اول افندي في تاريخ مدينة النجف

اول افندي في تاريخ مدينة النجف

جليل الخزرجي
لم يكن أحد من النجفيين يرتدي (السترة والبنطلون) في العشرينيات يوم كان حميد خان آل نظام الدولة ، يخطر في لباسه الملكي الجميل وطربوشه الأحمر الذي يعلو رأسه،حيث كان ذلك ملفت أنظار جميع الناس في مدينة النجف. ولقد قيل إن الحاج محسن شلاش قد إرتدى السترة والبنطلون حين أنعم عليه بالوسام من الحكومة العثمانية، كذلك أن محمود عجينه أحد رؤساء بلدية النجف في العهد العثماني

هو الآخر كان قد إرتدى اللباس الملكي – ولكن ذلك ان كان – فهو لمدة مؤقتة ولأيام خاصة، أما الذي لبس السترة والبنطلون منذ أول شبابه الى أخر أيامه فهو حميد خان الذي يكون (أول نجفي) إرتدى هذه الألبسة في النجف.
وأكثر مكان يرتاده حميد خان كان في الصحن وعلى دكة مقبرة أبيه (أسد خان) حيث يفترشون هذه الدكة في الصحن ببعض السجاد موظفي الحكومة التركية ووجهاء النجف فيتخذوها مجلساً وقت فراغهم عصر كل يوم، وفي صباح ومساء كل جمعة يتوسطهم حميد خان وتقع عيونهم على الناس وتقع عيون الناس عليهم. وكانت البزة العسكرية تأخذ من عيون الجميع مأخذها يومذاك.وحميد خان يحسن اللغة الانجليزية وإنه ابن اسد خان الموسر الكبير صاحب حمام (الحضرة) ونصف (القيصرية) الكبيرة أنذاك .
وقد انهى مرحلة دراسته في الهند، أما أسباب تلقيه الدروس في الهند دون سائر الجهات، لأن عمته (البيبي) كما يسمونها كانت زوجة زعيم الطائفة الأسماعيلية وهي أم (أغا خان) الكبير.
ولقد جاءت هذه (البيبي) مرة الى النجف زائرة، وأعانت المدرسة العلوية بمبلغ من المال، وأنعمت على كل طالب بمبلغ (مجيدي) واحد وروبيه واحده احياناً، علماً إن هذه المدرسة هي من أملاك (أسد خان)، وهو البيت الذي يقع في شارع مدرسة السيد كاظم اليزدي..
كان بيت أسد خان محل نظرة اعجاب ودهشة، والذي كان يقصه كل نجفي عن تلك الأبهة والحفاوة التي حفّ بها زواج ولدي الحاج (علي أغا) شقيق الحاج
(أسد خان) وهما أغا عباس وأغا صدري من بنتي عمهما أسد خان، وكان ذلك سنة 1321 هجرية فقد ظل حديث جميع المجالس كما صار أنشودة الصبيان لجيل أخر في تلك الفترة.
