من اوراق عبد الحميد الرشودي .. الصافي النجفي يستعيد ذكرياته عن بدايات الثورة العراقية

من اوراق عبد الحميد الرشودي .. الصافي النجفي يستعيد ذكرياته عن بدايات الثورة العراقية

عبد الحميد الرشودي
كان من محاسن المصادفات ان يسكن السيد احمد الصافي النجفي عند عودته الى ارض الوطن دارا تصاقب دار الصديق الاستاذ حسين علي الخلف في حي المتنبي وكان هذا الصديق. وقد انعقدت بينه وبين الصافي علاقة وثيقة. يحدثني عن الصافي وطراز معيشته المتسم بالبساطة والزهادة بمتع الحياة ويوافيني باخباره وقد عرض علي ذات يوم ان اصحبه الى زيارة السيد الصافي وكنت شديد الرغبة تواقا الى ذلك اللقاء.

وفي ذات يوم من ايام تشرين الثاني 1976 ابلغني الصديق ان احضر عصرا لمقابلة الصافي فلما ازف الموعد اخذنا سمتنا الى داره المرقمة (4) فاستقبلنا على عتبة الباب رجل قروي كان يسكن هو واسرته مع الصافي وقد اوكلت اليه خدمة الصافي فقادنا الى حجرة جرداء فجدتني وجها لوجه امام الصافي وقد افترش ارض الحجرة واسند ظهره الى الجدار وكانت امارات الاعياء بادية عليه وبعد القاء السلام اعتدل في جلسته ورحب بنا وطلب الى الرجل ان ياتينا بكرسيين للجلوس اذ لم يكن في الحجرة اثاث سوى فراشه وبعد احاديث شتى سبق ان نشرت طرفا منها في جريدة (العراق) وطويت بعضا انجر الحديث الى بدايات الثورة العراقية الكبرى في 30 / حزيران 1920 واسباب اندلاعها وعزم على ان ادون ما يقوله ولم اكن متهيئا لذلك فاستعنت ببعض قصاصات من الورق كنت احملها في جيبي فدونت ما استطعت تدوينه ولا ازعم اني استطعت تدوين كل ما قام به الرجل وهذه شذرات مما دونته ومما علق بالذاكرة قال رحمه الله واكرم مثواه.

