التفاوت العالمي..  مقاربة جديدة لعصر العولمة

التفاوت العالمي.. مقاربة جديدة لعصر العولمة

من السمات الأساسية الغالبة في العالم الذي نعيش فيه واقع التفاوت الكبير في الدخل بين مختلف البلدان حيث جرت العادة قبل فترة غير بعيدة على تقسيم هذا العالم إلى عدة عوالم يتم ترتيبها تبعا لدرجة التقدّم الذي حققته ومعدّل نموّها الاقتصادي ومستوى معيشة مواطنيها. وبناء على مثل تلك التراتبية تمّ تصنيف الكثير من بلدان العالم في خانة «العالم الثالث» بالقياس إلى العالم الأول «المتقدّم».

لكن برز منذ عقود قليلة وفي ظل العولمة الليبرالية السائدة تصنيف جديد استجدّ فيه استخدام تعبير «البلدان الصاعدة»، بمعنى التي نجحت في «الإقلاع"اقتصاديا وفي مقدمتها الصين والهند والبرازيل وغيرها. لكن هذا تواكب، كما تدل مؤشرات وإحصائيات عديدة، مع زيادة حدّة التفاوت في الدخل بين مجمل البــــلدان فيما بينها، كما في داخل كل منها.
هذا ما يشرحه «برانكو ميلانوفيتش»، أحد أهم الأخصائيين العالميين بمسائل «اقتصاد التنمية» والتفاوت الاقتصادي في الدخل ومستوى المعيشة وآثار ذلك كلّه على المستوى العالمي، في كتابه الذي يحمل عنوان: «التفاوت العالمي». وهو يدرس عبر ذلك ما يصفه بـ«مقاربة جديدة لعصر العولمة»، كما جاء في العنوان الفرعي للكتاب.
ويكرّس المؤلف الصفحات الأولى من هذا العمل لتقديم العديد من المعطيات الإحصائية ومن المؤشرات الاقتصادية التي تخص العقود الممتدة من أواخر سنوات الثمانينات المنصرمة ــ يقدّم تاريخ 1988 ــ وحتى عام 2008، أي حتى اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي انطلقت في خريف تلك السنة من الولايات المتحدة الأميركية. هذا مع ملاحظة أن «هوّة التفاوت» بين البلدان كانت تتضاءل ما بين سنوات الثلاثينات وسنوات السبعينات من القرن الماضي العشرين.
ويشرح أنه انطلاقا من ذلك التاريخ 1988 وحتى عام 2011، أي العقود التي تتناظر مع الصعود القوي لمنظومة العولمة الراهنة، عرف العالم بروز طبقة وسطى على الصعيد العالمي. ويحدد القول أن دخل تلك الطبقة الوسطى المعنيّة ازداد بنسبة 80 بالمائة بالنسبة للفرد.
كما يحدد المؤلف القول أن الفرد من هذه الطبقة الوسطى الجديدة معدّل دخله الوسطي نحو 4 دولارات يوميا. ويبلغ عددهم زهاء مليار شخص، وهؤلاء أغلبيتهم في الصين حيث أصبح دخلهم يتراوح بين 3 و16 دولارا في اليوم. وهذا ما يرى فيه وجها حميدا لسياق صعود النمو في العالم.
ويشير المؤلف أن هناك شريحة قليلة جدا تمثّل نسبة واحد بالمائة من الذين عرفوا الثراء في نفس الفترة. وتحديد القول أن بينهم 12 بالمائة من الأميركيين و5 بالمائة من البريطانيين ونصف هؤلاء الأثرياء الجدد هم من أبناء البلدان الصاعدة الذين زاد دخلهم بنسبة تفوق 40 بالمائة.
ومقابل هذا الواقع الجديد كلّه يشرح المؤلف أن الخاسر الأكبر يتمثّل في الطبقات الوسطى في البلدان الغنية حيث ان دخلهم بقي ثابتا. ويحدد أنه في أدنى درجات الدخل هناك أولئك الفقراء الذين لا يزيد معدّل دخلهم اليومي عن دولار واحد وأغلبيتهم من مواطني البلدان الأكثر فقرا التي تركتها العولمة على هامش الطريق وهذا هو الوجه السيئ لزيادة حدّة التفاوت العالمي.