فلقد نقل أن زفاف العروسين إلى إبني عمهما المذكورين أعلاه قد جرى في عربة تجرها خيول مطهمة أسرجت بسروج من الحرير المطرز بالقصب، وألجمت بألجمة من الفضة، وزينت العربة تزييناً بالغ فيه المتحدثون كثيراً، وكان من وراءها ألاف من النساء و الوصائف والعبيد، فلا تبلغ العربة مفترق أحد الشوارع في مدينة النجف وهي في طريقها الى بيت العريسين حتى تقف، فيقف الموكب كله ولا يتحرك إلا بعد أن يجيء العريسان فيتنازلا للعروسين عن قطعة من أملاكهما على سبيل الترضية وإشباع الدلال، فتمشي حينذاك العربة ثم تقف عند مفترق شارع آخر ويعود العريسان مرة أخرى فيهديان للعروسين شيء أخر حتى أن يصل الموكب الى بيت الزوجية كان هذا مما ينقل عن زواج اولاد الحاج علي أغا وينقل في صور مختلفة تركت لها أثاراً عميقة في نفوس النجفيين، أما قصة الأهازيج التي إلتصقت بهذا الزواج فتتلخص بأن (الحاج علي أغا) كان قد أقام الولائم بمناسبة زواج ولديه لجميع سكان النجف على الأطلاق مدة ثلاثة أيام، فخص اليوم الأول منها بالعلماء والأدباء ورجال الحكومة من النجف وأطرافها، وخص اليوم الثاني بالوجوه والتجار والكسبة المحترمين، أما اليوم الثالث فقد فتح فيه الباب على مصارعيه للجميع، وبلغ خبر هذا الفتح جميع القرى والقصبات القريبة من النجف، فجاءت زرافات ووحداناً إلى بيت الحاج علي أغا، والظاهر أن المشرفين على المطبخ لم يقدروا عدد الوافدين في هذا اليوم تقديراً صحيحاً فشحت عندهم مواد المرق، أما اللحم والرز والسمن كان لديهم منه الكثير، فأستنفدوا كل ما إستطاعوا أن يحصلوا عليه في السوق في تلك الساعة المتأخرة من النهار من (حمص) و (آلوچه) و ( بخارا) و(إسبيناغ) ولكن اين يكون بمستطاعهم أن يكفوا هذه الجموع المحتشدة في الشوارع والتي صارت تدخل البيت بالمئات لتناول العشاء وتخرج من البيت بالمئات..؟
وأخيراً إرتأى المشرفون على المطبخ أن يستعينوا بالشلغم والجزر دون أن يلتفتوا إلى ان مثل هذا المرق والأوادم في الدعوات والأعراس لا يعتبر مألوفاً، لذلك لم يغتفر الداخلون في أواخر الليل لأن الحاج علي أغا مثل هذا السهو – وعدوه إهانة للطبقة الثالثة من العمال والفلاحين والفقراء ونسوا ما كانوا قد تناولوه من جيد المأكول ولذائذ المطبوخ في الوجبات الأولى من العشاء وكان بين تلك الطبقة بعض الشعراء والزجل العاميين من العمال فلم ينفض هؤلاء ايديهم من العشاء حتى هزجوا وردّد الأخرون أهازيجهم :-
إطبيخنا خوش طبيخ يا حيف مرقتنا جزر

ثم أردفوا ذلك بأبيات كثيرة من قبيل:
دزوا خبر لأسد خان وزنة جزر نص قران

ومن قبيل:
مرقة جزر بيها إحدار بالأنكري ما تندار

وغير ذلك مما ظل يردده الكبار والصغار جيلاً كاملاً وبلغ من الامر ان تناول القضية احد الادباء المتفننين ووضع لها تاريخاً بقوله ( عشا مرقت جزر ) وكان اغلب التاأت القصيرة في القواعد الاملائية التركية يكتب بالتاء الممدودة ومن هذه كانت التاء في كلمة ( مرقت ) وهي تعني (مرقة) ويبلغ مجموع هذه الكلمة (1321) وهي السنة التي تم فيها الزواج المذكور..
كل هذا جعل الناس ينظرون الى حميد خان نظرة إكبار وتمعن من بعيد في سترته وبنطلونه ويعجبون أن يرتدي احد من المدنيين السترة والبنطلون التي كانت مقتصرة على موظفي الحكومة في النجف في تلك الفترة .
وكان لحميد خان وعمه الحاج علي آغا أملاك من (قيصريات) وحمامات، وإسواق فأنيطت حراستها بحمد السني خصوصاً في الأوقات الساخنة التي يبدو فيها الشغب وتقوم المعارك الكبيرة بين ( الزقرت والشمرت) في النجف، فكان حمد في مقدمة جماعة حميد خان وآل الحاج علي أغا ومن ( الفتوات ) الذين التصقت اسماؤهم بأسماء آل نظام الدولة غير قليلة، وكانت صورة حمد السني هي من أتباع حميد خان.
