نابوكوف... الذي قاد الفن الروائي في دروب غير مألوفة

نابوكوف... الذي قاد الفن الروائي في دروب غير مألوفة

عدنان المبارك
مرَّت أكثر من ثلاثة عقود على رحيل فلاديمير نابوكوف (1899 / 1977) الذي شق درباً متميزاً في الأدب المعاصر وأصبح الى جانب انتوني بورجيس من (آباء) ما بعد الحداثة، كما إعتبر نابوكوف المواصل الرئيسي لتقاليد الأدب الروسي. من جهة أخرى أفلح في النصف الثاني من عمره، في دخول ثقافة مغايرة وهضمها والكتابة بلغتها. ويرى باحثو ادب نابوكوف أنه ربط، بتلك المهارة المدهشة، التقاليد القائمة والتجريبية الجادة.

كذلك كان نابوكوف خبيرا في الأنتومولوجيا (علم الفراشات) كما إبتكر تقنيات معروفة في لعبة الشطرنج أيضاً.
وُلِدَ نابوكوف في بطرسبورغ في عائلة أرستقراطية. وكان جدّه وزيرا للعدل لفترة طويلة. أما أبوه فكان يتزعم الحزب الليبرالي الذي تعاون مع كيرنسكي رئيس الحكومة المؤقتة التي قام البلاشفة بإنقلابهم المعروف عليها. وفي عام 1919 يترك مع عائلته البلاد على متن آخر سفينة غادرت سيفاستوبول. وفي المهجر أنهى دراسة الأدب في كمبردج. ومنذ عام 1922 إستقر في برلين. وكان قد نشر في روسيا مجموعتين شعريتين لم تلق قبول النقاد الذين نصحوه بترك الأدب.
كذلك أصدر أثناء الدراسة مجموعتين أخريين. وفي برلين حاول طويلا الكتابة المسرحية، كما قام بكتابة السيناريوهات السينمائية. وفي عام 1925 قرر التفرغ للتاليف الروائي والقصصي. ونشر أولى قصصه في العام التالي(ماشينكا / ماري). وتحدث فيها عن غرامه الأول وحياته العائلية. ولقيت القصة القبول وخاصة في أوساط النخبة الروسية هناك. وجاءت روايته (الملك، الملكة، الولد) في عام 1928. كان ابطالها الثلاثة من الألمان. وكتب نابوكوف في مقدمة الطبعة الأمريكية للرواية في عام 1967:(لم أكن أعرف الألمانية. وكنت بدون أصدقاء ألمان كما لم أقرأ أي كتاب ألماني بالأصل أو مترجم). وقد يكون هذا الإعتراف السبب في أن الرواية ذات شخوص ببعد واحد وتخلق الإنطباع بأنها دمى يحرّكها المؤلف كيفما يشاء، الا أن لهذه الرواية اهمية خاصة إذا تعلق الأمر بفهم مجرى التطور الذي طرأ على تقنيات الكاتب.
في روايته التالية(الدفاع) التي نشرت في عام 1930 إنتفى طابع (التمرينات التقنية). وهذه الرواية اصبحت من أهم أعمال الأدب الروسي في المهجر. بطلها (لوشين) لاعب شطرنج طرحه المؤلف على مستويين: الواقع الخارجي والآخر (الشطرنجي) الذي يذكر بالفعل الهندسي أو البناء المنطقي أو التاكتيك الحربي،الا أنه حين يعم الإضطراب في هذين المستويين ويعجز البطل عن الإبتكار المتواصل لتقنيات جديدة تكون نقلته الأخيرة بعد أن واجه خطر ال(شاه/ مات) هي القفز من النافذة، وبهذه الصورة يرفع عارضة الحدود بين الواقعين.
كانت فترة إقامة نابوكوف في برلين بالغة الخصوبة والأهمية في تكوين شخصيته الأدبية. فخلال أقل من عشر سنوات نشر سبع روايات وسبع مسرحيات وثلاثة دواوين والكثير من المقالات النقدية وغيرها. كذلك قام بترجمة (كولا برينيون) لرومان رولان، و(أليس في بلاد العجائب) للويس كارول. وكان مورده المالي من الكتابة والترجمة متواضعا ولذلك كان يعتاش أيضا على تعليم لعبة التنس واللغتين الروسية والأنجليزية.