عندما اعلن الرئيس الامريكي ولسن شروطه الاربعة عشر للصلح وفيها ان لكل شعب حق تقرير مصيره بنفسه فرايت ان استغل هذا الشرط للمطالبة باستقلاق العراق وكنت في كل يوم اسير على طرف سكة الحديد انا وصديقي سعد صالح الذي كان اصغر مني سنا وعلما فهو اصغر مني بثلاث سنوات ولم تكن علميته واسعة ولكنه كان مليئا بالطموح والجراة فعرضت عليه الفكرة فوافق عليها وبعد يومين كنا نسير قرب المحكمة الانكليزية فالتقينا بشخص بلبس البدلة الرسمية. اسمر اللون بارز الوجنات فقدمني اليه وقدمه الي باسم صالح جبر. وكان كاتبا في المحكمة الانكليزية فعرض عليه الفكرة فايدها.
عدت ليلا الى دارنا وكان يسمر عندنا كل ليلة الشيخ عبد الكريم الجزائري فعرضت الفكرة عليه وعلى اخي السيد محمد رضا فرفضا فبقيت الح عليهما وهما يرفضان وبعد خمسة ايام جاءني اخي السيد محمد رضا وهو بطل شجاع انوف فقال: (لقد ذهبت اليوم لمراجعة حاكم الكوفة العسكري بلفور لقضايا تتعلق ببساتيننا في (الجعارة) فصرخ في وجهي وخرجت حانقا متذمرا).
فاستغليت ذلك باثارة حقده على الانكليز المستعمرين الطغاة ثم جاءني بعد عشرة ايام او اكثر وقال لي : (لقد ذهبت اليوم الى (ابو صخير) لمقابلة القائممقام. وكان من عادة المراجعين ان يطرقوا الباب ثم يدخلون بلا استئذان.
فاراد الانكليز ترويض العراقيين وخضد شوكتهم فاسسوا صالون انتظار فيمكث المراجع وقتا طويلا حتى يؤذن له بالمواجهة. ولم يكونو يعلمون ان صالون الترويض سيكون الحقل الذي تنبت فيه بذرة الثورة العراقية، ثم اردف اخي قائلا فجلست وكان امامي السيد علوان الياسري الذي صار فيما بعد من اكبر زعماء الثورة فاخذ كل واحد منا ينظر الى الاخر وتفاهمنا بالنظر ثم اشار الى بالخروج فخرجت من الصالون واخذنا نتجول عند احدى السواقي فقال لي السيد علوان الياسري الى متى تبقى هذه الحالة؟ فقلت له انا حاضر. فقال انا مستعد ان اهيئ العشائر للثورة ولكنهم – كما تعلم – لا يتحركون الا بفتوى دينية. وعلماء الدين عندنا لا يفهمون بالسياسة فتريد ان تكون واسطة بيننا وبينهم فتفهمهم معنى السياسة فقلت له ما رايك بالشيخ عبد الكريم الجزائري فقال: عال، فوعدته خيرا.
قال لي اخي السيد محمد رضا انت تعرف رأي الشيخ عبد الكريم الجزائري وموقفه من هذه الفكرة فقلت له سيحضر الليلة عندنا ويعيننا الله عليه فلما حضر الشيخ كعادته عرض عليه اخي الفكرة وقد قوي املي لاننا اصبحنا شخصين ازاء شخص واحد.
فلما عرضنا عليه الفكرة امسك الشيخ الجزائري بفنجان القهوة وقال: هل تستطيع ان تفرغ قربة ماء بهذا الفنجان؟ فقلنا لا فقال الشيخ فهذا حال العرب اليوم لا تسمح ظروفهم بمثل هذا العمل فبقينا نتابع مناقشته الموضوع في كل ليلة ونعيد ونبدي وبعد مرور نصف شهر تقريبا راني الشيخ عبد الكريم الجزائري تحت سابات الملا محمود فقال لي تعال يا احمد تعال لقد كنت في كربلاء واجتمعت بالشيخ محمد تقي فابدى استعداده للتعاون معنا فاريد ان تجمعني مع الشيخ محمد رضا الشبيبي فطلبت الى الجزائري ان يسبقني الى دارنا وذهبت من فوري الى الشيخ الشبيبي، وكنت موضع ثقته، وحين افضيت اليه بالحديث وعرضت عليه الفكرة قال: انه لا يثق بالشيخ عبد الكريم الجزائري واضرابه لانهم في رأيه. رجعيون خرافيون فالححت عليه فستجاب لالحاحي وصحبني الى دارنا فجلس معهم وافردوني في حجرة تقابل حجرة الاجتماع ولم يشكروني معهم في الحديث لعدم اطمئنانهم مني لانني كنت يومئذ شابا. وبعد ان امضور ثلاث ساعات اقبل الشيخ الشبيبي علي وقال لي: ابشرك، وكان قابضا يده، ابشرك بانها حنطة لاشعير فقد تقرر ان اركب جملا واحمل وثائق من زعماء العراق الى الشريف حسين وهنا امسك السيد الصافي عن الحديث وقال ثم كان ما كان مما تعرفونه ويعرفه الجميع.
* ومما يلفت النظر ان الصافي كان كثير الاستظهار لشعره معتزا به وكان كلما يعرض في النقاش بيتا لشاعر ما يقول لقد قلت مثل هذا وانا امقت التقاليد وشعري من وحي الطبيعة لا تكلف فيه ولا اعتسار وقد استطعت ان ادن طرفا من تلك الابيات التي استشهد بها قال:

