وديع سعادة وثبات الغياب أمام الحضور

وديع سعادة وثبات الغياب أمام الحضور

أحمد ضياء
دثر سعادة في مجموعته الكاملة الصادرة مؤخراً عن دار ابابيل صراخه الكثيف في الهواء عله يجد في هذا المكان مسكناً هادئاً يحفظ به ذكرياته وانفاسه الصاخبة وندوبه المزمنة. نحن أمام فعل حي / حقيقي، لا تمر الأيام الا ونعلم أن هذا الشاعر المتمرد على كافة الأماكن وحتى على ذاته يرغب في أن يعرف ماذا سيقول الآخرون عنه في حال موته،

أنه يتنفس اللحظة ما بعد موته حتى لا يقال عنه ماذا لو كان هذا الشاعر عائشاً إلى الآن. (سعادة) لا يرغب أن يشاهد الالم في تلك البقعة من ذلك الزمن وقبل أن يهيلوا التراب على بدنه, وهنا لا بد أن نكرس خطاباً اساسياً أراد به الشاعر زحزحة النظام النسقي أو السائد حول كيفية التقويل لدى الناس لحظة اشاعة خبر وفاته، أنك لا يمكن أن تعرف ماذا سيحصل بعد موتك، ووسط هذا التراكم بين ما هو رومانسي وما هو مبكٍ أخذت شهوة الأيام تتصدع بدءا من موت الشاعر، فإن حصل فهو موت افتراضي يغيب الجسد ضمن موتيفاته الايقونية والاشارية التي تمارس حضورها في فضائها السيميائي وتكرس هذا الفعل.
المناورة الاستطلاعية التي وظفها الشاعر أو التي حاول من خلالها أن يمد جسوراً بين موته الفيزيقي وتواجد روحه وبين تواصليته المرادة إذ أن روحيته مازالت ترغب بالعيش والمواصل وترفض الموت مهما كانت شاكلته, وعلى هذا نلحظ في نص للشاعر يقول فيه:
نتسلق ضحكاتنا
لأنّ صراخنا شاهقٌ جداً. (الاعمال الشعرية وديع سعادة)، ص50.
ويباشر التسلق على مهلٍ لان وعورة الأماكن التي يذهب إليها تجعل منه مجازفاً في خطابة الإشهاري. فما إن يخطو صوب نافذة الألم ليتملص منها حتى تجره بنى السّرد الشعري ليفتح افقاً مختلفاً عمّا هو موجود وراكز في (العقل الشعري), وهي المفارقة الاعم والاغلب في شبكة الشاعر الحسّية, فأدائية اللعب على الانغام المفردة جاءت مع بدئه بالنزوح صوب الاطلال فهو يرغب بالتسلق لا لغاية مادية أو روحية / ميتافيزيقية، بل لأنه يرى صراخ الألم شاهق جداً وهي مرحلة الكشف وتفشي ما هو سائد عن ما هو مختلف وليخلق انزياحاً في التضاد اللعبي للشعر، ويقول أيضاً في نص (ليس للمساء إخوة):
بعيداً عن السقوف الحميمة
جميعُ الامطار لا تغسل مظلّاتنا
والنهارات الناسية مظلَّتها في يد الليل
تقذف بنفسها من مطلق نافذة
لتستخرج خاتم نومها. ص19.
وقفل المشهد الشعري هذا أو مفارقته تكمن في الأمطار التي لم تعد تغسل، ماذا ستغسل الأمطار إذا لم تستطع أن تغسل المظلات؟ التي وجدت لحمايتنا منه وما دام الأخير يرفض غسلها متحججاً ببعض الأمور المجاورة التي هي النهارات / النسيان / النوم، لخلق جانب عكسي ميتاوجودي لأنه لا يمكن أن نبرم هذه المواثيق خارج بطاقات العلن هذه، وبين مطر سعادة الذي نلمس به جانب جفاف الماء ومطر السياب الذي"تنشج المزاريب"منه فعل تلازمي فالأول مداعاة إلى التوقف كون الغيوم عاقراً لم تنجب محاصيل المياه وبين السياب الذي لديه وفرة هذه المحاصيل المطرية والتي تبكي فيها المزاريب لكثرة تساقطها، فالتأرجح على الابداع الشعري أخذ يبين إطاراً مغايراً خارج الخارج إذ يستأنس الشاعر بما سيقال عنه بعد حين.