ومما كان يرافق أسم بيت حميد خان ايضاً هو وجود ببغاء في بيتهم وهي من صنف خاص بين اصناف الببغاوات واتصل خبرها بجميع الناس، ورووا عنها الأعاجيب وقالوا ان في بيت حميد خان ببغاء تتكلم الهندية والفارسية والعربية بطلاقة، وكانت تنادي (مسعود) كلما رأت زائراً يدخل البيت ويجلس في الديوان صارخة بمسعود ان يجيء بالشاي للزائر وكانت تسأل قائلة: (من الطارق) إذا سمعت الباب يطرق، وكانت تشتم، وتسب بما تعرف من اللغات كلما رأت شخصاً يتحرش بها، وكثيراً ما كانوا يعاكسونها بعود يدسونه إليها من بين أسلاك القفص، وكل هذا كان ينقل عن هذه الببغاء العجيبة وربما يسيء كثير من المبالغة التي تحملهم على وصف أشياء ليست فيها.
وقد أهدى حميد خان هذه الببغاء التي يسمونها (كاسكو) الى الميرزا محمود الخليلي، ولما توفي الميرزا محمود اصرت زوجته على أن تكون تلك الببغاء من ضمن ميراثها، ومرت السنين تغيرت فيها الأحوال، ودالت دولة الأتراك وقامت حكومة الاحتلال الانكليزي فعرضت على حميد خان وظيفة معاون الحاكم السياسي في مدينة النجف وهي وظيفة خطيرة جداً يومذاك، فأبى قبولها وإشتد إباؤه واحست حكومة الاحتلال بالحاجة الماسة إليه فسعت عن طريق الزعيم الروحاني السيد كاظم اليزدي لحمله على تكليف حميد خان بقبول هذه الوظيفة وما زال به حتى قبلها خصوصاً وإن ثلة من أصدقائه المخلصين كالشيخ جواد الجواهري والميرزا مهدي الأخوند والشيخ عبد الكريم الجزائري كانوا يرون في قبوله لهذه الوظيفة ضرباً من ضروب أداء الواجب نظراً لأحتياج الناس الى أمثاله في قضاء حاجاتهم ومن هنا بزغ نجم حميد خان لا من حيث المقدرة واللياقة فحسب وإنما من حيث تصديه لقضاء حاجات الناس، ولكن هنالك فئة من المتطرفين أو غير المطلعين على مبدأ دخول حميد خان في ميدان الوظيفة قد غالت في تهجمها على حميد خان ولا سيما الشباب منهم وعدت قبوله الوظيفة ضرباً من ضروب ممالئة سلطان الأحتلال، وأشتهر حميد خان ولم تقتصر شهرته على النجف وحدها وإنما تجاوزت الفرات الأوسط، وصار بعد من أرباب الحل والعقد، ولم يعد يحتاج أحد من الكبار والصغار الى أن يمر بالصحن الشريف لتقع عينه على الدكة التي كان يقتعدها هذا المطربش ليعرض هناك شخصيته، فقد دخل أسم حميد خان في كل حديث من الأحاديث السياسية والثقافية والاجتماعية أليس هو اليوم المعاون المتنفذ ذا الكلمة المسموعة عند الحاكم السياسي بل عند الحاكم السياسي العام؟ أليس هو أول من تثقف من النجفيين ثقافة عصرية حديثة؟ ثم أليس هو إبن تلك الأسرة العريقة المعروفة في النجف؟ ذات الفضل في حفظ النجف من الغزو بسبب ذلك السور العظيم الذي كلف بناؤه الشيء الكثير من المال، ثم أليسوا هم الذين بنوا مدرسة الصدر وهي مدرسة دينية علمية في النجف وخصصوا لها أوقافاً تدر عليها وعلى طلابها،الرزق؟
وضاق بيت حميد خان بالوفود والزوار وأرباب الحاجات، بل ضاقت بيوت أصدقائه من الشيخ جواد الجواهري والشيخ عبد الكريم الجزائري والميرزا مهدي الأخوند بالناس اللذين يلتجؤون إليهم لقضاء حاجاتهم عند حميد خان، وبدأ الناس يرون في أعمال حميد صورة الانسانية قل عهدهم بأمثالها ممن عرفوا في حياتهم العامة والخاصة، فقد زخرت شخصيته بالكثير من المرؤة والنبل والحلم والسخاء.
