الشاعر أحمد الصافي النجفي البدوي الشريد المتمرد على ثياب المشيخة

الشاعر أحمد الصافي النجفي البدوي الشريد المتمرد على ثياب المشيخة

محمد حجيري
منذ مدة، بات هناك ما يمكن وصفه بـ»هجر» للشعر الكلاسيكي المعاصر، وبات نادراً ما تتوفر أعمالهم في المكتبات، وهناك قلة قليلة من الجيل الجديد، يقرأون هذا النوع من الشعر، من الياس أبو شبكة إلى بشارة الخوري (الأخطل الصغير) ورشيد أيوب والمعالفة واحمد شوقي وخليل مطران وحافظ ابراهيم وحتى الجواهري وسعيد عقل. وفي هذا الإطار، يكون جهد محمد مظلوم في إعادة تسليط الضوء على الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي (1896- 1977)

في «الغربة الكبرى لمسافرٍ بلا جهة/ دراسة ومختارات من شعر أحمد الصافي النجفي» كأنه محاولة لكسر نمطية هجران الشعر الكلاسيكي، وحسب ما يتوصل اليه مظلوم أن الصافي النجفي لم تحظَ تجربته بدراسة نقدية رصينة تتناسب مع أهمية إنجازه الشعري، ودوره في مسار تطوُّر القصيدة العربية وانتقالها من مرحلة التقليد إلى حقبة التجديد، فأغلبُ الكتب المتوفِّرة في المكتبة العربية، والتي تدور حول تجربته وشعره، هي من نوع الشهادات الشخصية، عن سيرة الشاعر، كما أنَّ قسماً كبيراً من تلك المؤلفات يعتمدُ بشكل أساسي على استذكارات شخصية، ولقاءات مع الشاعر، يستعيدها عددٌ من مريديه وقرَّائه وأصدقائه. وإزاء ندرة الكتب النقدية، التي تقارب تجربة الصافي النجفي الشعرية، مقاربة فنية ثقافية شاملة، وتحاول الإحاطة بعوالمها المركَّبة، والكشف عن بنيتها المضمرة، بقيَ هذا الشاعر في عزلة من نوع آخر. وكما حرص هو دائماً على هجران الناس، وإنكار النقاد وهجوهم، ها هم يقتصُّون منه بشكل آخر معاكس، أو لعلَّهم لا يجرؤون على المغامرة لتفحص أرثه رغم رحيله، ربَّما فَرَقاً من ذلك العالم صعب المراس والقياد الذي تعيش فيه قصائده، العالم الذي يبدو عصياً وغريباً رغم بساطته. وما يقوله مظلوم فيه جانب كبير من الحقيقة، في المقابل هناك بعض الدراسات النقدية عن النجفي نافدة من دور النشر والمكتبات، وغيابها عن التداول يرتبط من دون شك بتراجع الإقبال على الشعر عموماً، والشعر الكلاسيكي(المعاصر) خصوصاً. فاذا كان الشعر في دائرة الانحسار، فكيف يكون الأمر في الدراسات عنه؟!

يحاول محمد مظلوم في هذه الدراسة، وكذلك المختارات الواسعة من أشعاره، لفتَ الانتباه إلى أهمية اختراق تلك العزلة الأصعب والأكبر: «عُزلة الشاعر بعد موته، بعد عُزلته الكُبرى في حياته». كما يحاولُ الإضاءةَ على المناطق الأشدِّ عتمةً في تجربته في التمرُّد والاغتراب والانشقاق والعصيان ورفض التلقينات الأبويَّة في الثقافة والوعي والحياة بشكل عام، وتقصي فرادته في ذلك، وهي فرادة صادرة عن وعي أخلاقي وإحساس عالٍ ونادر بالحرية الإنسانية.

