العلامة د. جواد علي بين حوار الذات والمنهج في تفسير التاريخ

العلامة د. جواد علي بين حوار الذات والمنهج في تفسير التاريخ

د. نجاح هادي كبه
يعد المؤرخ العلامة الكبير د. جواد علي المولود بمدينة الكاظمية سنة 1907 علامة مضيئة في تاريخ العراق المعاصر، فهو من اشهر المؤرخين العراقيين تشهد له بذلك كتبه: ((المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام )) بـ (10) أجزاء، تاريخ العرب في الاسلام – السيرة النبوية، المهدي المنتظر، الصلاة وغيرها.

ود. جواد علي كانت مدرسته الأولى بيئة الكاظمية العلميّة وبيئة الأعظمية (جامعه الامام الأعظم ) ، إذ كان طالبا فيهما في بواكير حياته ، مما جعله ذا قاعدة ثقافية – تاريخية ، قديمة ومعاصرة مما أهلته مستقبلاُ الى آفاق علمية أخرى ، اذ درس في المانيا وتخّرج فيها متخصصا بالتاريخ ، وكان يتقن اللغتين الانكليزية والألمانية فضلاً على فهمه للغات العربية الجنوبية (اليمانية ) ، وقد دّرس في جامعة بغداد – كلية التربية مادة التاريخ العربي قبل الاسلام ، وقد تتلمذت على يديه في السبعينيات ، وكان أستاذًا متميزًا ، اذ شارك في مؤتمرات تاريخّيه في الخارج وتنباً بسقوط هتلر .
إن السؤال الذي يطرح نفسه ، هل كان د. جواد علي صاحب منهج فلسفي نقدي في تفسير التاريخ؟

رأي فلسفي
فمعلوم ان التاريخ قد فُسّر في ضوء نظرية ماركس وهيكل وفرويد وتوينبي وشبنكلر .... والجواب عن هذا السؤال ان الدكتور جواد علي يرى ان التاريخ يجب أن يكون بعيداً عن ابداء الرأي الفلسفي لكي يكون التاريخ وثيقة دامغة ، فجواد علي لايميل الى أساليب فلسفية نقدية في استنتاج الأحداث ، لكن يرى انه يمكن استخراج العبر من التاريخ ، إن مهمة المؤرخ تحديد الوقائع ورسم حدودها ، بالوثائق كالنقوش والمدّونات والآثار ، ولكن قد يضطر المؤرخ الى تثبيت الوقائع بالاستنتاج ولكن هذه مرحلة بحثية من الدرجة الادنى .
قال د. جواد علي : في كتابه تاريخ العرب في الاسلام ( وبعد فان طريقتي في هذه الكتاب هي طريقتي نفسها التي اتبعتها في تاريخ العرب قبل الاسلام ، رسم الماضي كما رسخ في ذهني ، واستقر في فهمي ، وتثبت في فكري مع تقريب وتوضيح له جهد الامكان من غير زيادة عليه او نقصان منه وتجنب شديد من إبداء الآراء الشخصية او اعطاء الاحكام ، فالتاريخ في رأيي رسم الماضي وتشخيصه وعرضه من غير تحزب او تعصب او إبداء رأي وحكم تاركاً أمر الأحكام إلى القرّاء ، يكونّون آراءهم كما يرون ويشتهون وعلى النحو الذي توصّل إليه اعتقادهم من قراءتهم للموضوع ، فانا في هذا الكتاب مصدر فحسب أحاول تقديم صورة صافية نقيّه لتاريخ الاسلام ، ولا أريد أدخال شيء غريب عليها ، ولا أريد انتقاص شيء منها ( تاريخ العرب في الاسلام، بغداد ، دار الشؤون الثقافية العامة ، 2004 ، ص :44)