يذكر جعفر الخليلي في كتابه ( هكذا عرفتهم ) حيث يقول: إني لأذكر إن أبي قد جاء ذات يوم وهو في أشد حالات القلق ليخبر أخي عباس الخليلي بأن حميد خان قد أسره بأن تقريراً سرياً قد وقع الى الحاكم العسكري يتهم فيه أخي بالعمل على قيام ثورة في مدينة النجف وإن حميد خان قد فنّد هذا التقرير على رغم إعتقاده بصحته وقد طلب أبي من أخي أن يقدر العواقب؟ وأن لا يزج بنفسه في هذه الميادين، وكان أخي عباس من أولئك الشبان الذين يسيؤون الظن بحميد خان وكان شيئاً من الخيانة، وأنما يومذاك لم أزل في مرحلة الصبا ولم أبلغ بعد السن التي تخولني أن أفهم شيئاً أو أرى رأياً، لذلك كنت الى جانب أخي في العقيدة وفي فهمي للوظيفة، ولم نكن وحدنا من أسرتنا الذين نرى هذا الرأي في حميد خان ونلوم أبانا على صداقته الأكيدة وإنما جل أسرتنا كانت على هذه العقيدة.
والكلام للخليلي : ومرة اخرى جاء حميد خان الى ابي ليخبره بان الأزمة قد اشتدت وإن التقارير بخصوص أخي قد تكاثرت وإن حميد خان لا يستطيع الدفاع عنه بعد هذا، ولكن أخي كان قد غطس في اعداد ثورة النجف الى شحمة الأذن- وكان لا يعير إذناً صاغية ، وفعلاً قامت ثورة النجف وعرفت مكانة أخي منها وتحققت مضامين التقارير ووقع شيء غير قليل من الكدر وسوء التفاهم بين السلطات الأنكليزية وبين حميد خان بسبب أخي عباس الخليلي وبسبب عدد أخر ممن كانوا قد أسهموا معه في الثورة النجفية فحال دفاع حميد خان بين السلطة والقبض عليهم قبل إستفحال الثورة حتى فات الوقت على السلطة، وفي مقدمة أولئك كان السيد محمد علي بحر العلوم والشيخ محمد جواد الجزائري اللذان لم يعبثا بتحذير حميد خان ولم يهتما بدفاعه عنهما، إن لم يكونا من الناقمين عليه.
ولقد وقع بين السلطة الانكليزية وحميد خان شيء كثير من الأخذ والرد والكدر عند إندلاع ثورة النجف ولكن هل منّ حميد خان على احد من أولئك الذين ذبّ عنهم؟ وهل قال لأحد من أسرهم إنه قد تحمل في سبيلهم ما تحمل من مؤاخذة وتجريح؟
وكان أغلب الناس في النجف لم يدركوا حقيقة حميد خان، رغم فضائله الانسانية ونبله وكرم خلقه ولكن الكثير من عميان البصيرة لا يقيمون وزناً لحميد خان حتى قامت الثورة العراقية.
وهمَّ حميد خان أن ينجو بنفسه من هؤلاء المتطرفين اللذين يجهلون قيمة حميد خان وحقيقته وكانوا قد كثروا في النجف، وقد ركب الناس حماس وطني عارم حال بينهم وبين الأدارك بأن دخول حميد خان الى الوظيفة إنما جرى بناءً على حث أئمة النجف الوطنية وزعماء البلد كالشيخ عبد الكريم الجزائري وان البلد قد أفاد من وجوده مالم يفده من الكثير من أهل الحزم والأخلاص.
وعندما أدرك حميد خان بانه مُعّرض للهلاك إذا بقي في النجف ساعة واحدة فهم بالخروج منها وقصد مدينة كربلاء ويغيب نفسه فيها، لأن محيط كربلاء كان أرحب صدراً من النجف بومذاك، وكان للشيخ صادق الكتبي في النجف دين فقصده حيث قد أسرجت خيول العربة المعدة لنقله خارج النجف، وهناك وقف حائلاً بين حميد خان والسفر، وعبثاً أجهد حميد خان نفسه في إقناعه وعبثاً أعد له بأنه سيكتب له حوالة على أحد التجار أو على وكيله لكي يتسلم المبلغ منهم، ولم ينفع الأجهاد مع الرجل شيئاً حتى أضطر الى ان يبعث باحد العمال من هناك ليأتي له بمن يلتقيه في الطريق أو في بيوتهم ممن أسماهم له لكي يسددوا الشيخ صادق دينه وبعد إنتظار ساعة وأكثر حضر السيد مهدي المحلاتي وقام بدفع المبلغ للكتبي ، وخلص منه حميد خان، ولكن هذا التعطيل قد أدى الى أن يتسرب خبر خروج حميد خان من النجف الى أولئك المتطرفين فأندفع البعض منهم وأدركوا العربة وهي على وشك الحركة ومن حسن الحظ أن حضر تلك المعمعة بعض من يعرف حميد خان بحقيقته فحافظ على كرامته وتوسط في أمره واكتفى المتطرفون بسجنه في مدينة طويريج تحت رقابة عمران الحاج سعدون رئيس قبائل بني حسن، فكانت هذه الحادثة غيرت بنتيجتها وتبعاتها رأي الكثيرين في حميد خان.