ولا شك أن تجربة النجفي وسفراته ورحلاته المتعددة تدل على أركان شعره، فهو ولد عام 1896 في النجف في أسرة دينية حجازية في الأصل، توفي والده بالكوليرا التي عمت العراق عام 1907. كان النجفي ضعيف البنية أرهقته الدراسات، فأصيب ببعض أنواع العصاب أي الانهيار العصبي الشديد، فأشار الأطباء عليه التوقف عن متابعة الدروس، فاتجه إلى المطالعة في الأدب القديم والصحف والمجلات مكتسباً معلومات ثقافية واسعة. أخذ ينشر مقالاته في مجلتي «المقتطف» و»الهلال» المصريتين. ويروي في سيرته «قبل انتهاء الحرب العالمية بسنة واحدة رغبت عن لباس المشيخة وبالتالي عن البقاء في مدينة النجف، فهربت مع رفيقي السيد محمد علي كمال الدين، قاصدين البصرة للاشتغال فيها، وقد اخترنا في طريقنا خطوط الحرب بين الأتراك والانكليز من جهة وكدنا نمسك بيد الأتراك بتهمة التجسُّس». خلع النجفي «لباس المشيخة» مُبكراً وترك مدينة النجف في رحلة عاثرة إلى إيران لم تدم طويلاً خلال الحرب العالمية الأولى. وعندما عاد إلى مسقط رأسه وجدها قد سقطت بيد الإنكليز، واشتعل حماسة في مقاومة المستعمرين معولاً على ثورة الشريف حسين. وكان بيته، في مدينة النجف، مقراً للنضال يلهب فيهم ويؤجج سنا الثورة شعراً وفعلاً. وبعد أفول الثورة وهزيمتها نصبت له الأعواد لشنقه، فأدركه الخبر، وسرعان ما غادرها ثانية إلى إيران. وحين عاد بعد ثماني سنوات وجد إرث الثورة قد جرى اقتسام سهامه، معاصروه وأقران ممن عاصروا الحقبتين كالزَّهاوي، والرّصافي، والجواهري، والشبيبي، وعلي الشرقي، أصبحوا نواباً في مجلس الأعيان، وانخرطوا في المؤسسات الناشئة آنذاك، في حين اضطرَّ من جانبه إلى العيش في المنفى. وبما أن لكلِّ ثورة في العراق ضحيَّةً شعرية من طراز رفيع، فقد كان الصافي النجفي ضحيَّة ثورة العشرين بامتياز.

لم يسكت النجفي أو يهدأ في مواجهته الانكليز، الذين كانوا يحكمون البلد، وراح ينظم شعرا «وطنيا» أثار حافظة الانكليز، الذين اعتقلوه، حيث قضى أربعين يوما في السجن الانكليزي كانت حصيلتها مجموعة شعرية سماها «حصاد السجن». فكان لهم ما أرادوا وله ما أراد:

سجنت وقد مرتْ ثلاثون حجةً من العمرِ فيها للسجونِ تشوّقْتُ

سعى «دعبلٌ» للسجنِ طولَ حياتِه فخابَ، وفي المسعى لسجني توَفّقْتُ

ونفي إلى بيروت، ومنها عاد مجددا إلى العراق، ويروي البعض أنه قبل تراب عراقه بشوق ولهفة، ولكنه لم يلبث أن أصيب بمرض عضال، نصحه الأطباء أثره بالسفر إلى بلاد أقل حرارة وألطف جوا، وهكذا كان حيث ترك بلاده متوجها إلى سوريا ولبنان «حيث الجو معتدل والطبيعة حافلة بالمجاذبات»، كما سوف يقول بعد ذلك بنصف قرن، حين راح يروي ذكرياته عن تلك المرحلة.

وصل النجفي إلى دمشق في العام 1930، ومنذ استقر فيها، جعل من مقهى «الهافانا» الثقافي محطته الدائمة. ولقد طابت الإقامة للشاعر في دمشق يومها وصارت العاصمة السورية بالنسبة إليه «جنة الخلد«. أما حياته في هذه المدينة كما يقول أصحابه في تلك الفترة فكانت اقل من متواضعة. فهو لدى مغادرته المقهى كان يقصد «بيته» الذي كان عبارة عن غرفة ملحقة بأحد الجوامع قرب سوق الحميدية.