ومن أبرز رواياته من تلك الفترة كانت (اليأس) و(دعوة الى الإعدام). وفيهما تمكن نابوكوف من التشييد البارع لما أسماه بالوضع اللافعلي للذاكرة والفن بعد فقدان الرباط مع البيت والوطن.
في عام 1937 يترك نابوكوف ألمانيا النازية. وكتب حينها الى أحد أصدقائه:(أيّا سيكون المستقبل فسوف لن اعود الى ألمانيا هذا البلد المقزز والمرهب). وبعدها بسنين أراد العودة لكن لغرض واحد فقط: أن يشاهد المعسكرات ويكتب عن (إتهامها الرهيب). ولغاية عام 1940 بقي نابوكوف في باريس التي سبق أن عرفها لكنها لم تقدر، كما قال، على أن تعوّض عن مناخات الوطن. وفي تلك الفترة إتخذ قراره النهائي، وكان الكتابة بلغة أخرى. في البدء كتب قليلا بالفرنسية الا أنه إختار الإنجليزية. وبقي يكتب بها الى النهاية. وكان مطلعا على الثقافة الإنجليزية الا أن الحياة لم تعجبه في الجزيرة. وترك باريس متوجها الى الولايات المتحدة التي تختلف جوهريا عن روسيا وتقاليدها. الا أن ما جذبه إليها إنفتاحها، كما قال، على الأفكار الجديدة. وفي عام 1941 ينشر أولى رواياته المكتوبة بالإنكليزية (حياة ساباستيان نايت الحقيقية). وهيكل هذه الرواية أرسي على المبدأ التقليدي لدى نابوكوف: التشكيك المتواصل بأسلوب كينونة الواقع. وفي الخط الأمامي للرواية نلقى محاولة إعادة خلق مصائر الكاتب ساباستيان نايت بصيغتين. الأولى يطرحها شقيق الكاتب، والثانية للكاتب نفسه، ولكن الصيغتين غير مستقلتين. فالمزج والتاثير المتبادل قائمان. وتذكرنا صيغة الشقيق بكتابة نابوكوف نفسه.
وفي أثناء إقامته في الولايات المتحدة، وسويسرا فيما بعد، قام نابوكوف مع إبنه ديمتري بترجمة معظم مؤلفاته التي كتبها بالروسية لكنه قام بتعديلات وتغييرات خصّت البناء والأسلوب على السواء، وحتى أن روايته (غرفة التصوير المظلمة) التي أبدل إسمها الى (ضحكة في الظلام) أصبحت عملا مختلفا تماما. وفي روايته (دعوة الى الإعدام) من عام 1938 و(علامة النغل) من عام 1947 يخلق نابوكوف رؤية كابوسية للفرد المستعبد الذي يقضي عليه النظام الشمولي في النهاية.والرواية الأولى قريبة من عالم كافكا رغم إعتراض المؤلف ونفيه، أما الثانية فتتناول واقعا قابلا للتعرف لدرجة أكبر. بطل الأولى كان قد إرتكب جريمة ولأنه لم يكن (شفافا) في عالم فرض عليه النظام والقانون الشفافية المطلقة. ويختلف هذا البطل عن (ك) الكافكوي بأنه له إسمه الأول، اما لقبه فهو حرف أيضا. وبعد سلسلة من الأحداث الغروتسكية يقطع الجلاد رأسه. وهذا الجلاد كان شريكه في زنزانة السجن والشخص الوحيد الذي كان يكن له الود. وهذه الرواية مليئة بالهواجس التقليدية لدى نابوكوف مثل الهوية المزدوجة وذلك الإنمحاء للفاصل الزمكاني في السرد المتابع للواقع الخارجي والاخر اللافعلي على حد سواء. أما بطل الرواية الثانية فهو الفيلسوف آدم كروغ الذي كتب عليه العيش في دولة يحكمها دكتاتور أحمق إسمه بادوك لكنه يعرف بنعت (الضفدع). وكان الإثنان زميلين في المدرسة. كروغ، وكان الأقوى جسما وعقلا، إضطهد بادوك. وعندما يطلب (الضفدع) من كروغ ان يقسم له بالولاء يرفض الطلب، وفي الواقع لأسباب غير جوهرية بل بدافع الإحتقار الشخصي ل(الضفدع). لكنه يرضخ في النهاية بعد أن هدده جلاوزة النظام بقتل إبنه، وفي الخاتمة يقود نابوكوف هذا الرجل الى الموت أيضا تماما مثل نهاية بطل (دعوة الى الإعدام) وإن إختلفت الأسباب. فكروغ يموت بسبب فقدانه لحريته الداخلية إن صح القول. وفي كل الأحوال أراد نابوكوف أن يحدد ثمن مقاومة الشمولية مهما كانت درجة تلك المقاومة. وفي الواقع لم يكن نابوكوف كاتبا سياسيا الا أن الهجمات كانت تأتيه من كل الجهات..
