والمخلصين، بينما لا يشكل ذلك المعطى هدفاً يحظى بأولوية لدى المحتل،
إن التأخر المتعمد في النهوض بالاقتصاد العراقي من وهدة أزمته وركوده، تستوجب وقفة مجتمعية وطنية سواءً من ذوي الاختصاص أم من القائمين على الأمر، وهل أن المراهنة على اقتصاديات السوق الحرة، يراد لها أن تكون الحل السحري لأوضاع الاقتصاد العراقي على الأقل في الآجل القصير.
والعراقيون من أكثر مجتمعات الأرض التي أخضعت إلى التجريبية (الامبيريقية) المقيتة، سواء اقتصادياً أم سياسياً، وإذا ما كان الناس فيما مضى يتجرعون هوان هذه السياسات تحت ضغط الخوف والعنف، فالحالة مختلفة الآن تماماً، فحاجز تقديس السلطة، وتأليه الحاكم أمسى أمراً من الماضي، وهو ما سيفتح الباب واسعاً لمراجعة مجتمعية لسلوك وقرارات الحكومات، كرد فعل (العنف المضاد) لعنف السوق.
لقد ساهمت الولايات المتحدة الأمريكية في تأخير وضع الخطط اللازمة للنهوض بالاقتصاد العراقي، إذ جرى عقد العديد من المؤتمرات والاجتماعات واللقاءات وفي مختلف دول العالم، ولكن من دول أية فاعلية ونتائج على الأرض.
إن الإقرار على فلسفة اقتصادية جديدة للاقتصاد العراقي بطريقة العلاج بصدمة القوة العسكرية ورعبها، ومن دون تخدير، كما يعبر عنها اقتصاديو البلدان المختلفة من العالم، والتي شيعت لفلسفة التحول نحو اقتصاد السوق، لا نريد اجترار تجاريبها في العراق، ولا نرفض أن تكون هناك فعل لآليات السوق، ونعتقد أن فك حزمة المفاهيم والألفاظ له ضرورة كبيرة في فهم تلافيف ما يختبئ تحت هذا المسمى من ذاك، فالاقتصاد العراقي في حقيقة الأمر لم يكن مركزياً (مخططاً) ولا اقتصاد سوق رأسمالي ولا سوق اشتراكي، بل هو في حقيقة الأمر اقتصاد مشوه؟.
ولهذا لم نستطع الى الآن أن نصل الى أنموذج دولة فاعلة، فالدولة في النظام السابق، أنها ذهبت رويداً رويداً من دولة تحاول تعزيز صفة الإنتاج في الاقتصاد الى الإشاحة الصريحة عن نفسها بأنها دولة توزيع الريع النفطي بامتياز، نتيجة التراجع في دورة الإنتاج الوطنية الذاتية، وهو ما كشفه الحصار الاقتصادي بوضوح، فيما شهدت مرحلة ما بعد الاحتلال، بالانسحاق التام للإنتاج المحلي.
وهكذا تولد في العراق أنموذج من الدولة متناقضة في دورها، فهي أما مركزية وسلطوية حد النخاع، وإما مترهلة وتابعة وضعيفة، ولذلك يصعب توصيف مخرجاتها(نتاجها) التنموي فهو يظل يتراوح مابين تنمية (تابعة– شبه رأسمالية– شبه اشتراكية– رثة– راكدة)(4) ، وهو ما لا يساعد على الاستدلال بمعطى واضح لا تخطئه العين في نمط أفعالها الاقتصادية.
ويبدو أن حقيقة قدرة الدولة وأهمية دورها المخطط له، قد استغلتها النظم الحاكمة وشخوصها الكاريزمية لصالح الهيمنة على السلطة ولجم المعارضين، وصوغ حال المجتمعات على وفق رؤية (الملك– الرئيس- الأمير– السلطان)، ويكاد يرددون جميعاً مقولة لويس (الدولة إنا) أي الحاكم.
ونعتقد بتواضع شديد أن خطأ كبيراً قد تم اقترافه بنوايا مسبقة وبإصرار، من قبل الذين ساهموا في اللجان التي تم اختيارها من قبل الأمريكان في ما يخص الشأن الاقتصادي على الأقل، إذ أن الاقتصاد والمجتمع العراقي لم يكن مهيأ لذلك لاعتبارات عدة، أبرزها حالة الحروب والحصار، ومبررات ذلك تكمن في الآتي:
1- إن الاقتصاد العراقي يعد اقتصاداً مدمراً بكل المقاييس، وبدون النفط ما كان ممكناً أن تستدام الحياة فيه، حتى في ظل أوضاعها الحالية.