كانت صور النجفي في دمشق، صورة «الشريد» الذي لا أهل له أو وطن، نزيل الفنادق والمقاهي والغرف القديمة الباردة، ولأن المسافة قصيرة بين دمشق وبيروت كان النجفي يستغل أية مناسبة للمجيء إلى لبنان، مع التذكير ان والدته من منطقة صور اللبنانية. سوف يمضي في لبنان الشطر الأكبر من حياته، حيث سكن مدنه وكتب عنها بدءاً ببيروت مروراً بطرابلس فبعلبك وصيدا وجزين وانتهاء بصور. ومع أن النجفي الآتي من العراق، لم يطق ضجة بيروت ولكنه استعذب بحرها، فكان يخلو إلى مقاهيها الشعبية البحرية، ولا سيما إلى مقهى الحاج داوود الذي قتلته تحولات المدينة ومزالق الحرب الأهلية. كان النجفي يجلس جلسة مزاجية، ويأوي مساء إلى غرفة شديدة التواضع تقع بالقرب من مستشفى «أوتيل ديو». وفي أثناء مرضه نادرا ما كان الصافي النجفي يعرض نفسه على الأطباء. ولولا بعض أصدقائه، ما كان دخل المستشفى يوما.

في المقلب الآخر يروي جعفر الخليلي في كتابه «هكذا عرفتهم» أن النجفي كان يتنقَّل من مدينة إلى مدينة في جنوب لبنان، بدءًا بمدينة صور التي لم يحبها، مروراً بصيدا التي أقام فيها فترة من الزمن. وفي صيف العام 1958، وتحديداً «فندق طانيوس» شمال صيدا، وكان لبنان يحترق في أتون احداث 1958، والفندق خال إلا من رجل نحيل القامة غريب الاطوار عرف انه شاعر، ولأن صاحب الفندق يحب الشعراء ويتعاطف معهم، سمح له ان يقيم كضيف ونزيل وحارس في الوقت نفسه. وهكذا إذ وجد الرجل نفسه وحيداً في الفندق والنيران تحتدم في لبنان، لم يجد أمامه إلا أن يكتب الشعر، فكتب قصائد كونت ديواناً حمل اسم «الشلال». ورغم تنقلات النجفي في البلدان والمدن فهو بقي محافظاً على زيه البدوي، الكوفية والعقال، والعباءة وما يختفي تحتها، ويقول خليل برهومي في كتابه «شاعر الغربة والألم»: للصافي مظهر ينفر، وجوهر يحير، كان دائما يظهر بمظهر واحد لا يتغير في أيامه ولياليه. كوفية عراقية بالية، وجلباب مهتري ريم، ونعل بال قديم. أنه «البدوي الذي يسعى إلى أن يكون نبيَّاً»(محمد مظلوم)، بعد أن يغمر الطوفان كل شيء إزاءه، ولذلك كان بأسه أقوى من بؤسه، فهو القادم من الصحراء، إلى مدن البحر، والحجر، ولكنَّه ظلَّ متمسكاً بزيِّ الأعراب، متوَّجاً بعقاله، في وقت تحولت فيه الرؤوس إلى «حاسرة، والسيقان المضمومة تحت الثوب القديم غدت منفرجة في البنطال»، وهذا بحسب محمد مظلوم تعبير إضافي، عن الشخصية الاستبطانية، والمزاج المختلف، وإشارات ظاهرية للتأكيد على تمايزه عن محيطه.

بدأ المنفى المركب في حياة الشاعر من الحلقة الأكثر حميمية ودفئاً: العائلة، فنشأت غربته من هناك! حيث كان أهله يسمُّونه وسط أفراد العائلة بـ»العجمي» وينادونه بهذا النسب الغريب،

غريباً لدى أهلي أُعَدُّ من الصِّبا ولمْ آتِ لولا غُربتي بِغَريبِ

يسمُّونني بالأعجميِّ لغُربتي فما كنتُ من أفهامِهم بقريبِ

عاش النجفي غريباً داخل نفسه وغريباً بين أهله وعشيرته، فكتب أجمل قصائد الغربة، والمعاناة من السجن التي وصفها بالغربة داخل الغربة. وخلال وجوده في إيران، صار أكثر ميلاً إلى التأثر بتجارب عدد من «الشعراء المنزوين» كما يسمِّيهم.

