محسن العزاوي.. ومحاولاته الفنية للتصالح مع الذات الاغترابية

محسن العزاوي.. ومحاولاته الفنية للتصالح مع الذات الاغترابية

علي النجار
الفنان العراقي المغترب(محسن العزاوي) هو واحد من هؤلاء الفنانين الغير متصالحين وأماكن هجراتهم. بالرغم من انه لم يكن متصالحا أيضا و مكان نشأته الأولى. لكن يبقى الفرق واضحا بين أن تتمرد على مكان النشأة وأمكنة الاغتراب.

ففي الأولى أنت مخير. وفي الثانية أنت مضطر تحت وقع ظروف معينة. وما بين الاختيار والاضطرار مسافات وجدانية بالإمكان مراعاة اختلافاتها. هذه المسافات أو الفراغات هي التي تركت آثار واضحة على معظم ما صنعه الفنان من أعمال فنية.
زمن النشأة الأولى(الإقامة العراقية) ترك بصمات واضحة على العديد من رسوماته. مثلما هو واضح في اكتضاض تفاصيلها الاشارية الوجدانية استرجاعا. في الوقت الذي لم تترك له اغترابات هجراته سوى التجريب على آثار مناطقها الابصارية وبحيز ضيق. وما بين البصر والبصيرة مناطق اشتغالات بالإمكان ريادتها. لكن, ربما لو توفر له الاسترخاء المناسب. ليس ما اعنيه بذالك, الاسترخاء السلبي الذي يجرد إرادة الإبداع من محفزاتها. بل بما يسمح للذاكرة (البصرية ـ الابصارية) بأن تحيط بالخطوط العانية لمشهديتها العريضة, اختزالا لسعة المشهد الفني الذي يعالجه, وللحد الذي يبقي على تذكارات تعويضية معينة هي الاقرب الى نفسه, ان لم نقل ذائقته. وما بين اكتضاض مفردات رسوماته الزيتية بتفاصيل البيئة الاولى, وتشعبات منعطفاتها المحيطية والعاطفية التي لا تود الاكتفاء بما تيسر له. وما بين محيط بيئي ضاغط. تبقى اجتهاداته ملغومة بتردداتهما التي لا يود التفريط بكليهما. بما ان لأثر المستعاد, بالنسبة له' يبقى استذكارا زمنيا ـ مكانيا. ملاذ استثنائي يعتقده, ربما يردم بعضا من مسالك غربته المتعثرة.
غالبا ما تكون انجازات الفنانين, في الوقت الحاضر, غير متشابهة, أو عند بعضهم, غير متطابقة بالمعنى المجازي. إن كان الفنان واعيا لهذا الاختلاف. فانه, وبالتأكيد, غالبا ما يعمل في المنطقة الافتراضية التي تراعي ملاحقة أفكاره, أو انطباعاته المتغيرة بتغير مصادرها. لكن أن نعاين تجربة فنان ما, لم تستكمل شروطها الانجازية المختلفة إلا بتعدد أزمنة وحتى أمكنة لم توفر لها شروط متابعة المنجز(الذي هو وليد لحظة ما) أن يصل إلى مداه المفترض. مع ذلك فان آثار أعمال بعضهم تدل على مقدرة انجازيه. وكل ما عليهم هو مراجعة خط مسارات اعمالهم الأفقي, من اجل أن يكتشفوا تحولات او تباينات انماط أو مناطق إبداعهم الأكثر التصاقا بذاتهم, من جديد.
لكن, ربما لو توفر للفنان الاسترخاء المناسب. ليس ما اعنيه بذلك الاسترخاء السلبي الذي يجرد إرادة الإبداع من محفزاتها. بل بما يسمح للذاكرة البصرية ـ الابصارية بأن تحيط بالخطوط العانية لمشهديتها العريضة, اختزالا معادلا لسعتها. وانا اتجول معه وسط احد طرق متاهات الغابة التي لا تبتعد عن مكان سكناه في احد احياء مدينة توركو الفنلندية, اكتشفت بعض من تاثيرات مسالك هذه البيئة البكر على العديد من محاولاته التقنية ـ الابصارية. وبالتحديد, في رسوماته على الورق والمواد المختلطة. لقد لفتت نظري هذه المحاولات. كونها حصيلة انطباعات هي ربما بعض مما اختزنته ذاكرته عبر تجوالاته وسط تشابك التربة الصخرية البرية وتفجر جذور نباتاتها واشجارها المتشابكة المكتضة. تربة لم يبقى من صلابتها الصخرية الا قشرة اسفنجية الوطء والملمس, لكنها ثرية العطاء. هو ايضا صنع بمواده المتقشفة معادلا لسطح التربة هذه. لكنه استعاض, غالبا, عن تشابك مخلوقات الغابة, بلعبة ملونة الضوء والعتمة(لعبة اختزالية. ولم ينسى احيانا ان يقحم هذه الملونات المتقشفة, بإشارة لنبتة ما, تأخذ مكانها استرخاءا لا يخلو من اثارة لسكونية عناصر الرسمة الاخرى.
