تسفيتاييفا ـ باسترناك ـ ريلكه: رسائل من القلب

تسفيتاييفا ـ باسترناك ـ ريلكه: رسائل من القلب

ترجمة/: سعد هادي سليمان
برغم ان الكاتبة والشاعرة الروسية الكبيرة تسفيتاييفا وبوريس باسترناك كانا في العاصمة الروسية موسكو قبل عشرين من قيام الثورة البلشفية، وهما ينحدران من عائلتين معروفتين تنتميان الى الانتلجنسيا الروسية، الا انهما ـ على ما يبدو ـ لم يلتقيا صدفة في احد الشوارع او يتبادلا ولو كلمة واحدة او نظرة سريعة..

ومع ذلك فلقد كانت تسفيتاييفا قد سبقت الكاتب والروائي والشاعر الروسي بوريس باسترناك في مجال الشهرة الادبية وكان لها الكثير من المعجبين في حين كان باسترناك يسعى جاهدا كيما يخطو اولى خطواته عندما كتب عام 1917 (اختي حياتي) وعد عمله ذاك بمثابة نصرا ادبيا شخصيا!!
أما الشاعرة مارينا تسفيتاييفا ورغم شهرتها الادبية في بلدها، فلقد اضطرت عام 1922 ان تسافر لتلتقي بزوجها (وهو شاب من روسيا البيضاء كان قد هرب من روسيا واستطاعت السلطات السوفييتية وقتئذ اقناعه بالرجوع) والحال هذه فلقد تحول سفرها الى لجوء قادها نحو برلين ثم براغ لينتهي بها المطاف في العاصمة الفرنسية باريس لتقيم هناك نحو 17 عاما.. في حين بقي باسترناك في موسكو حتى اذا ما وقعت عيناه صدفة في احدى المكتبات على مجموعة شعرية بعنوان (علامات) تأليف مارينا تسفيتايفا، عملت الشاعرة على نشرها قبل رحيلها، نجد ان باسترناك اصيب بدهشة كبيرة لما تضمنه ذلك الديوان من قوة الكلمات وقدرة عالية على التعبير، وامكانية استثنائية على نحت الكلمات واكسابها معنى جديدا قد يفتقر اليه حتى بعض كبار الشعراء وقتئذ، لذلك نجد بوري باسترناك يقول: (ما ان انتهيت من قراءة ديوان تسفيتاييفا ـ علامات ـ حتى احسست ان بئرا من القوة الشعرية والصفاء الادبي قد انفتح امامي، فانا لم ار شيئا مثل تلك الاحاطة الشعرية الكبيرة التي كانت تتمتع بها هذه المرأة). وهو ما بقى يردده فيما بعد حتى نهاية حياته.
ولقد سارع باسترناك الى كتابة رسالة الى تسفيتايفا يوم 14/ ايلول / 1922 ليقول لها: (اعذريني، اعذريني، وطلب الاعتذار هذا جاء لاني لم اطلع على ما كتبتيه من شعر بشكل مبكر جدا، واعذريني لاني لم اطلع سابقا على ديوانك ـ علامات ـ الذي يمكن ان اصفه: بالمعيار الحقيقي للشعر الرائع الحديث). وفي الحققة يمكننا ان نؤكد ان تلك الرسالة جاءت نتيجة ما احس به باسترناك من اسف كبير، لان تسفيتايفا كانت وقت صدور عملها الشعري ذاك في موسكو ولم يستطع التعرف بها خصوصا وان شعرها قد احدث انقلابا فكريا واضحا لدى باسترناك لشدة تأثره بذلك العمل الادبي. اما مارينا تسفيتايفا فلقد اجابت عن رسالة باسترناك في 29/ ايلول وجاء فيها: (عزيزي بوريس ليونيدوفتش باسترناك، كان بودي الاجابة عن رسالتك في الحال، لكني فضلت ان لا اكتب لك خلال ساعات الليل لما تنطويه مثل تلك الساعات من وساوس ونزوات ودوافع تسيطر عليَّ وتجعلني غير قادرة على السيطرة عليها، لذلك قررت ان اجيبك في وضح النهار بعد ان دسيت رسالتك داخل كومة اغراضي الشخصية لمدة يومين).. لقد توجب على تسفيتايفا العودة الى برلين حيث كانت تقيم، الا انها وبمجرد الوصول الى هناك عادت مجددا الى براغ على انها استمرت بمراسلاتها ما باسترناك اذ انها شعرت بكونها قد تعرفت عليه، لذلك نجدها تقول في احدى رسائلها لباسترناك: (لكي اقيم علاقة مع شخص ما، فان عالمي المفضل هو ذلك الذي يقع بعيدا عن الواقع، انه الحلم، فالرسائل بالنسبة لي وعلى نحو ما ما هي الا شكلا من اشكال التواصل والعلاقة فوق ـ ارضية) وانهت تلك الرسالة قائلة: (انا لا اجد لقاء من اعتبرهم اصدقاء خلال هذه الحياة التعيسة) ولان باسترناك كان الشاعر الروسي المفضل لديها فقد ارسلت له آخر القصائد التي انتهت من كتابتها.