2- إن الاقتصاد العراقي لم يبدأ في نفض غبار التدمير والتهتك، وتخلف قطاعاته الاقتصادية بعد.
3- جميع الممكنات التكنولوجية تعد متقادمة، ولا يمكن الاعتماد عليها، مما يتطلب خطة للتحديث التكنولوجي.
4- الضغوط السياسية والأمنية وتواجد قوات الاحتلال، واستلاب جزء من الإرادة الوطنية، وعدم امتلاك القرار السياسي- الاقتصادي الكامل.
5- لابد من الاعتراف من أن القطاع الصناعي والى حد ما القطاع الزراعي هما في حالة انهيار، وهذا ما يمكن تلمسه من حجم وتنوع السلع الزراعية والاستهلاكية المتوافرة في الأسواق العراقية.
6- لا توجد سياسة تجارية واضحة، إذ لازالت مستوردات التجار من السلع الرديئة، بكل أنواعها تعج بها الأسواق، بل ما يمكن أن نلحظه، هو سيل الأجهزة الكهربائية الذي لا ينقطع، في بلد يعاني شحة كبيرة جداً في الكهرباء، ناهيك عما لعبته الإستيرادات الزراعية من كبح للإنتاج الزراعي المحلي.
7- إن البنية التحتية التي ترنحت بهدوء بتأثير الأداء الاقتصادي الضعيف ووطأة الضربات العسكرية الأمريكية في عامي 1991 و2003، مع إهمالها في مرحلة الاحتلال، تشكل واحدة من أهم الروافع التي يحتاجها الاقتصاد العراقي، سواءً على مستوى توفير الخدمات من ناحية ام لاستجلاب وجذب الاستثمار الأجنبي من جهة أخرى.
إن اعتماد نظام اقتصاد السوق على الاقتصاد العراقي من دون حسابات صحيحة كمن يضع العربة قبل الحصان، فما هو معروف أنه نتيجة سياسات النظم الجمهورية منذ عام 1958-2003، قد جرى أضعاف وتهجير الطبقة الوسطى في العراق، لمختلف الأسباب، وعليه لا توجد في العراق طبقة وسطى فاعلة، فهي إما تم تذويبها بفعل السياسات السابقة، أو هربت خارج العراق ومن دون إعادة بناء هذه الطبقة، فإن المستقبل ينذر في ضوء ما هو حادث الآن، من أن الشرائح الطفيلية التي ورثت الرأسمالية الوطنية العراقية، ستستبدل شعار الرأسمالية العتيد (دعه يعمل ... دعه يمر) الى شعار هي تريده (دعه ينهب ... دعه يمر).
ومن المناسب الإشارة الى أن العراق بعد سنين طوال لا يحتكم على قطاع خاص بالمعنى الحقيقي للكلمة، أي أننا لا نمتلك (رأسمالية محلية حقيقة)، لأسباب تتعلق بالطبيعة المنظورة سلفاً لهذه الشريحة، فضلاً عن طبيعتها وفلسفتها في العمل الاقتصادي، وبدون رأسمالية حقيقية لها ثقافتها وأصولها ووطنيتها المفترضة، لا يمكن بناء رأسمالية من دون رأسماليين، وما هو متاح الآن وسابقا في اغلبه(شرائح طفيلية تغذت على المال العام محاباةً أم نهباً، وتوليد رأسمالية بطريقة الأنابيب، يحمل معه مخاطر على المستقبل).
إلا أن ذلك لا يعني الهيمنة أو السيطرة الكاملة للدولة على الاقتصاد، بل يعني الانتقال من النظرة الأحادية (أي إما قطاع عام وإما قطاع خاص) إلى النظرة الاقتصادية الشاملة المنطلقة من خلفية وطنية، تسعى إلى حشد جميع الموارد والإمكانات الوطنية، والتجاوز نهائياً لموضوعة المفاضلة بين القطاعين العام والخاص. فالمفاضلة يجب أن تكون بين قطاع منتج وآخر قطاع هامشي، أو بين قطاع ناجح وآخر متعثر، والسياسة الاقتصادية السليمة يجب أن تتجه إلى تدعيم القطاع المنتج والناجح، وإلى معالجة سلبيات القطاعات الهامشية والمتعثرة.