اسلوب سردي
ود. جواد علي جمعي وترتيبي – كما وصفه خالد العسلي – في كتابه “ دراسات في تاريخ العرب ، ج1 ، ص : 229 “ ولكن باسلوب علمي يستند الى الوثائق في تدوينه للتاريخ ، فهو لايلتزم يسرد وقائع التاريخ ، كما هي بل يتثبت منها تثبت العالم وثائقيا مخالفًا القدماء الذين درسوا التاريخ على وفق الاسلوب السردي ، لقد كان جواد علي يدرس التاريخ ويقارنه بالنقوش والمدوّنات مستند الى مصادر قديمة وحديثة الى مصادر أجنبية لاتقانه اللغة الالمانية والانكليزية والمنهج التاريخي البحثي عند د. جواد علي نسيج وحده قال: ( والمؤرخ الحصيف الناقد لايكتفي في بحثه عن تاريخ عصر الرسالة بما اكتفى به اكثر المؤرخين من توجيه جلّ عنايته الى الناحية السياسية والغزوات بل عليه أن يتخطى حدود هذه الناحية الى نواحٍ أخرى ، الى دراسة أحوال السواد الاعظم من الناس والى التطورات الفكرية والاقتصادية والحياة الاجتماعية والدينية والثقافية في ذلك العهد والى أثر الأفراد البارزين في مجتمع ذلك اليوم والى أثر الاسلام في الحجاز وفي العرب أجمعين ( تاريخ العرب في الاسلام ، م.ن ، ص: 73) .
ولكن أيوجد بون شاسع بين طريقته هذه ودراسة التاريخ وحيثيات حياته أو فلسفته في الحياة في اقل تقدير ؟ والجواب عن ذلك : لا. قال د. جواد علي (فاننا نجد المجتمعات المتطورة بايدي الأنانية .. أي بأيدي المغامرين أهل العلم والعزم فغريزة “ انا “ تدفع الفرد الى العمل وعلى التغلب على المشاكل وعلى الابتكار والابداع ، ( الدكتور جواد علي ، حميد المطبعي ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد ، ص : 44) فجواد علي يؤمن بجانب من الوجودية والوثائق المدّونة نوع من الوجود والاستنتاج ناتج عن الوجود والوجود سابق للجوهر ، وأكّد د. جواد نظرته الوجودية بقولة : “ فالتاريخ في نظري يبدأ بولادتي وينتهي بموتي ((فلولا وجودي ، لما كان لهذا الوجود وجود ، فبموتي يموت بالنسبة لي كل شيء (الدكتور جواد علي ، حميد المطبعي ، م.ن ، ص : 45)) .
“ والانسان كما تتصوّره الوجودية ليس له في البدء أي وجود حتى يمكن تعريفه وتحديده وان هذا التعريف قد وجد وعلى الشكل الذي يوجد نفسه عليه “ الوجودية مذهب انساني لجان بول سارتر ، ت : كمال الحاج ، مكتبة الحياة ، بيروت، ص : 45”
ويؤكد د. جواد علي “ أنا أفكر “ لاتجعلني أعي نفسي كما اعتقد ( ديكارت ) و ( كانت ) ولكنها تجعلني اعي نفسي مواجها الآخرين ، وتجعل الآخر حقيقة أكيدة لي ووعي له لايقل قوة عن وعيي لنفسي قال سارتر :

شرط الوجود
وهكذا فان من يتصل اتصالا مباشرا بنفسه بفضل ( أنا افكر فاذن انا موجود ) يكتشف ايضا الاخرين كشرط لوجوده لأنه لايصح أن يعدّ انسان نفسه حاسدا أو فاسًدا او ذكيًا إلا أذا اقرّ الآخرون له بذلك ، فلكي أكوّن لنفسي حقيقة عن نفسي يجب أن أمر بالآخرين “ . “ الوجودية مذهب انساني ، م، ن ، ص : 72”
ويكرّس د. جواد علي وجوديته بقوله : ( أنا بموتي افقد كل حس كان عندي ) وقال ( وبعد وضعي في قبري ودفني يبدأ وجودي ، وهو جسمي في الانحلال ، حتى يفقد كل معلم له) . وقال (لا ادري لم جئت ولم مت) (الدكتور جواد علي ، حميد المطبعي ، م.ن، ص : 77) وهو بذلك يعيد الى الاذهان قول ابي ماضي :
جئت لااعلم من اين ولكني اتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت

وأبو ماضي كان يتكلّم بلغة الشعر ، وكان يحاول أن يفسّر التاريخ بوسيلة “ العاطفة الرمزية “ وهو على نقيض مايدعو اليه د. جواد علي فالتاريخ عنده البحث عن طبيعة الرمز ( الدكتور جواد علي ، حميد المطبعي، م.ن، ص: 78)
وقد يكون من نافلة القول أن نذكر ان الوجودية نوعان وجودية مؤمنة وهي الوجودية الألمانية كما عند كيركيغارد ووجودية ملحدة وهي الوجودية الفرنسية كما عند سارتر وكان د. جواد علي مؤمنا مهما كانت نسبة وجوديته ، قال : (وعلى المؤرخ اجمالا أن يكون حذرا جداً تجاه هذا القصص الاسرائيلي خاصة ، وتجاه الأخبار المتأخرة التي لا تجد لها أثراً في الموارد القديمة ... وعلى الؤرخ أن يكون يقظًا نشيطًا متوقد الذهن فلا يقبل من الأخبار والروايات الا مايتلاءم مع روح القرآن الكريم ، واحاديث الرسول وماهو من أمر الاسلام من نبذ الأساطير والقصص والخرافات ، فاذا فعل ذلك جنَّب نفسه الاغاليط والمزالق التي وقع فيها نفوس المستشرقين ومن المؤرخين الاسلاميين من قبلهم بقبولهم كل خبر سمعوه من غير نقد ولافحص ولاتمحيص “ تاريخ العرب في الاسلام ، مصدر سابق ، ص : 51.
ولكن ايمانه بالروحانيات لايتعارض كما يرى مع علامات الاستفهام التي وضعها عن سبب الوجود قال :
( أما ماأريد أن أقوله قد جئت ولست مختاراً في مجيئي وسأموت ولست أدري متى ولِمَ أموت ، فعليَّ قضاء أيام حياتي بعمل أعمله بنفسي ، وأنا أعمل لخير الناس عامة والحياة قصيرة ، وهو لاشيء بالنسبة لحياة هذا الكون ) ( الدكتور جواد علي ، حميد المطبقي ، م. ن ، ص : 168 )