الله استاذي الاعلى يدرسني
لذاك يدرس عندي كان استاذ

* والصافي صوفي بالفطرة وقد اعرب عن مذهبه بقوله:
تصوفي ليس عن علم ولا طرق
تصوفي رؤية لله لا علم

وهذا حق وصدق فليس التصوف في
لبس الصوف وانتعال المخصوف ونقر
الدفوف انما هو سمو روحي كما عبر
عنه الشيخ معروف الكرخي الاخذ
بالحقائق وترك ما في ايدي الخلائق.
وقال الصوفي:
يوحد نفسك بالكائنات
من النفس اتار فكرر غرر
هي النفس اوجدت الكائنات
ففيها من النفس كل الاثر
وفي كل صنع من النفس جزء
سواء افيه اختفى ام ظهر

وقال:
كل يوم ازيح عني ثوبا
باليا من عقائد الاحقاب
املا ان اعري النفس حقا
من لباس يشينها وحجاب
فتراني ما عشت انزع اثوا
با كاني كونت من اثواب
صرت اخشى ان انض كل ثيابي
لم اصادف روحا وراء الثياب
فكاني القشور كون منها
بصل مابه سوى الجلباب
ياعودة للدار ما اقساها
اسمع بغداد ولا اراها

وقال:
الى الحق ادعو لا لنفسي ان اكن
نظمت قريضي او شرحت خواطري
وما انبقي من درس شعري دعاية
ولكن (عوينات) لعمش النواظر
واني رايت الحق والفن واحدا
ولكن فن الحق ليس بظاهر
وما الفن الا الحق يبدو لناظر
ضعيف الرؤى . والحق فن البصائر
رحم الله الصافي فما كان احلى حديثه واشهى

بين الزهاوي والصافي

كانت قد وقعت في يدي منذ سنوات خلت نسخة من رباعيات الخيام التي ترجمها السيد احمد الصافي النجفي وعليها اهداء بخطه: «الى الاستاذ الاعظم الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي» وتحت الاهداء توقيع (احمد صافي النجفي).

