زينب المشاط
لم يكن الموت ، حتى تلك اللحظة يشكل شيئا لكلكامش فهو قد قبل مقاييس الشجاعة المعهودة ومقاييس ثقافته المعهودة ، الموت لا بد منه ، ومن العبث التخوف منه ، فاذا كان على المرء ان يموت فليمت ميتة الابطال الشجعان في مقاتلة خصم قوي جدير به ، لكي تعيش شهرته من بعده ، الكثير من الدراسات والتصورات والروايات وضعت على غرار اسطورة الحياة والموت لكلكامش ،
وفي محاولة لتقديم دراسة جديدة من زاوية مختلفة قد يغفل عنها البعض برأي الكاتب أصدر الكاتب والباحث ناجح المعموري "المسكوت عنه في ملحمة كلكامش " والذي صدر عن مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون .
يذكر المؤلف انه قرأ ملحمة كلكامش وما نشر حولها من دراسات فوجد أن أكثرها واقع تحت هيمنة الآخر ، حيث تمحورت مرددة توصلاته المصدرة لنا ، لذا انشغل الكاتب بها زمنا طويلا محاولا تقديم قراءة مغايرة وخصوصا في الصراع الذي دار بين الثقافة القمرية والشمسية والذي تمركزت حوله الملحمة والذي لم تنتبه له الدراسات باستثناء دراسة الاستاذ فراس السواح ، لأن " ثنائية الموت / الحياة " لم تكُن موضوعاً اساسيا لها ، مثلما اشارت لذلك الدراسات السابقة ، لأن هذه الموضوعة عرفتها الاساطير ايضا في العراق القديم ومنها على سبيل المثال اسطورة ادابا ، لذا تمركزت دراسة المعموري حول الصراع بين الديانتين القمرية / الشمسية ، مشيراً أن كلكامش كان وظل مركزا حيويا في النص ، ويمثل أنكيدو هامشا فيه ، على الرغم من أنه قام بمهام عديدة وخطيرة ، ولولاه لما استطاع الملك من تحقيق كل احلامه التي كان يطمح لتحقيقها ، وحاولت رد الاعتبار لانكيدو ، باعتباره يمثل مجموعة الافعال البطولية المعروفة بسبب وجوده حصلت المتغيرات الفكرية الكثيرة ، التي تعمقت بالصراع الذي اتخذ أكثر من مسار ، ولكن الذي كتب النص لم يستطع التخلص من هيمنة مركزية المؤسسة الدينية والسياسية ، ويكون محايدا في تعامله ، لذا اختار نهاية مأساوية له وتقرر باجتماع شكلي هيمن عليه الاله انليل اغتيال انكيدو .
إنها محاولة جديدة تسعى لإثارة الأسئلة والحوار ، وأنا واثق بأن الملحمة ، ستظل حيوية بقدرتها على تفعيل القراءة وتنويع مستويات التأويل وامتحان قدرة القارئ واختبار سلطته في الكشف والتحليل .
خلال الفصل الاول من الكتاب قدم المعموري كلكامش بين سلطة المرأة وقوة الحكمة ، فبالرغم من استمرار الاضطهاد والاستبداد الذي كانت تتعرض له المملكة بسبب هيمنة كلكامش إلا أن هذا لم يؤثر على تشكل بذرة الاحساس والتطور بفعل عوامل عديدة وصارت وعياً رافضاً متمثلا بالصراخ الرافض للمظالم اليومية .
يذكر الكاتب أن الهدف الاساس وراء طلب عشتار من آنو لانزال الصور السماوي ، هو قتل كلكامش ، العائد مزهواً بالانتصارات البطرياركية ، التي حققها في سفرته الى غابة الارز ، والتي كانت مكللة بالنجاح والظفر .
ويتساءل الكاتب فيما اذا كان هنالك تداخل في المفاهيم حيث نجد اللاهوت كامناً في الناسوت ، والاخير اختار اللاهوت كحاضنه له ، لذلك من الصعب فك الاشتباك بين الاثنين داخل البنية الذهنية الاسطورية لأننا نواجه الاله انساناً والانسان إلها ، ولكن ذلك ينطوي على الوجه الاخر في المسألة وهو أن الناس العاديين إن كانوا مشاركين ضمناً ونظرياً بـ " الإلوهية " فإن اعباء العمل الحقيقي هم الذين يتحملونها .
ما يجب تذكره أن أنكيدو كان مشاركاً وبشكل فاعل في سفرة الارز ومبارك من قبل الالهة " ننسون " وشيوخ اوروك ، لذا قام بالذي يجب أن يقوم به ، منفذاً التزاماته الفكرية والاخلاقية وهذا لا يعني ان انكيدو هو الذي قتل خمبابا ، حتى لا يتحمل خطيئته في ذلك كما قال ساندرز لأن الخوف والقلق كامنان في اعماقه ، خوف ممتزج بالحذر والخشية من هذه المغامرة التي ادرك جيدا ما ستكون فيها النتائج متعبة .
وبخمسة فصول ينتهي الكتاب ، الذي من خلاله وبنظرة جديدة لقصة كلكامش وانكيدو نستطيع أن نعرف ان كاهنة الرغبات هي المسؤولة عن تربية انكيدو سلوكيا ومعرفيا وحققت بذلك نجاحا ، وبما ان ممارسة الجنس باتت جزءا من تلك المعرفة والثقافة كان يفترض بها أن تعلنه الطريقة التي كانت متبعة في الاتصال الثنائي والتي كانت معروفة وشائعة .
قد تكون هذه الملحمة مركزا دالا على المراحل الاكدية التي استطاعت انتاج الاساطير السومرية الخمس وجعلت منها نصا ملحميا جسد الصراعات المحتدمة بين الانظمة الثقافية وخصوصا نظام الام الكبرى الآلهة المؤنثة والنظام الذكري الذي توفرت له الشروط الموضوعية والذاتية للصعود وانهيار النظام الثقافي والديني للام الكبرى .
لم يكن نص الملحمة منشغلا بثنائية الحياة والموت مثلما هو شائع ، لأن هذه الوضوعة عرفتها كل الحضارات ، بل تمركزت حول صراع النوع ولم ينسحب النظام الثقافي والديني للأم الكبرى كليا بل ظل حاضراً عبر عقائده وطقوسه ورموزه ، وارتحلت كلها الى النظام الثقافي الجديد الذي اضفى عليها خصائصها الثقافية وتبدى هذا اكثر وضوحا من الرموز الامومية .