كانت رحلة الصافي «المذعور مما حوله من نكبات وقبح وإنكار، تستدعي أن يجتاز المضيق مموَّهاً بحرَّاسٍ أقوياء»، فكان كلٌّ من المعري والمتنبي قناعي التمويه في ذلك الاجتياز الصعب، فالمعري صنوه في العزلة، وفي السيرة الشخصية لكلٍّ منهما تشابهٌ ظاهرٌ، فكلاهما لم يتزوَّج، ولم ينجب لدوافع فلسفية وجودية، وكلاهما «رهين محبسين» أو ثلاثة سجون حيث يقول المعري:

أَراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ

لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ

أما النجفي فهو رهين محبسين معاصرين: «ضنى وفقر» وسجن ثالث حقيقي وليس مجازياً:

رهينُ المحبسينِ: ضنىً وفَقْرِ وأُسجنُ؟ جلَّ ذلكَ مِنْ نصيبِ

أما التماهي مع المتنبي، فيبدو أكثر كثافة، بفعل متانة عناصر الدمج، والتفاعل بين الشخصيتين، رغم تباعد العصر بينهما، فكلاهما شدَّ الرحال في وقت ما من حياته إلى شرق البلاد وغربها: إيران والشام، وإن اختلفت بينهما المطامح أو المطامع كما يسميها النجفي:

إنَّ عندي روحَ النبيِّ، ولكنْ ليسَ عندي مطامعُ الْمُتنبِّي.

لقد جمع الصافي في رحلة تماهيه المزدوج هذا، بين زهو المتنبي وكبريائه، وترفُّعه، وقلقه، وبين زهد المعرِّي، وعزلته.

شاعر آخر، قارب الصافي تجربته روحياً، وإن لم تصل تلك المقاربة، إلى ذلك «التماهي» وهو عمر الخيام وجانب المقاربة بين حياة النجفي والخيام- والثاني قريب كذلك في فلسفته من المعري- تتضح في نزعة التشاؤم من الوجود، وفي رحلة الشكّ والحيرة والقلق الوجودي، في ما يتعلق بثنائية: الإلحاد/ الإيمان، التي عبر عنها الخيام في رباعياته تعبيراً دقيقاً، وهي تلخِّصُ إلى حدٍّ نوعاً من السيرة الأخرى للنجفي، في تقلبه في أسئلة الوجود، وموقفه المضاد للتديُّن الذي بدأ من الأمواج:

مسالكُ دِيننِا مُلئتْ صُخوراً تعوقُ السَّالكينَ عنِ الْمُرورِ

قد اخْتلفَ الورى دِيناً ولكنْ تساووا في المآثمِ والشُّرورِ.

وإلى اليوم يفضل عشاق الشعر ترجمة النجفي لرباعيات الخيام، على رغم ان الرجل رفض ذات يوم اعادة طبعها حين عرضت عليه دار نشر بيروتية ذلك مقابل 10 آلاف ليرة لبنانية قائلاً، حسب رواية يوردها عبدالواحد لؤلؤة: «إنني الآن أجد الرباعيات تدعو، إلى الالحاد والخمر والتشكيك وانا أشعر بالواجب، ورسالتي في شعري هي ضد رسالة الخيام».

