أرستقراطية الحـس والذكــاء في روايــــــة  الجـــوع  لهامسون

أرستقراطية الحـس والذكــاء في روايــــــة الجـــوع لهامسون

أوراق
شيئان قد لا يجتمعان أن تحافظ على بعض مبادئك، وأن تكون غنياً، أن تحمل قلماً وأن تنام ممتلئ البطن، أن تحقق هدفك الفكري وأن تحصل على الكثير من المال، فمن يؤدي مهنة فكرية او ثقافية أو فنية أو ادبية عليه أن يتهيأ مسبقاً للموت فقراً، وأن لا يستغرب إذ ما مرّ بليال جائعة، ومهما امتلك من قدرات عظيمة إلا ان الفقر والجوع سيكونان متلازمين له.

فكرة الجوع جاءت استثناء تطرق له الروائي كنوت هامسون في روايته التي حصلت على جائزة نوبل للعام 1920 والتي تحمل اسم"الجوع"والتي ترجمها محمود حسني العرابي وصدرت عن مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون.
تشبه الرواية كاتبها هامسون النرويجي الجنسية والذي ولد عام 1859 وعرف من أعظم الكتاب الذين عرفهم العالم خلال القرن العشرين، ولاتزال روايته"الجوع"تُعدّ من روائع الأدب في ذلك القرن، فالكاتب من عائلة فقيرة ريفية، عاش طفولة قاسية في رعاية عمه، وفي هذه الرواية يدين هامسون الحضارة المادية بجميع مظاهرها التي لوثت الحياة الإنسانية وجعلتها غير محتملة، وهذا ما فعله في جلّ رواياته التي أصدرها خلال مسيرته الابداعية الطويلة فهو كان مؤمناً بأنه ينتمي إلى ما يسميه"أرستقراطية الحس والذكاء".
ناصر الروائي الفكر النازي وا عتقد أن هلتر كان قادراً على أن يقيم في ألمانيا مجتمعاً جديداً، متحرراً من كل الامراض التي جلبتها الحضارة المادية.
وقد أصيب هامسون أكثر من مرة بنوبة عصبية حادة وفي أواخر حياته اشتدت عليه هذه النوبات حتى لم يعد يعي ما يقول أو ما يفعل، وبعد نهاية الحرب الكونية الثانية حوكم وأودع مصحة الامراض العقلية، وفي السنوات الأخيرة من حياته عاش هامسون العزلة وكان أهل بلاده يتعاملون معه كما لو كان خائناً لوطنه حتى توفي عام 1952، أما الروايات التي أصدرها فلا تزال حد الساعة تفتن الملايين من القُراء في جميع انحاء العالم.
كتبت هذه الرواية بعد عودة هامسون من جولة مشؤومة في امريكا، وقد تستند هذه الرواية إلى حياة الكاتب الشخصية الفقيرة، تقع أحداث الرواية في أواخر القرن التاسع عشر في أوسلو، وتروي مغامرات شاب جائع تتجه أحاسيسه نحو الجانب المظلم من مدينة حديثة، وخلال محاولاته في الحفاظ على المظهر الخارجي من احترامه إلا أن وضعه الذهني والجسدي وما يعانيه من تدهور يفرض عليه عكس ذلك.
أحداث الرواية تدور ببساطة حول صحفي نرويجي يقضي أيامه باحثاً عن طريقة لتأمين ثمن طعامه، وباستثناء المرات القليلة التي يملك فيها المال الكافي، فإنه في معظم الرواية لا يأكل، ويصف بقسوة ما يصيب الجسد والعقل من اضطرابات نتيجة البقاء لأيامٍ دون طعام، لا شيءَ مثيراً للمتعة في الأحداث نفسها، حيث لا تعتمد الرواية على الحبكة وتصاعد الحدث، إنما مجرد ما يشبه المذكرات لأيامٍ تبدو بالغة الصعوبة.
بطل الرواية واثق من قدراته وهذا ما يجعله غير مقتنع بممارسة أية مهنة احترافية فهو يراها غير صالحة لشخص بقدراته، ونجد أن شخصية بطل رواية "الجوع"قريبة في أحداث كثيرة من شخصية راسكو لنيكوف الشخصية التي ابتدعها دوستوفيسكي والتي ألهمت هامسون كثيراً.
قد يكون هالمسون قال كل شيءٍ في روايته دون أن يقول شيئاً، ولكنه جعل نفس الأفكار التي كان ينوي كتابتها – ربما – تدور في رأس القارئ رغماً عنه، ليقضي الرواية قائلاً لبطلها"اسرق لا أحد سواك يحق له ذلك”.
المثير في الرواية ليست فكرة الجوع بحد ذاتها، أو فكرة الحرمان المادي، بل هو الأثر الذي تركته الحضارة الإنسانية المصطنعة على الإنسان الفرد، حيث يبدي البطل عدة مراتٍ حفاظه على أصول اللياقة والحفاظ على صورته كشخصٍ محترم على إمكانية إنهاء الجوع والعوز المادي الذي يراوده.
تسلط الرواية الضوء على نقطة هامة اليوم تبدو أكثر وضوحاً بكثير من ذلك الزمان ربما، هذه النقطة هي كون الحضارة الإنسانية في أوج تقدمها وفي ظل ما تظهره من تقديس للأفكار وللمفكرين (على الأقل الموتى منهم)، فإن المهن ذات الطابع الفكري هي تكاد تكون الأقل مردوداً مادياً بين مهن الياقات البيضاء، ويزيد الأمر سوءاً كل ما كان الفرد أقل ارتباطاً بالمؤسسات.
في أحد مشاهد الرواية الأخيرة تصل للبطل رسالة فيها مبلغ من النقود لا يعلم من أرسلها، ولكنه بدلاً من أن ينفقها في تدبير أموره يذهب ليرميها في وجه صاحبة الفندق التي طردته للتو بسبب تأخره عن دفع المترتب عليه، ودون أن يستغل امتلاكه للنقود للمكوث من جديد في الفندق، هذا المشهد، بما يمثله من استهتار الإنسان بنفسه لإرضاء الحاجة إلى التقدير الفارغ الذي تزرعه فينا معطيات الحياة المعاصرة من حولنا، يتكرر أمامنا كل يوم، إن لم نكن نحن من يقوم به.