عندما انتهت الثورة عاد حميد خان الى النجف، وازداد عدد أنصاره وأحبائه وكان المنتظر أن ينزل بأولئك الذين خاصموه وأذوه وضايقوه ضربة مؤذية إذا لم تكن ضربة منتقمة، ولكن حميد خان لوَيَ جيده، وأشاحَ بوجهه كأنه لا يعرف من الماضي شيئاً، ومن ذا الذي لا يعرف من الماضي شيئاً، ومن ذا الذي لا يعرف خصوم حميد خان؟ لقد عرفهم حتى الأطفال، أفيخفى إذن على حميد خان أحداً منهم؟ وتلك كانت أهم سجايا الرجل التي إنفرد فيها في النجف.
ففي ذات يوم من أيام سجنه (بطويريج) وكان يعد ألبسته ليدخل حمام البيت؟ وكان الحارس الموكل عليه والخادم الخاص به يعملان في تسخين الماء في الحمام وهو أول حمام أعده حميد خان في البيت بعد بذل جهود غير قليلة مع الحارس الذي كان يخاف من إدخال العمال والبنائين الى البيت حذراً من عدم موافقة المسؤولين في بناء حمام في البيت وإن كان ذلك على نفقة السجين لنفسه وبينما حميد خان كان في الحمام يعد ألبسته طرق باب البيت طرقاً عنيفاً اضطره الى الذهاب بنفسه لفتح الباب وحينما فتح الباب ورأى رجلاً متجهم يتطاير الشرر في عينيه وهو في وضع يدل على أنه قادم على شرْ أو إرتكاب جريمة ... فخافه حميد خان وسأله عمّا يريد؟ فأجاب – أرني حميد خان وسترى .. فتركه حميد خان في الباب وجاء الى الحمام حيث الحارس والخادم فأخبرهما فخفا الى الرجل وإذا به في وسط الدار شاهراً سلاحه فقبضا عليه وانتزعا السلاح منه وساقاه الى عمران الحاج سعدون واعترف بأنه فلان وإنه من النجف وقد جاء ليقتل حميد خان تقرباً الى الله ولوجه الوطنية .. وقال إنه لم ير حميد خان قبل ولا سبق بمعرفته! وتمر الأيام بسرعة ويخرج حميد خان من السجن، ويعود الى النجف كأن لم يكن شيء قد حدث، وكان الشيخ صادق الكتبي الذي لولا مضايقته لحميد خان لكان حميد خان قد دخل كربلاء ونجا من السجن، فإذا بالشيخ صادق يقصد حميد خان في بيته ويلوذ به ليخلصه من ورطة وقع فيها، فقد أصبح الشيخ صادق – بسبب تأجير مطبعته في النجف على حكومة الثورة – من غرماء الأنكليز تلك المطبعة التي كانت تطبع فيها جريدة الأستقلال التي كان يديرها السيد محمد عبد الحسين فكانت لسان الثورة، فقد صودرت مطبعة الشيخ صادق الكتبي من قبل الانكليز وفرضت عليه غرامة من المال وعدد من البنادق يجب أن يأتي بها الشيخ صادق ويسلمها للانكليز، ولكن أترى قال حميد خان شيئاً؟ أو أشارَ الى شيء مما كان من أمر الشيخ صادق؟ أو ذكره بما كان له معه؟
وكل ما فعل حميد خان هو انه سعى فرّد له المطبعة وخففت له الغرامة وأسقط عن كاهله البحث عن البنادق وشرائها ..!!