إن اعتماد التحول السريع لاقتصاد من مثل الاقتصاد العراقي في أوضاعه الحالية، يعد أمراً تكتنفه الصعوبات والمخاطرة، تبعاً للإفرازات المتوقعة اجتماعياً واقتصادياً، وهو ما يشكل هاجساً لكل من يريد لهذا البلد خيراً، وأن التحفظات على عملية التحول كما يراد لها خارجياً ومن بعض المنتفعين والمشبوهين، تدخل الحكومات العراقية مستقبلاً، في دوامة صعبة في مواجهة الشعب، في الوقت الذي يجب على كل المخلصين وفي كافة المستويات ومنهم المتخصصون، إن يساهموا في استنارة متخذي القرار بالسبل الناجعة لنقل الاقتصاد العراقي والمجتمع الى مرحلة أفضل، كيما يستطيعا غذ السير الى الأمام وتعويض الفرص التي خسرها العراق في التقدم.
بيد أن ما يمكن قوله أن دور الدولة كان سلبياً ومهيضاً، وكابحاً لفرص التطور الاقتصادي، على العكس من الأهداف والشعارات التي رفعتها، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال، دفعاً باتجاه تقزيم أو تهميش دورها، بل على العكس نرى أن للدولة دوراً محورياً في ضبط إيقاع حركة الاقتصاد والمجتمع، وبدلاً من أن تكون عقبة كأداء إزاء الجهد التنموي، كان جديراً بها أن تتلمس الطريق وتيسر وتفعل حركة القوى الحية في المجتمع بشكلها الفردي أم الجمعي.
وحتى القدرات التي منت الدولة المجتمع بها، في حشد موارده وتوجيهها صوب رفع مستويات معيشته وتحسين أحواله، ذهبت مع سوء أدارة الدولة وفشلها الذريع في تخصيص الموارد حتى لم تعد المشكلة في العراق اقتصادية بالمعنى الحقيقي، كيما توهم مجتمعاتها للتعكز عليها، بل تحولت المشكلة الى(سوء أدارة الموارد الاقتصادية)، وهو ما يتطلب مراجعة شاملة لتاريخية نمط تخصيص الموارد في الدولة العراقية منذ عام 1958والى 2010، من أجل تحديد مسؤولية الحاكم والحكومة عن هدر الإمكانية وسوء التصرف بالموارد وبخاصة للنظام السابق وللحكومات التي قامت بعد الاحتلال.
وهو ما ستعجز عنه الحكومات العراقية على مر تأريخه المعاصر، عن توفير غطاء أخلاقي له، كونها استأثرت واستهترت بموارد المجتمع ومستقبله، وهو ما لم يحظ بالاهتمام المفترض في بناء منظومة الحقوق المجتمعية في عراق ما قبل وبعد الاحتلال.
فإذا ما جرى كشف حساب النظم المتتابعة لحكم العراق وشخوصه، فأن الحقوق التي أهدرتها هذه النظم، والمعبر عنها بالكلف (الاقتصادية–الاجتماعية– الإنسانية)، والمتوزعة على مروحة واسعة من المعالم والمؤشرات، سوف تكون تكلفة سدادها، أمراً يتجاوز حدود العقل والمنطق.
ما نريد قوله هنا أن حالة التراكب مابين الهدر وسوء التصرف في الإمكانات، هي حالة تتزامن مع بعضها حد التزاوج مع مساحة تتوسع باستمرار، كدالة في حجم الهدر والتراخي، وهو دالة طردية أيضاً مع ضعف الحكومة وأجهزتها الرقابية التي تتابع مجالات التصرف في الموارد المالية.
واستكملت حلقة من حلقات إعاقة بناء العراق، بإشاعة النهب والسلب والسرقة والتي عبر عنها رامسفيلد بأنها نتاج للحرية، إذ تقدر الأموال العراقية المنهوبة مابين (53.1-47.1) مليار دولار، وهذا المبلغ ضعف ما جادت به أيدي النبلاء في مدريد ويقل قليلاً عن تقدير كلفة أعمار العراق من قبل اللجنة الأمريكية– الدولية.
ناهيك عن أن التقديرات المتواضعة والخجلى، أو التي لا يستطاع البوح بها، وتكشف المستور عن ما يسمى بإعادة الأعمار والمشاريع، تعد واحدة من أكثر القضايا التي لا يمكن التخلص منها بسهولة في الزمن المنظور، كون الهدر في التنفيذ للمشروعات أو تقدير كلفها، حالة ترتبط بتفشي الفساد،والتي تقدر بأنها تتراوح مابين 15-20) %) وهذا الأخير لم يعد مرتبطاً بشخوص يعانون من قصور قيمي، بل أنها أضحت ظاهرة متجذرة لها فلسفة واليات وتشابكات متعددة ومعقدة، وهي لم تعد مقتصرة على الحالة المحلية، بل تجاوزت المحلي الى الإقليمي والدولي، فهي ظاهرة عابرة للدول، ولهذا توصف من قبل جهات دولية بأنها(اكبر فضيحة في التاريخ).