وفي مجمل صورة الوضع القائم اليوم يشرح المؤلف أن هناك حركة كبيرة على مستوى العالم اليوم تعمل باتجاه زيادة النمو الاقتصادي في البلدان الصاعدة ما يقلّص من فجوة التفاوت في الدخل بين البلدان فيما بينها. ذلك أن تلك الحركة أدّت إلى رفع مستوى معيشة مليار من البشر إلى قوق عتبة الفقر التي كانت بمثابة السقف بالنسبة لهم.
بالمقابل يشرح المؤلف أن العولمة تميّزت بصعود متزامن للطبقات الوسطى في البلدان الصاعدة بالتوازي مع تعاظم الدور السياسي لأصحاب الثروات عالميا إلى جانب تقهقر الطبقات الوسطى في البلدان الغربية، الغنيّة. هذا مع الإهمال شبه الكامل للأكثر فقرا.
ويشرح المؤلف أن مواطني بعض البلدان يستفيدون كثيرا على مستوى دخلهم من انتمائهم الوطني لبلدانهم. هكذا مثلا من الأفضل، على ضوء الدخل والمكاسب الاجتماعية، أن يكون المرء أميركيا وليس كينيا. بكل الحالات يشرح أن أصحاب رؤوس الأموال يبحثون باستمرار عن الأمكنة التي تؤمّن لهم مردودا أكبر.
هكذا يميل المستثمرون الأميركيون لتوظيف أموالهم خاصّة في الصين، ثمّ في غيرها من البلدان الآسيوية الصاعدة. والإشارة أن هذا يزيد من الضغط على سوق العمل في بلادهم وعلى أجور العاملين وبالتالي على الاستهلاك الوطني. وما يكون له بالنتيجة آثار اجتماعية قد تؤدّي إلى نشوب اضطرابات.
ويربط المؤلف في تحليلاته بين المكاسب الاجتماعية وبين ظاهرة تعاظم الهجرات الحالية والمستقبلية من بلدان الجنوب نحو بلدان الشمال. ويرى أن المهاجرين لأسباب اقتصادية يريدون أن يستفيدوا من منظومات الرعاية الاجتماعية في البلدان الغنية. من هنا يرى أيضا أنه لا يمكن معالجة مسألة الهجرة اليوم بمعزل عن التفاوت العالمي بين البلدان وبين الأشخاص.
ويرى أن تبنّي سياسة هجرة أكثر انفتاحا ربما تسمح بتقليص أشكال التفاوت العالمي. ومن النتائج التي يخرج بها المؤلف من تحليلاته لمسألة التفاوت العالمي أن حدّة هذا التفاوت سوف تتعاظم في البلدان الغنيّة. هذا مع الإشارة أنها قد لا تصل إلى المستوى الذي وصلت له في نهايات القرن التاسع عشر.
لكن هذا لا يمنع، برأيه، أن يؤدّي المسار القائم باتجاه تعميق التفاوت في البلدان الرأسمالية الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية إلى بروز حركات ذات طابع قومي متشدد أو شعبوي، على غرار المرشّح الأميركي للرئاسة دونالد ترومب، الذي يعطي الأولوية لزيادة نفوذ الدولة الأمنية، وعلى غرار اليمين المتطرّف الذي تتعاظم قوّته بالنسبة للقارّة الأوروبية.
والتأكيد في جميع الحالات أنه من المطلوب والملحّ تغيير السياسات الحالية في إطار العولمة السائدة. ذلك أنه إذا لم تتم إعادة النظر فيها جذريا، وقبل أن يتأخّر الوقت كثيرا، فهذا يعني أن زيادة هوّة التفاوت العالمي سوف تزداد في مستقبل الأيام، وما يمكن أن تكون له نتائجه السلبية على الاستقرار والأمن في العالم.