ووقع مثل هذا بل وأكثر من هذا يوم كان يهم حميد خان بدخول السراي بعد الثورة فإذا به وجهاً لوجه أمام ذلك الرجل الذي قصده في طويريج ليقتله متقرباً الى الله بقتله، وحين وقعت عين الرجل على حميد خان رجع الى الوراء قليلاً ولاذَ بباب إحدى غرف السراي.. ولكن حميد خان أسرع إليه، وأمسك به من يديه وهو يضحك والرجل ترتعد فرائصه من الخوف وأخذه الى غرفته وسأله :-
أليس أنت فلاناً؟ قال : بلى.
قال: فما الذي جاء بك الى هنا؟ فأني أخشى أن تكون قد جئت لتقترب مرة أخرى الى الله – قال هذا وهو يضحك..
فأطرق الرجل ولم يجب من فرط الخجل، وخرج حميد خان من حال الدعابة والمزاح الى الِجدْ، وسأل الرجل عمّا إذا كان يشكو شيئاً، فقال – انه يشكو أدبار الدنيا، وقد أحسن له بعض الأصدقاء أن يعرض نفسه على الحكومة كمتعهد أو ملتزم لبعض الأشغال، ومنذ إسبوعين وهو يراجع الجهات المختصة في السراي فلم يوفق.. ولم يترك حميد خان الرجل يخرج من السراي ذلك اليوم حتى أوجد له عملاً مناسباً في الكوفة ...!

ويستقيل حميد خان لوقوع شيء من الأختلاف بينه وبين الملك فيصل الاول وذلك بعد زيارة الملك فيصل للواء كربلاء ونزوله ضيفاً على حميد خان في النجف فيقرر حميد خان السكن ببغداد بعد ذلك وينتقل إليها، إنه رجل لا يكفي أن تنعتهُ بالرجولة وحدها، فهو إنسان بكل معنى الإنسانية وقد خصه الله بقلب كبير، وشعور مرهف وطيبة تجاوزت الحدود، وقد تظافرت هذه الصفات فخلقت منه نبيلاً شريفاً جواداً لم ترَ النجف نظيراً له منذ عشرات السنين بل مئات السنين وهناك لم يبق أحد إلا وقد عرف حميد خان بحقيقته وأستغفر للذين أساؤوا إليه لربهم.
وفي صيف 1939م كان يعاني ضغطاً عالياً في الدم، وقلبه يهدده بالوقوف عن الحركة، مما أضطر أخيه مصطفى خان بنقله الى المستشفى، وقد منع الطبيب زيارة حميد خان من قبل معارفه الى أن تحسنت حالته الصحية نوعاً ما ، وبعد عدة أيام بقي حميد خان في المكتبة الوطنية بسوق السراي وهو يقتعد الكرسي.ثم تعددت النوبات القلبية لكنه لم يمتنع عن زيارة أصدقائه وتفقد محبيه، ولم يمتنع أصدقاؤه ومحبوه من أن يهيئوا له الجو الذي يأنس به.
وذات ليلة وهو على مائدة عبد الرزاق الأزري عاودته النوبة القلبية، وفي هذه المرة لم تمهله أكثر من ثوان معدودة ما كاد يحس بها الحاضرون حول المائدة، فأنطفأ ذلك السراج الوهاج من الخلق الكريم، والنبل الذي ظل تاريخ النجف يروي عنه الكثير مما لم يجرِ على بال،فكان أول نجفي ضرب أورع الأمثال للحلم والأنسانية وتجاهل الحقد والأنانية في جميع أدوار حياته.. كما كان أول نجفي تثقف ثقافة عصرية.
وحين توفي تبين أن عدداً كبيراً من المعوزين كانوا يتقاضون من حميد خان رواتب شهرية ومساعدات موسمية، وأن ما كان يحصل عليه من وارد أملاكه الكثيرة كا ينفقه كله وبدون أن يبقى شيئاً منه على وجوه البر والأحسان على ذلك النسق الذي كان مألوفاً في أيامه.