اما باسترناك من جهته، فلقد تطلب منه شكرا لكي يجيب على رسالتها تلك ولتي جاء فيها: (نظرا لصراحتك وصدقك الاستثنائي، فلقد وجدت انه ليس من السهل عليَّ الا استمر بالتواصل معك عبر المراسلات، لاني اشعر اني اراسل نفسي).. لقد كان باسترناك يشعر بالخوف من تلك المرأة المطلقة.. فهي متمكنة من صنعة الشعر الى حد كبير وتتمتع بتجربة حياة وثقافة عاليتين. اما هو فلقد كان يفضل الصوت على الكلمات، ويفضل الضجة على الصوت في حين كانت تسفيتايفا وبرغم قوة الكلمات التي تستخدمها الا انها ترى الكلمات عاجزة عن التعبير ولا يمكن ان يسعها شيء الا اذا اخذت موقعها المناسب تماما داخل القصيدة، وعلى ما يبدو ان تسفيتاييفا باتت شيئا فشيئا لا تفرق في رسائلها بين ولع المراسلة والحب فتحولت رسائلها الى نوع من النثر الشعري وبقي كلا الشاعرين يتبادلان الرسائل حتى عام 1936.
واذا كانت الشاعرة الروسية الكبيرة التي غبن حقها في بلدها سنواتٍ طوالاً وعانت الأمرين من قبل اجهزة السلطة الستالينية وأقدمت على الانتحار بعد عودتها الى موسكو عام 1941، فان بوريس باسترناك استطاع الحصول على جائزة نوبل للاداب عام 1948 بعد عام من نشر روايته (دكتور زيفاكو) في ايطاليا وبدت معاناته والضغط الذي كانت السلطات السوفييتية تمارسه ضده مجرد ازعاجات بسيطة مقارنة بما عانته الشاعرة تسفيتاييفا.
لنعود الى مجمل مراسلات تسفيتاييفا ـ باسترناك: في الحقيقة لم تكن هذه الشاعرة تراسل مواطنها باسترناك فحسب، فلقد كانت تراسل الشاعر الالماني الكبر رينر ماريا ريلكه واستمرت مراسلاتها معه حتى عام 1926، ولقد اكتشفت تلك المراسلات عام 1977 في المكتبة الوطنية في بيرن فلقد كانت تسفيتايفا معجبة بريلك شاعر الموت والحزن وكانت تخاف على مصيره، لانها وجدت مصيرها قد لا يختلف عن مصير هذا الاخير كثيرا. وعندما توفي ريلكه عام 1926 اصرت على كتابة آخر رسالة له بعد وفاته.
اما مجموعة المراسلات بين تسفيتاييفا وباسترناك فلقد كانت بحوزة ابنة الشاعرة (اريادنا ايفرون) على شكل كدس من الرسائل في حين كانت رسائل تسفيتاييفا الموجهة الى باسترناك بحوزة عائلة الشاعر اضافة الى مراسلات هذا الاخير مع والده. ولقد اتفق الطرفان على اصدار كتاب واحد يضم مجمل تلك الرسائل بالكامل ونشرت نهاية عام 2004 وترجمت هذا العام الى الفرنسية عن اللغة الروسية وعلى الرغم من ضياع بعض بواكير المراسلات وبعض الرسائل المتأخرة الا ان مذكرات ومسودات رسائل تسفيتاييفا استطاعت سد الثغرات في هذا المجال.
يبقى ان نقول، ان تسفيتاييفا كانت قد وضعت الصداقة الخالصة بمكانة اعلى من مكانة الحب لذلك قالت لباسترناك في احدى رسائلها: (ان الصداقة الحقيقية اكثر سموا واعلى مرتبة من الحب، فالصداقة، ببسيط العبارة هي خط عمودي، اما الحب فهو مجرد خط افقي، لذلك انا مولعة بالمراسلة، فالرسائل بالنسبة لي تعني دائما شيئا كبيرا اكثر من مجرد رسائل انها حياتي).
لقد كان الشاعر الالماني رينر ماريا ريلكه وهو يقرأ اشعار مارينا تسفيتاييفا يشعر بان كلماتها تذوب فوقه وتتملكه تماما كالسحر حتى وصل به الامر ليقول في احدى رسائله: (ما الذي يمكن ان انتظره منك يا ريلكه؟ لا شيء على الإطلاق).

عن litteraire الفرنسية