كان أسلوبه المترفع ومضامين نثره وكامل مختبره البسيكولوجي تفسر، عادة، بالبرج عاجية المتحذلقة التي لم ينبذها رغم نكبة الهجرة والنفي وحتى أن أفضل من تناول كتبه وهو الناقد الروسي فلاديسلاف خوداسيفتش يصّر على القول بأن مصدر ودافع جميع أعمال نابوكوف هي تلك الآراء الأرستقراطية.. فإشكاليات الفن قد قنعّت، هنا، بالمجازات.. وكذلك لغاية عام 1986 لم ينشر أي كتاب لنابوكوف في الإتحاد السوفيتي وليس فقط لأنه كان (مهاجرا أبيض) بل لأنه كتب أدبا (فاسدا) ووفق مساطر أخرى، كذلك لم يحظ نابوكوف بتقدير كتاب الغرب (الملتزمين) الا أن النخبة الفكرية للمهاجرين الروس كانت تعتبر فلاديمير سيرين(وكان هذا إسمه الأدبي آنذاك) من بين أكبر الأسماء الأوربية، كما وجدت أن موقعه هو بين الكبار أمثال تولستوي وغوغول وتشيخوف.
من ميزات أدب نابوكوف أنه يقف، كأي ادب حقيقي، ضد تيارات الثقافة الجماعية التي صارت الغذاء اليومي لإنسان الغرب خاصة، وحتى رواية (لوليتا) التي أرادت هذه الثقافة تحويلها الى رمز من رموزها لم تكن بالرمز الصالح تماما، ولأنها أثر قائم على التناول البسيكولوجي الرهيف الأمر الذي هو على الضد، رغم المظاهر الكاذبة، من الهيدونية الرخيصة التي صارت الأقنومة الأولى للثقافة الجماعية،وكما يقول أندريو فيلد أبرز باحث إنجليزي في أدب نابوكوف فإن هذا الكاتب الروسي كان قد تبرأ تماما من المجتمع الجماعي المشتت الذي أراد أن ينصبه ملكا.
في عام 1944 ينشر نابوكوف مونوغرافيا غوغول التي أثارت نقاشات طويلة ولم تلق القبول لدن الأوساط الجامعية عامة. قيل إنها السبب في عدم حصول نابوكوف على وظيفة جامعية. وفي عام 1948 عيّن محاضرا في جامعة كورنيل وبقي فيها عشر سنوات. وكان قد سعى، اثناءها، الى العمل في جامعة هارفارد الاأن رومان ياكوبسون كان من أوائل المعترضين. قال:(وحتى إذا إعتبرنا نابوكوف كاتبا مهما فهل معنى هذا أن يعيّن الفيل بروفسورا في قسم عالم الحيوان؟). الا أن متاعب نابوكوف المادية إنتهت في عام 1955 بفضل (فتاة صغيرة ما زالت تعيلني) كما قال، وإسمها لوليتا. كانت هذه الرواية قد نشرت للمرة الأولى في دار أولمبيا الباريسية المعروفة بنشرها الكتب التي سبق ان منعتها الرقابة الإنجليزية أو الأمريكية. وبعدها بثلاث سنوات نشرت (لوليتا) في الولايات المتحدة. وصار الكتاب بسرعة لاتصدق، على رأس قائمة الكتب الأكثر رواجا، ومازاد من شهرة هذا الكتاب (غير المحتشم) قيام ستانلي كيبريك بنقله الى السينما. وبفضل (لوليتا) ترك نابوكوف الوظيفة وإنتقل الى سويسرا التي مكث فيها الى النهاية. كذلك بفضل هذه الرواية لقيت كتب نابوكوف الأخرى الرواج بالرغم من طلائعية مؤلفها وأسلوبه الصعب مما يكون إبتعاد القاري العادي عن هذا الأدب أمرا مفهوما. وكما كان الحال مع (لوليتا) التي أسعدت ذلك الرجل (همبرت همبرت) ثم كانت السبب في مأساته، فقد شوهت هذه الرواية، أي الإقبال الجماعي عليها، صورة الكاتب الذي دخل الشهرة، غير عامد بالطبع، من بابه الخلفي وبعد أن أغلق أمامه الباب الرئيسي لأسباب غير جوهرية كالعادة. ولو أزلنا الهالة الوهمية للدعاية الرخيصة وتلك الذائقة العادية تكون (لوليتا) رواية من صنف الأعمال الفنية المتقدمة. فهي دراسة نفسية دقيقة لاتخلو من الحس الشعري الذي عرف به نابوكوف.