تغيير العقلية
ود. جواد علي قد استند في أفكاره هذه الى اسلوب القياس العلمي فقال : ( فقد حمل الرأي العام في مصر على الشيخ محمد عبده ، وكفَّره بعضهم لأنه تحدث بأمور كانت شائكة بالنسبة لذلك الوقت ، أما اليوم فلا يعبأ بها أحد وحوكم الدكتور طه حسين لشطحات ظهرت منه وحمل عليه علماء ذلك الوقت حملات عنيفة ، اما اليوم ونحن نقرأ كثيرا فلا نجد فيها شيئا يستحق تلك المحاكمة وذلك بسبب تغيّر العقلية وتطورها ) ( الدكتور جواد علي ، حميد المطبعي ، م.ن ، ص : 157) .

مؤرخ مؤمن
لذلك فان الدكتور جواد علي قد خالف في أفكاره غيره ولايرى في ذلك ضيرا فنراه يختلف مع المؤرخين في ان التاريخ ليس بعلم وكان يقول ( ان من العلماء ولاسيما غير المؤرخين من يرى أنه ليس بعلم )....
إن هناك فرقا واضحا بين قواعد يستنبطها الانسان من الشك والتجربة يسلم بها العقل وبين قوانين يستنبطها الانسان من مجرد التفكير والاجتهاد بدون تجربة وبحث في السببية وفي صلة العلة بالمعلول ) ( الدكتور جواد علي ، حميد المطبعي، م.ن ، ص : 114)

وفي ضوء ماتقدم نستنتج مايلي :
1. ان د. جواد علي قد خدم العرب والمسلمين بوصفه مؤرخا ثبتا ومنصفا ًفي منهجه البحثي العلمي ، وقد أدَّى رسالته تجاه قومه ودينه باسلوب بعيد عن الشعارات البرّاقة فادّى بذلك واجبه الانساني بوصف العرب والمسلمين جزءا من الانسانية .
2. ان ما اثاره د. جواد علي عن الوجود هو ليس من باب عبث الوجود بل كان يقصد إثارة العلم والمجادلة للوصول الى المعرفة ، فهو عالم جليل يريد أن يتثبت من الوجود بوصفه حقيقة ولايقصد الكفر البتة وهو ماأمر به سبحانه وتعالى في كتابة الكريم : (( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون، انما يتذكر اولو الالباب )) (الايه 9 الزمر ). وقال : (( قل انما اعظكم بواحدة ، أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا )) ( الايه 46 سبا).
3. ان د. جواد علي كان مؤمنا بالله وبرسوله وكتبه ولم يكن ايمانه ايمان الصوفي بل كان ايمانه ايمان الانسان ذي العقل والمحجة اذن هو يرى ان الطريق الى الله سبحانه وتعالى هو العقل.
4. ان ثقافته العلمية والدينية في الطفولة التي اكتسبها من بيئة الكاظمية والاعظمية قد حدَّد مسارات ايمانه على الرغم من ايمانه بالعقل ، وجعلته يؤمن ان المذاهب الاسلامية واحدة المنبع مهما تشعبت عن الاصول.
5. وأخيرا فان د. جواد علي كان أنموذجا يقتدى في بحثه وصبره على البحث وفي علمه واخلاقه ولاازال اتذكر وكنت طالبا في كلية التربية عام 1971 م ببغداد وانا جالس استمع من مقعد الدراسة الى محاضراته القيمة عن تاريخ العرب قبل الإسلام ان سأله طالب فيما يتعلق بالايمان والخالق ولكن بصورة غير مباشرة فأجابه أنت لست اكثر ايمانا مني .
ولقد بقيت صورته شاخصة في ذهني ، لقد كان الكتاب خير جليس له في خلوته وفي اثناء الاستراحة من الدروس لايفارقه ولايقطعه عن الاستمرار في قراءته إلاّ طالب يسأله عن الدرس والامتحان ، وكان دقيقا في اجابته وحواره يمنح الاخرين الثقه بانفسهم لكنه كان يسحب الثقة من الاخرين مباشرة حينما يرى انها في غير موضعها، ولقد قرأت لوحة معلَّقة على قبره كتب عليها، ان الحياة كشريط الكاسيت سرعان ماتنتهي، وجواد علي مدفون في مقبرة جامع براثا في العطيفية ببغداد وقبره مسيج بقفص حديد كبير.