اشتغالات المادة في الفن, ليست وليدة عصرنا. بل هي قديمة. قدم اشتغلات الانسان بالتعبير صورا عن مداركه الحسية والمادية. باختلاف المادة تشكلت الاختلافات التنفيذية التقنية التعبيرية. وهشاشة المادة المستعملة في تنفيذ العمل الفني, غالبا ما تنتج معادلا يحمل هشاشة أو رقة حساسية ملامحه الإخراجية ولا يغيب كل عناصر هذه الرقة الأدائية, وكما في غالبية رسوم المنمنمات. هذا ما نلاحظه في معظم اعمال الرسم المنفذة على الاوراق. وان تشابهت بعض نتاجات الرسم الزيتية بحواملها المختلفة والرسوم الورقية. فاعتقد بان منتجها(الفنان) لا يزال يحن لمنجزه الورقي ومعالجاته المعروفة. من هنا اجد بان رسوم محسن العزاوي الورقية. رغم صلابة مادة ملونتها, فإنها لا تبتعد عما ذكرته من خصائص الرسوم الورقية. فصفحة الورقة ومادتها الهشة غالبا ما تخترق صلابة مادة الملونة. التي هي في بعض محاولاته مواد خام غير تقليدية, كالزفت مثلا. هذه الرسوم التي تبدو كمجردات, سرعان ما نكتشف بانها جزء من تربة الغابة المجاورة وحزوز دروبها. تجمع في تضاعيفها مادة التربة وكثافة هواء فضاءاتها. ولا تخلوا من مسارات تيه افتراضية. لقد حقق العزاوي في بعض من محاولاته هذه اختزالات أدائية نفتقدها في رسوماته الزيتية عموما.
يبدو أن الفنان وأمام مساحة سطح اللوحة المسندية(الزيتية) الواسع نسبيا, يتشبث بتفاصيل رسوماته التي تفترش سطح اللوحة. هو يحاول أن يستجمع من خلالها كم من تيه أحلامه الشاردة, ووقائع إدراكية متشبث بها. وفي اغلب الأحوال فان رسوماته الزيتية هذه تنوء بحمولتها الإدراكية تفاصيل من البيئة والوجدان والحدث المسترجع عبر دروب تلافيف الذاكرة. وذاكرته مشحونة أحداثا زمنية متتابعة(كأي عراقي لم تكن هجرته أو غربته إلا تيها في مدن دول متتابعة. وعلى ما يبدو, فان تيهه الجغرافي وحتى الافتراضي المتأخر) أقصى عنه فرصة الاسترخاء التأملية التي تساعده على تشذيب هذا الكم(الانفعالي) من فائضه. لذلك نكتشف بان رسومه الملونة هذه, ما هي إلا سلوكا بوحيا موصولا بسيرته السرية. تلك السيرة التي تشبثت بخفائها معادلا لخسارات علنية. وسيرة كهذه, لا اعتقد بأنها تكتفي بالكفاف من تفاصيلها. لقد وفرت له مساحة سطح العمل الواسعة نسبيا, فضاء مفتوح على احتمالات اشتغالات عديدة. تبدأ من الصفر(الفراغ المقلق) حتى أقصى مدى تحتمله الحواف الأربع. واختار أن يتجول في فضائه المفتوح هذا, متعثرا بخطى تواريخه التي لا بود هجرة بعض أيامها. نحن أمام تجربتين, أو فضائيين تعبيريين(بالمعنى الأدائي) لفنان واحد. صحيح أن لمواد وفضاء تنفيذ العمل دور ما في إخراجها. لكني اعتقد بان هذه المواد لوحدها غير قادرة على إخراج العمل في نسخته النهائية. وكما عند محسن العزاوي. إن لم يكن حس التجريب متأصلا في ذاته. وان كان للتجريب بعض من خسارات مادية أو افتراضية في الأعمال التي انتهكتها عادات الرسم(وخاصة الرسوم الزيتية). فان المحاولات التجريبية الأدائية تأخذ مداها الأوسع في حوامله من المواد الورقية والصبغية الأقل تكلفة واقل أهمية بالنسبة