حاول النجفي في مجمل أشعاره، وبجرأة قصوى أن لا يترك قصيدته تنجرف إلى الوزن الشعري بصرامة التفعيلة وتراكيبها، التي تشدَّها إلى مناطق معهودة في الذاكرة. ولهذا، فعادة ما كان يؤخذ عليه عدم اهتمامه بموسيقى قصائده، أو أنه ينحو بشعره نحو «نثرية» ما، وهي في معتقد النقد القديم: الوزن الشعري المجلجل، فموسيقاه خافتة منسابة، لا تكاد تشعر معها أنك أمام قصيدة موزونة، بالمعنى التقليدي، أو بالتراتبية التي ألفتها الذاكرة. وبدا الصافي النجفي للنقد في عصره متمثلاً بنموذج مارون عبود، وكأنه «أعجمي» يرطن بين فصحاء، تماماً كما اتهمه أهله في صغره، كان مارون عبود في كتابه «مجددون ومجترون» أكثر النقَّاد قسوة في الحكم على شعره. إذ اعتبره شعر أغراض ومناسبات، ولا صلة له بفن كتابة الشعر، وشبَّهه بالشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي. وكان مارون عبود يسخر من الزهاوي ومن نوع الشعراء الذين يقاربون كتابة الشعر، أو يقرضونه، من دون أن يراعوا الشروط الفنية لكتابة الشعر، الشروط التي جعلت من الشعراء الآخرين شعراء كباراً. ويذهب عبود في نقده لشعر النجفي فيعتبره أشبه بشعر أبي العلاء المعري، الذي لم يكن شعراً بنظر عبود، بل نثراً في شكل الشعر، عبَّر فيه فيلسوف المعرة عن فلسفته في الحياة.

وبرأي محمد مظلوم، إنَّ واحداً من أسباب مشكلات النقد مع شعر النجفي، هو غرابته وغربته بشكل عام، وجرأته على المروق، وكسر المعتاد في الذائقة والذاكرة معاً. فقد قرأ الشعر الفارسي جيداً، ولعله أول شاعر عربي استفاد من ثقافته الفارسية، ودمجها عضوياً في أشعاره ورؤيته، وقد صار معروفاً الآن أنَّ الشعر الفارسي، بشكل عام، لا يميل إلى التعقيد اللفظي، إنما يقوم على سهولة ظاهرية مفرطة، ولكنَّ هذا الشعر وبسبب مزجه المناخ العرفاني بالحياة اليومية، واهتمامه بأن تكون المتعة في القراءة مزدوجة في التلقي المباشر والتأويل البعيد، قد صوَّر للبعض أن هذا السياق غر المألوف من «السهل الممتنع» يبدو وكأنَّهُ إسفافٌ، ويمكن أن يراه دعاة شعر «الديباجة» و»الفخامة» وقوعاً في العادية، ولهذا فإنَّ ما وصفه عبود بغياب «الديباجة في شعر الصافي» هو تعبير دقيق عن ذلك المأزق النقدي، الذي لا يستطيع تقبُّل الشعر خالياً من الديباجة القديمة، وظهوره عارياً أو على الأقل في إهاب جديد.

ومع استغنائه الاختياري عن أبرز الأغراض الأساسية في الشعر العربي، فهو أكثر الشعراء تطرُّقاً لموضوعات جديدة، ومعانٍ مختلفة في شعره، إنَّه بتمردَّه على الأغراض الموروثة، ورغم موقفه المضاد لشعر التفعيلة، لكنه في العمق يعدَّ الممهِّد الحقيقي لكن الخفيِّ للقصيدة العربية الحديثة، ذات المناخ الشعري المتموَّج وغير الخاضع لأحادية الغرض أو حتميته.

عندما رحل الصافي النجفي يوم 27 حزيران يونيو 1977 في بغداد كان في الثمانين من عمره، وكانت شهور قليلة فقط قد مضت عليه منذ عاد إلى وطنه وهو الذي كان له نظرة غير ومنسية للأوطان، مثله مثل الكثير من اللبنانيين والعرب ذاق جراح الحرب الاهلية، عندما عاد النجفي إلى بغداد، كانت ست واربعون سنة قد انقضت منذ غادرها منفياً أو هارباً من الاستعمار أولاً، ومن المناخ الجاف ثانياً، حيث لم يعد اليها الا لماماً وفي فترات متفرقة، هو الذي فضّل دائماً أن يعيش في بيروت وبقية المدن اللبنانية. وبقيت حكاياته في المقاهي البحرية علامة من العلامات الثقافية.