من طرائف تاريخنا الصحفي..عندما هاجم الكرخي وحبزبوز مشتركي الصحف

من طرائف تاريخنا الصحفي..عندما هاجم الكرخي وحبزبوز مشتركي الصحف

اعداد: ذاكرة عراقية
كانت الاشتراكات في الصحافة العراقية ايام زمان تشكل العمود الفقري لمسيرة الصحيفة او المجلة وديمومة استمرارها، اذا ما استثنينا موارد الاعلانات الضئيلة، فكان الاشتراك هو المورد الطبيعي لها والمعين الذي لا غنى عنه في دفق الحياة في شرايينها لسد نفقات الطباعة والورق واجور العاملين وغيرها رغم ان قيمة هذه الاشتراكات كانت زهيدة لا ترهق كاهل المنضوين الى قائمة المشتركين فيها.

وكان التلكؤ في تسديد ما عليهم من ابرز العوامل التي كانت تعيق اصحاب هذه الصحف والمجلات على مواصلة صدورها. فكان صاحب الجريدة او المجلة يحث اصحاب القلم والفكر وطلبة المدارس وارباب المهن والحرف على الاشتراك فيها. واذا ما قبل احدهم الاشتراك يطالبه بتسديد الثمن سلفا، حيث ان الاعتماد على صرفيات الصحف من غير الاشتراك لم يكن مشجعا او مجزيا لتكاليفها، وهذا ما حمل بعض الصحف الى ان توضح في صدر صفحاتها شرطا يقول:"من قبل عددا عد مشتركا، وهذا ما نهجت عليه مجلة (لغة العرب) التي كان يصدرها الاب انستاس ماري الكرملي، اذ اعتلى صدر العدد الاول منها، الصادر في 1 تموز 1911 نداء (الى الادباء والمشتركين والكتاب) تضمن جملة من الامور ومنها"من قبل العدد الاول يعد مشتركا"و"لايلتفت الى طلب الاشتراك ان لم يكن معه البدل"وكررت المجلة هذا النداء بعددها الثاني الصادر في 2 آب 1911.
كان هذا دأب معظم الصحف والمجلات الاهلية التي كانت تصدر انذاك، والتي كانت تعاني من ظروف تأخير الاشتراكات او التلكؤ في تسديدها، اما الصحف الاخرى وهي التي كانت تصدرها الحكومة، فلم تك بحاجة الى الاشتراكات لسد عجزها وتغطية مصاريفها كونها ممولة ومدعمة من قبل الحكومة، وبالتالي فليس ثمة ما يدعوها الى نشر التنبيهات والرجاءات، والالتماسات، للاسراع في تسديد اقيام ما يترتب بذمة المشتركين.
لكرخي يعاتب ثم يهجو
اما صاحب جريدة (الكرخ) المرحوم الملا عبود الكرخي فكانت معاناته اشد مرارة مع بعض المشتركين حتى لكأنك تتلمس هذه المرارة صارخة في شعره. فقد قال من قصيدة بعنوان (عراقيل الصحافة) نظمها في عام 1928.

فلوس اشتراكاتي اقبضت
قيمة الحمص والبصل
بـ (المشترك) والله حرت
حتى غدا بعقلي خلل
سنتين اذا عنه اسكتت
لا تعتقد يدفع (بدل)