في عام 1957 ظهرت روايته التالية (بنين)، وهي تتكلم عن حياة فاشلة لمهاجر روسي توجه بعد مكوثه في باريس الى الولايات المتحدة والى آخر فصول حياة الكاتب نفسه. ولا تلعب الأحداث هنا دورا بل ذلك التعامل غير المألوف لدى الراوية الذي لانقدر، كقرّاء، الإعتماد على معرفته بل مصداقيته بالرغم من أن علاقات من طراز غير إعتيادي صارت تنسج مع البطل والمؤلف والقاريء معا...
وما بدأ نابوكوف به في هذه الرواية بلغ إكتماله في روايته التالية (النار الشاحبة) من عام 1962 والتي اصبحت من الأعمال النموذجية لما بعد الحداثة. فإلى جانب نبذ البناءات السردية نجدها تتكون من أربعة اجزاء. الأول هو بمثابة مقدمة كتبها احد الأبطال الرئيسيين، والثاني قصيدة تحمل إسم الكاتب، والثالث تعليقات موسعة على النص الرابع الذي هو فهرست أو دليل ضخم غير عملي لكنه مسل للغاية.. ومرة أخرى يخيل للقاريء أن غرض المؤلف هو التشكيك بمصداقية الراوية بمعزل عن مسألة أن الوقائع التي كان يتكلم عنها محرّفة عن قصد أو من دونه. وفي الأساس تكمن إشكالية هذه الرواية في العلاقة بين الوجود (الموضوعي) لعالم الوهم الأدبي وطريقة إخضاعه للوصف أي جعله ذاتويا، وهي القضية التي يجهد كتاب ما بعد الحداثة في إضاءتها. وكان النقاد على صواب حين عثروا على الشبه القائم بين الرواية وملحمة بوشكين(يوجين أونغين) التي تعتبر من اكبر اعمال نابوكوف في مجال الترجمة أيضا. وكانت الترجمة قد صدرت في عام 1964 ولقيت الإنتقاد الشديد. وكان أدموند ولسن قد إتهم المترجم، وكان صديقه الحميم، بإستخدام عدد من الكلمات الإنجليزية النادرة والأخرى التي إختفت، عمليا، من اللغة ولدرجة أن القاريء المتعلم لايقدر على قراءة هذه الترجمة دون الإستعانة بالقاموس...
كذلك نشر نابوكوف الكثير من القصص والأشعار والمقالات النقدية وسيرته الذاتية أيضا. وهناك عدد من القصص إعتبرت نموذجا لأفضل منجزاته. وفي عام 1969 ينشر روايته (آدا)، و (شفافية الأشياء) في عام 1972. وتعد الأولى من أكثر رواياته إبهاما مما دفع النقاد الى درجها ضمن التقليد الذي خلقه جويس في (يقظة فينيغين). وقد لايخلو من المبالغة القول إن نابوكوف كان الأب المجهول للكثير من الممارسات التقنية المعروفة اليوم. كما يخلو منها القول بأن هذا الكاتب الروسي شارك الى جانب الكبار الآخرين في دفع الرواية المعاصرة في هذه الدروب (غير المألوفة..