للفنان المحترف(رغم أن كل المواد تكتسب أهميتها الأدائية التعبيرية, بمقدرة الفنان الأدائية, وخاصة الأعمال الحديثة وما بعدها). ومحسن خبر التمرد التجريبي في زمن تجربته الأولى في بغداد, وحقق بعض من ملامحها التي لا تزال عالقة في بعض من أعماله الورقية المتأخرة(جزء من إشهار تمرده وقتها) ووضعنا أمام تساؤل ملح عن دوافع خفوت محاولات التحولات الزمنية(مجاورة , او محاذات الزمن المعاش)عند الفنان, والتشبث بتفاصيل هي خليط من واقع ووقائع ملغزة تستقي مفرداتها التعبيرية من فضاء الاشتغالات الفنية الاسترجاعية المحلية. رغم كون هذه الاشتغالات المحلية لا تحمل صفاء ملامح محليتها. ونحن لا نستطيع فصل أية اشتغالات فنية عن مؤثراتها التي تتعدى عناصرها المحلية, إلى الفضاء العالمي الأرحب. أنا هنا لا ادعي أن محسن لم يحقق بعضا من خصوصية الأداء. إذ, وفي كل اشتغالات الفنان, ثمة خصوصية ما, ولو بنسب متفاوتة. تتسلل للعمل الفني. فنحن لا نستطيع إقصاء الذات, وخاصة الفاعلة, بشكل كامل عن التأثير في عملية التعبير والأداء. لكن ربما. الحنين لوحده, هو الذي يدفع الفنان لاستعادة أجواء تعيده لحوادث أحلام مسترجعة من تواريخ فقد أثارها على امتداد زمنه الاغترابي.
إشكالية الاشتغالات الفنية, من خلال شقيها الذات والأخر. لا تزال فاعلية في معظم الاشتغالات الفنية العربية, وخاصة المهاجرة ا منها اغترابا. والتصالح مع الذات نادر ما يحدث. لكنني أجد أن في محاولات محسن العزاوي للتمرد أو الخروج على الأنماط الأدائية الفنية الشرقية الحديثة, ما هي إلا محاولة منه للتسلل الى محيط بيئته الفنلندية المحلية(بدون ضجة). إذ لا يمكن للفنان أن يتجاوز مفاعيل التأثير البيئي على ذاته وبشكل من الأشكال. هو وسط حاضن أوربي شمالي, له خصوصية بيئية اختزالية. وهو أيضا وريث بيئة لا تمل من الإعلاء من أهمية تعدد تفاصيلها لحد التشضي. ومابين هذه وتلك سوف يبقى الفنان مجذوبا لطرفي المعادلة. إلا إذا اختار أن يحزم أمره ويتصالح وإحداها. هذا ما ننتظره من جديد أعمال محسن العزاوي. ربما سوف لا يكون الأمر هكذا, وبهذا التصور القطعي. لكنني أميل إلى انه سوف يخضع للتأثيرات البيئة التي تحيطه بكل ثقل أجوائها وفنتازياتها. لكن, إن لم يتخلص من منغصات تواريخه الغير سوية. حينها سوت يبقى متعثرا باشتغالاته العديدة, لحد تعارض وتقاطع خطوطها التعبيرية المتعددة. محسن العزاوي, وكنموذج فني, لم ولن يكن الفنان العراقي المغترب الوحيد الذي تتجاذب تجربته تواريخ وجغرافيا متباعدة ومتعارضة, دون ان تترك بصمات واضحة على نتاجه الفني بشكل من الاشكال. فللإقامة امتدادا, ايضا, مناطق اشتغالاتها الفنية التي تقصر أو تطول فترات اكتشافاتها. وللاغترابات أنماطها التعبيرية الاجرائية ألأخرى الخاضعة لنفس الشروط الزمنية. وان بانت متداخلة أو متعاشقة أحيانا, فان ما يفصل بينهما هو قدرة الفنان على استيعاب شروط إقامته المستجدة ومفاعيلها البيئية والوجدانية المتجاوبة, او المتجاذبة وذاته. فلسنا نقيم في الفراغ المطلق. وليست ذواتنا خواء هي الأخرى.