طه سالم وزمن التحدي والتجديد

طه سالم وزمن التحدي والتجديد

مؤيد داود البصام
بدأت نشأة المسرح العراقي، مع بزوغ مرحلة التنوير، التي قادها رجال الفكر والحركات السياسية الذين اطلعوا على تاريخهم وتاريخ الشعوب والحركات السياسية العالمية ونضال أبنائها لبناء بلدانهم وتطورها الحضاري، وكان طموحهم إن يحققوا لبلدانهم ما تحقق للبلدان الأخرى، من تطور حضاري ومدني، وبناء دولة المؤسسات، وإن اختلفت مشاربهم ما بين الليبرالية والاشتراكية،

وتربعت على أطارحيهم الأفكار اليسارية، وهو ما جعل المسرح العراقي يهتم بمعالجة المشكلات الاجتماعية، ويتبنى النقد الاجتماعي محورا ً دائما ً، وحتى الروايات التاريخية التي كانت تقدم على المسرح العراقي، لها صلة بشكل وآخر بمستجدات الحالة الاجتماعية والنقد والنصح والإرشاد، ولهذا فقد نشأ مسرحا تحريضيا ذا طابع انتقادي اجتماعي، وهو ما جعل القوى اليسارية تحتويه، ويضم بين دفتيه أغلب المبدعين الذين كتبوا أو عملوا في المسرح من اليسار ورواد النهضة، وكان المنهاج الواقعي سيد الساحة في الإعمال المسرحية التي كانت تقدم لعقود متتالية، لتتماشى والأطروحات الفكرية للقوى الناهضة في تغيير المجتمع، ومع ما يراد أن يهضمه الجمهور من أفكار تحررية ونقدية لتغيير البنية الاجتماعية والفكرية، إضافة إلى ذلك أن المنهاج الواقعي هو الأقرب للجماهير ذهنيا ً ونفسيا ً.
ولكن سرعان ما بدءا تطور في مفاهيم النصوص المسرحية. وظهرت على السطح روح التمرد على الإشكال التقليدية في الإنتاج الأدبي والفني، وبالذات على المنهاج الواقعي، ونمى المنهج التعبيري في الأدبيات المسرحية العراقية، ليعطي ثماره في العديد من الإعمال الواقعية التعبيرية، ثم ظهرت الإعمال الطليعية في المسرح العراقي الحديث، وقد قاد هذه المسيرة الشاقة في مجتمع أغلبيته من الفقراء والأميين والمجهلين عبر قرون، مع حالة التخلف التي كان يرزح تحتها المجتمع عموما ً، بضعة أشخاص من الذين أبدعوا في الأنساق الفكرية والفنية والأدبية وشكلوا الحلقات الأولى لتبني تطور وبناء الإنسان العراقي عبر العلم والفن والأدب، وكان واحدا منهم الفنان والكاتب طه سالم. وقد أشترك طه سالم في أعمال مسرحية تاريخية واجتماعية عديدة، تمثيلا ً وإخراجا ً، وكتب في العديد من المناهج المسرحية، قبل أن ينحاز كليا إلى الحداثة، ويبدأ المسيرة التي وضعته على رأس قائمة المجددين والمحدثين للنص المسرحي العراقي.
التقيت طه سالم في عام 1964، وتعارفنا من خلال صديقنا المشترك الكاتب المسرحي صبحي الطائي، وكانت تدور اغلب أحاديث لقاءاتنا عن المسرح والتجديد في البنى الثقافية العربية والعراقية، وأطلعنا الفنان طه سالم على نصوص كتبها في أدب اللامعقول، في الوقت الذي كان مسرح اللامعقول في بدايات وجوده في أوروبا والعالم، مع كتابات توفيق الحكيم ومسرحياته في أدب اللامعقول في مصر، وعندما قرأنا مسرحية فوانيس، قلنا له بحماس: لماذا لا تقدمها على المسرح، فاخبرنا أن المخرج إبراهيم جلال متحمس مثلكم وأكثر لإخراجها، ولكن المشكلة بصعوبة التمويل المالي، فقلنا له، نحن سنمولها، أذهب واتفق على التحضيرات مع فرقة المسرح الفني الحديث، وفعلا تم تقديم مسرحية فوانيس، على مسرح دائرة السينما والمسرح في الكرادة، ونجحت نجاحا باهرا، ثم قدمت على مسارح دولة الكويت، وتتالت أعمال طه سالم الطليعية، وقدمت مسرحياته اللواتي أخرجهن أفضل مخرجي العراق المسرحيين وأساتذة المسرح العراقي، فهو وإن كرم وحاز على العديد من الجوائز والتكريم، عراقيا ً وعربيا ً، تبقى أهمية دراسة نتاجه كأحد الرموز المهمة في ثقافتنا المسرحية العراقية والعربية، التي ساهمت في خلق جيلا مسرحيا، أبدع في تقديم نتاجه ونفسه كأهم مسرحا جادا في المنطقة العربية، وقد ساهمت الإحداث السياسة التي مرت على العراق في عدم إعطاء طه سالم المكانة التي يستحقها، ولكن صوته ظل يسمع في المسرح العراقي كرائد من رواده، وأحد أهم مجدديه، ومثل حقبة مهمة، ما زالت تعطي ثمارها مع نور الدين فارس وعادل كاظم...وآخرون، وبات من الضروري وضع نتاجه بين يدي الدارسين والمتابعين للمسرح العراقي، فهو نتاج يزخر بإعمال تشكل ثروة في عالم المسرح العراقي، وتكشف عن مراحل تطور وبناء المسرح العراقي وما قدمه للثقافة العراقية.