ولما طفح كيل الكرخي لم يجد بدا من ان يجعل الاشتراك نقدا في جريدته، فقال من قصيدة تحمل عنوان (زمر ابنج يا عجوز!) التي نشرها في جريدته (الكرخ) في عام 1929.
اشتراك (الكرخ) نقدا صار جوز
لا تقلق زمر ابنج يا عجوز..
احسن البيعات عد باثر عد
وانكس البيعات، غد وبعد غد
ولم يذعن الكرخي للامر الواقع الذي تفنن المتقاعسون في فرضه على الصحافة، فارتأى ان يستعين بتجاريب المثل (اخر الدواء الكي) ليواجه بعض النماذج من المشتريكن الذين تنام في جيوبهم، ملء جفونها، اشتراكات خمس سنوات من الاستحقاق دونما وجل او خجل، فراح يهجوهم، بعدما يئس من العتاب، باقذع الالفاظ ويصفهم باشنع الصفات.. فتارة يصفهم بشعره، وتارة يلاحقهم بشخصه.. وتلمس ذلك واضحا في قصيدته (متاعب الصحافة) التي نشرها في جريدته في عام 1932 والتي يقول فيها هاجيا انموذجا من هؤلاء.
عندي مشترك حمنين
يصلح للدهن سجين
اداعيه صار خمس سنين
اقره باذنه ما يسمع
***
بداره يختل ويرتاب
يعلم ابنه بالكذاب
اذا يطرق (الكرخي) الباب
اخبره والدي توجع
واخيرا.. فهذا جانب من هموم ومعاناة رواد صحافة ايام زمان مع المشتركين، ناهيك عن همومهم ومعاناتهم مع جور وتعسف السلطات انذاك ومكابداتهم المهنية الاخرى.. فرحم الله الراحلين من هؤلاء الرواد، ونسأله اللطف بالاحياء منهم – امد الله في اعمارهم – كلما تداعت لهم ذكريات معاناتهم مع المشتركين وغيرهم!
جريدة"حبزبوز"والمشتركين

رغم ان جريدة"حبزبوز"التي كان يصدرها المرحوم نوري ثابت كانت تلاقي اقبالا كبيرا من القراء ولاسيما بين اوساط المثقفين الا ان هذه الجريدة كانت هي الاخرى تعاني من الصعوبات المالية المتمثلة في تلكؤ المشتركين في دفع اشتراكاتهم السنوية. ولذلك كانت لا تفتأ تنشر بين الحين والاخر اعلانا بدعوهم الى تسديد اشتراكاتهم باسلوب يجمع بين القليل من الجد والكثير من الهزل والسخرية.. وهذا ما تمثل باعلانها الذي رشقت به المشتركين باول عدد صدر منها في 29 ايلول 1931: الى حضرات المشتركين الكرام!
من اولها!.. تالي لا نسوي قنزة ونزة.. معلوم حضرتكم! الداعي (قابسز) والوكت حامض! والجيب مضروب اوتي.. لاجل كل ذلك! ومن فضلكم عجلوا ببدلات الاشتراك وخلونا نشتغل مثل الاوادم! يرحم والديكم وهاي تركناها يم نجابتكم!"
ومثلما عهدنا المشتركين في الصحف الاخرى نعدهم بالمشتركين في جريدة (حبزبوز) اذ هم بدلا من ان يعطوها الاذن الصاغية اعطوها (الاذن الطرشة!) مما حدا بـ(حبزبوز) الى ان ينشر اعلانا آخر بالعدد (12) الصادر في 15 كانون الاول 1921 يؤكد فيه على ضرورة دفع الاشتراك ولكن باسلوب آخر وكأنه يتمثل بقول الشاعر:
لقد اسمعت اذ ناديت حيا
ولكن لا حياة لن تنادي
(الى مشتركينا الكرام..
نرجو من حضرات مشتركينا الكرام الا يستعجلوا بتسديد بدلات الاشتراك لان هذه الادارة في غنى عن (الفلوس) ولان (العجلة من الشيطان الرجيم!).
وتستمر معاناة هذه الصحيفة مع المشتركين في دعم مبالاتهم حتى الاعداد الاخيرة منها، حتى ليبدو ان اليأس راح يتغلغل في اعماق صاحبها (حبزبوز) شاكيا امره الى الله الواحد القهار.
حضرات المشتركين..
ان صاحب الجريدة بعد ان عمل معنا حساب دقيق ظهر له نتيجة الحساب ان ادارة الجريدة في غنى عن الفلوس فامرنا ان لا نطالب احدا من المشتركين الى ان تصرف هذه الدراهم الموجودة وبعد (اكو رب كريم!)
التوقيع / مدير ادارة