وطالما حاك في صدري ان اقف على جلية هذا الاهداء وظروفه وظلت هذه الرغبة تساورني ردحا من الزمن، حتى اذا وقعت احداث لبنان الدامية، عاد الطائر الجريح الى وكره ودرج نحو عشه، وقد كان قدرا مقدوراً ان يحل الشاعر الصافي دارا تصاقب دار زميل لي وكان يراه في غدواته وروحانه وهو يتروض في الطريق مستندا الى كتف رجل قروي بعينه على السير الوئيد ويقوم بما يحتاج اليه من رعاية وعناية.
وعلى تراخي الايام وكر الليالي انعقدت بين ذلك الزميل والسيد الصافي مودة واشجة والفة حميمة فكان يقرأ له ما يريد قراءته ويدون ما يملي من ابيات تعن له فرجوت صاحبي ان يستفسر منه عن امر ذلك الاهداء وظروفه فجاءني في اليوم التالي لينهي الي تاييد الصافي للاهداء ولكنه ما عتم في اليوم التالي ان قال لي بان الصافي قد عدل عن قوله وقال لي ابلغ زميلك بانني لم يسبق لي ان اهديت نسخة من الرباعيات الى جميل صدقي الزهاوي وان كان صاحبك في ريب من ذلك فليتفضل بجلب النسخة مشكورا ماجورا لنرى فيها رأينا.
وذات اصيل من اصائل خريف 1976 ولجنا دار الصافي في محلة (حي المتنبي) فقادنا الرجل الموكول به الى غرفة الشاعر وكانت غرفة جرداء خالية من الاثاث فلا ارائك ولا كراسي ولا بسط سوى فراش مطروح ارضا وقد استلقى عليه الصافي واسند ظهره الى الجدار وارخى كوفيته على جبينه يتقي بها الضوء فلم تكن عيناه الخابيتان تقويان على مجابهة ضوء المصباح.
وحين انجز الحديث – والحديث شجون – الى الاهداء قال الصافي انني لا اقوى على قراءة الاهداء كما انني لا اذكر انني اهديت نسخة الى الزهاوي او الى غيره وذلك لان الناشر كان مقتراً علي اشد التقتير فكان يدفع الي النسخة والنسختين وابيعهما واتبلغ بثمنهما لاني كنت يومئذ في دمشق وكان ما معي من الدراهم التي زودني بها اهلي قد نفذ ثم استأنف القول: ولكنكم تستطيعون عرض الاهداء على الاستاذ جعفر الخليلي فهو يعرف خطي جيدا ويميزه من سواء.
ثم ذكر سبب هجرته الى الشام فقال بانه بعد عودته من منفاه الاختياري الى النجف مرض مرضاً اشفى به على الموت وقد عاده طبيب سوري ونصح لاهله بانهم اذا ارادوا الابقاء على حياة ولدهم فليبعثوه الى الشام ليستشفى هناك فمناخ الشام يساعد على الشفاء من مثل هذه الامراض فكان هذا سبب هجرته واقامته في الشام ما يقرب من نصف قرن قضاها بين سورية ولبنان.
وبعد فلعل من حقنا ان نتساءل: ترى ما الذي حمل الصافي على الاقرار بهذا الاهداء ثم التنكر والتنصل منه في اليوم التالي؟!
المسألة لا تعدو – في رأيي – احد امرين.
الاول – وهو ما ارجحه – ان الصافي بعد عودته الى العراق وغب فراق دام بضع سنين هربا من سلطات الاحتلال البريطاني بسبب مشاركته في ثورة العشرين قد نظم قصيدة بعنوان «الليل والنجوم» وقد عرضها على الشاعر جميل صدقي الزهاوي فاعجب بها الزهاوي وقرظها بكلمة نشرت مع القصيدة في جريدة (العالم العربي) قال فيها: «السيد احمد الصافي شاعر خليق بالاكبار فهو كوكب وقاد قد طلع في سماء الادب بازغا فملأ العيون نورا والقلوب سرورا، واني لمفتخر باني اول من اكتشف هذا النجم الجديد، ودل عليه هواة الادب العصري، وانك لتجد في قصيدته العصماء الاتية شعوراً تنزه عن التقليد والمبالغة ووصفا ساحرا، وتجد سبكاً رصينا، واسلوبا فاتناً، والفاظاً، سهلة ومعاني مبتكرة، وسيكون لشاعرنا النجفي هذا شان في العراق وغير العراق من البلاد العربية ويذيع صيته كما يذيع ضوء الصباح المسفر.
ولا ريب ان هذه النبوءة الصادقة، وهذا الثناء والاطراء قد وقعا موقعاً حسنا في نفس الشاعر الشاب فازاد ان يرد الى (جميل) جميله فنعته في اهدائه (بالاستاذ الاعظم والشاعر الفيلسوف).
ولكن الصافي – على ما يبدو – وبعد ان تقدمت به السن، واصاب من الشهرة ونباهة الذكر ما اصاب، استكثر ان يطلق على الزهاوي لقب «الاستاذ الاعظم والشاعر الفيلسوف» فاراد التنصل من تبعة ذلك وغمد الى الانكار بعد الاقرار خشية ان ينتشر ويذاع بعد ان كان سراً دفيناً بين الرجلين.
والامر الثاني – وهو ما استبعده – ان يكون الزهاوي قد ابتاع نسخة من رباعيات الخيام وكتب عليها ما كتب واضفى على نفسه من الالقاب ما يروي ظماه ويشبع رغبته في المجد والشهرة، الا ان هذا الرأي مرجوح فالخط ليس خط الزهاوي – ولنا معرفة تامة بخطه – كما انه ليس من المعقول ان يستكتب احداً سواه خشية الفضيحة. .