الصلاحيات التثويرية التي دشنتها نصوص سعادة تنهمك وتذهب نحو الفطنة الشعرية فنلاحظ التطابقات السلوكية التي يملكها هذا الشاعر وكذلك اللحظة الادائية إذ أنه يصير على تسجيل نصوصه بصوته الخاص وكامرته المتلازمة معه بالتالي فيحاول أن يسن فعلاً صورياً اضافة إلى النصوص التي يكتبها ففي كل فترة نلاحظه يخرج بانقلاب نفعي يُرد عليه مداليل متشظية بين الهنا والهناك.
الأدب قضاء شعري، لذا أود الافصاح عن هذه العيون الغافية على نهر القصيدة، فنجد (هارولد بلوم) في كتابه (فن قراءة الشعر) يجد ان"اللغة إلى حد كبير مجازاتٌ مخفية"ص12، فطينة هذا الديوان تأتي مختلفة بالكامل كونها تسرح الوجبات الثقافية مؤسسة بعداً مغايراً لما هو مألوف وسائد فنجده يهشم هذه الركيزة عبر مقاعد سفلية يتداول معها المعاش فيصرح في قصيدته المعنونة بـ(النظرة) فعلا مكاشفاتياً ينقل به الشاعر هموم الغربة وواقع الحال الفرداني فبعد أن اشتد البرد وهو يعاني المنافي تجمد في مكانه وظل يبحلق في الافق على تلك الصبية التي تلعب، فلروحه المتعلقة بما هو اساسي وطفولي أجدها لم تشبع اللعب حتى مع الاطفال فيصرح في نصه المذكور:
كان يقعد على الدرجات السفلى، ينظر إلى الثلج ينزل أمام رواقه
ينظر إلى الطريق
متبيناً سيارات سريعة
آملاً أن يلوح له راكب ما
أن تتوقف سيارة، ينزل واحد منها وينظر إليه...
تذكر هواءً قارساً، وهمَّ أن يحضر بطانيته
لكن قلبه كان يقول له
إنَّ راكباً سينزل الآن، ويتَّجه إليه.
في الصباح لعب الاولاد طويلاً بكرات الثلج أمامه، وكان ناصعاً
وبعينين مفتوحتين، تمثاله. ص160.
فهو يأخذ فلسفته الذاكراتية ويضعها في أحلك الظروف واشدها عتمة ليخرج من هذا الإشهار النصي بوابل كثيف من المفردات التي تشعرن حالة الحنين / النستولوجيا، ولم يتوقف عند هذا الحد بل أنه ولشدة لهاث الانتظار لديه ظل خارج المنزل حتى تجمد ولم يستطع الحراك فجاء تمثله ناصع البياض لشدة الثلج المتجمهر عليه وعلى حالته الشعرية تلك، فحتى في موته يشعرن الأشياء ويحيلها إلى فضاءات مغايرة شريطة أن تبقي بجسده الفيزيقي فوق التراب وليس تحته، وهذه مشكلة الشاعر الذي خبر الحياة واتاح لها فضاءً مغايراً للأحداث الصاخبة والمجاورة لخبر موت الشاعر فهل مات هذا الشاعر جراء الوحدة أم ظلَّ يعيش الوحدة والانكسار من بلده، ما هي الا طعوم ينثرها سعادة فوق اليابسة وتحت الماء تارة لجلب الغنيمة وتارة للتحاور مع الفكرة الاساسية واعني بها القصيدة.