العكّاز الأخير.. سيميائية الحرب وتمظهراتها  ضمن بنية النصّ القصصي

العكّاز الأخير.. سيميائية الحرب وتمظهراتها ضمن بنية النصّ القصصي

إياد خضير
إذا كانت الرواية من الأجناس السردية الأكبر حجماً من ناحية تعدد الأحداث والشخصيات وتنوع الفضاء المكاني والزمني فالقصة القصيرة هي في بنيتها الوظيفية تعتمد على الحدث الواحد وتطوره وتناميه من خلال البداية صعوداُ نحو الوسط ونزولاً إلى النهاية المغلقة أو المفتوحة بترابط عضوي ووحدة موضوعية بين أجزاء الحدث في مراحله بتكثيف وإيجاز لغوي ودور فاعل للكلمة ضمن التراكيب اللغوية

الذي تكون ضمن دلالته لتؤدي إلى تنمية الحدث من حيث الدلالة والإيحاء وإن تعدّدت منهجية القصة القصيرة واختلفت أساليبها لكن تبقى العناصر الأساسية قواعد مشتركة في جميع أنواع القص كهوية تمييزية لهذا الجنس السردي فكما يركز بعض كتاب القصة على عنصر الحادثة والبعض الآخر على الشخصية نجد كتاباً يجمعون بين العنصرين وهذا نجده في تجربة الروائي والقاص محمد علوان وتحديداً في المجموعة القصصية (العكاز الأخير):
(- سيدتي.. أنا صديقه.
قالها بخجل وهو يقف بقامته المتوسطة بمحاذاة الباب الذي فتحه إلى النصف، وأنا أتابع بقايا ابتسامة مزروعة على شفتيه وهو يطلب مني أن أمنحه الساق الصناعية، أن أعطيه الطرف الصناعي لزوجي الذي أمضى سنوات طويلة وهو يتعكز عليه بعد أن فقد ساقه في الحرب...) قصة تراتيل العكاز الأخير ص 21
لقد احتوت هذه المجموعة من ثراء في تجربة القاص فعلى اختلافات القصص من حيث النوع لكنها في مجملها تترابط في مشتركات مضمونية تشكل بؤر مركزية لتكون المجموعة في مجملها مرتبطة بوحدة موضوعية كما نجد هذا في جداريات النحت المتكونة من وحدات نحتية متعددة ومتباعدة من حيث الطرح والشكل لكنها مشتركة في بؤرة تعبيرية مركزية تؤلف قيمة كلية وتدور في فلكها معاني جزئية تضفي قيم متعددة ومستويات متنوعة للقيمة الكلية وجدارية جواد سليم خير شاهد على ذلك وهذا لا يتأتى بسهولة أو تجربة سطحية بل يكون ناتجاً إبداعياً من خلال تراكم كمي ونوعي لتجربة إبداعية معرفية وخير دليل على ما تقدم تمظهر ثيمة الحرب بسيميائيتها المتوهجة :
(ضحكنا مرّة أخرى من كلمة الحرب... وتساءلنا...
"ماذا يريدنا أن نفعل بالمجارف والمعاول، هل يريد أن يدفن شيئاً.. أم أن الأمر له علاقة بالأناشيد التي كنا نسمعها من المذياع في سيارة الكوستر التي أوصلتنا إلى هذا المكان..؟"
قال أحدنا.. إنها الحرب.. قلنا أيّ حرب..؟
ومن يومها استلمنا المعاول والمجارف والبنادق.. لكن حينما حلت الحرب التي غطتنا كغيمة سوداء، تساقطنا واحداً تلو الآخر) حفارو الخنادق ص 8
لقد كانت لثيمة الحرب في غالبية المجموعة تداعياتها النفسية والاجتماعية وتجلياتها على حاضر ومستقبل شخصيات القصص فالحرب في هذه المجموعة وما فيها من دلالات ومرجعية ذاكرة جمعية مشتركة بين القاص والقارئ تجعل القارئ منصهراً ومتفاعلاً مع جميع القصص بل ومنتجاً لفضاءات دلالية أخرى بحسب نوع تجربته مع هذه الحقبة الزمنية وماذا أنتجت بعد انتهائها في الزمن الفيزيائي: ((تفتح هذه الطريقة في تصور المسترسل المجال لمسألة ذات بعد ميتافيزيقي.. وهب مسألة المدلول الحسي الإدراكي والظاهراتي ومدلول التجربة...)) * 1 لكنّها بقيت مستمرة في آثارها في الحاضر والمستقبل بل وفاعلة في خلق بعض معطيات الحاضر الذي هو متماهي فلسفياً مع الماضي وتؤثر في صياغة المستقبل كما في قصة (تراتيل العكاز الأخير) أو في قصة (صهيل العربة الفارغة) وغيرها من القصص فلقد كانت الحرب تتمظهر تجلياتها في حاضر الشخصيات وتكون بعض أفعال الشخصيات نواتج عن آثارها وما تركته في ذوات الشخصيات:
(خريجون مرّة أخرى، ماذا أصنع بالخريجين، والحرب على وشك أن تقوم!!
ضحكَ أغلبنا من كلمة الحرب
"أيُّ حرب يعني هذا الأمر المقصود؟!") قصة حفارو الخنادق ص 7
("حبيبتي... لا شيء أقسى من الحرب"بعد كلمة لم أستطع أن أقرأها قرأت...
أكاد أسمع نبضات قلبك.. أحسكِ أقربُ إليَّ من وحشة الجبل، المرارات كلها تجتمع هنا، هم يقصفون، ونحن نقصف.. هكذا إلى ما لا نهاية.......
الانتظار في الحرب يسبب رعباً أكثر من الحرب ذاتها...) قصة ضوء أزرق ص 14
(منذ خروجه من البيت حتى ولوجه بوابة المحطة محملاً بحقيبة المسافر إلى الحرب، الحقيبة التي كانت ترصّها أمه بملابسه والكثير من الطعام...) صهيل العربة الفارغة ص 30
بعد هذا حريٌّ بنا ضمن قراءتنا النقدية الانتاجية الفاعلة أن نتصدى لوظيفة الوصف الذي أثث القاص فيه تفاصيل المكان ضمن الزمن الردي فقد برع القاص محمد علوان رصد أدق التفاصيل المكانية والشخصانية والنفسية، وان يكون للوصف وظيفة رمزية دالة على معنى معين في إطار سياق الحكي وقد يكون للوصف وظيفة جمالية فيقوم في هذه الحالة بعمل تزييني وهو يشكل استراحة وق وسط الأحداث السردية ويكون وصفاً خالصاً لا ضرورة له بالنسبة لدلالة الحكي.. لكن مع مستويات الوصف وثرائها في هذه المجموعة جعل القاص وظيفة الوصف متناغمة مع وظيفة السرد والحوار وغير متناشز معها فكانت عين الكاميرا"زاوية النظر"متعددة الجوانب والآليات:
(في منحدرِ الجبل أمامي حيث أقف، أضع المنظار، مراقباً الممرات الوعرة، أقرّب عدسة المنظار، حيث صخرة غريبة بلون أزرق داكن على هيئة امرأة، صخرة مكورة تظهر عري امرأة حقيقية..) ضوء أزرق ص 14
(ظلام الحفر التي شكّلت خطوطاً متوازية بدت دامسة وعميقة لولا إطلالة قمر أحالها إلى أشكال لرجال يقفون قريباً من الجسر.. وحوّل السماء إلى لطخة من الضوء بدأت بالاتساع ببطء) جسر الملائكة ص 92
(تمدد على فراشه وهو يحسّ أنّ جسده تخشّب من التعب وصدره يضيق بفعل تدخين عشرات السكائر التي أحرقها طوال اليوم منذ سماعه خبر موت صديقه...) مطر بلون الرثاء ص 95
إن المشاهد التي رسمها لنا القاص محمد علوان كانت إحالة إلى عوالم مترامية في امتدادها الزمني مما جعلها متوهجة بدوالها وشاسعة بإيحاءاتها، مما يجذب القارئ الواعي إلى الحقل المغناطيسي لعوالم القصص فيتماهى في استغراقه مع تفاصيل المكان الذي كان القاص يرسمه برؤية فائقة الدقة ويتفاعل مع شخصيات القصة المركزية والهامشية (اذا كان السرد يشكل الحركة الزمنية في الحكي، فأن الوصف هو اداة تشكيل صورة المكان)* 2 كما يتجلى في قصة"حفارو الخنادق"، فالموت المجاني لشباب افنوا العمر في الدراسة وتخرجوا حاملين شهاداتهم ثم سيقوا إلى الخدمة العسكريه، يتحكم بهم شخص برتبة عريف لا يحمل شهادة ابتدائية يأمرهم بحمل المعاول والمجارف وحفر الخنادق وهم مستغربون عندما يسمعوا منه كلمه حرب:
(لكن حينما حلت الحرب التي غطتنا كغيمة سوداء، تسقطنا واحد تلو الاخر ولم تنفع كل الحفر التي خفرناها بالمعاول والجارف.. اذ اخترقتنا شظاياها بلا رحمة..)ص8
كما أن القاص قد أعطى صفات إنسانية من خلال الوصف لبعض عناصر الطبيعة الجامدة بما يعرف بـ (أنسنة الأشياء) فالجبل يتألم ويئن ويريد أن يقفز إلى السماء فلقد أضاف إلى الجبل هذه الأشياء التي هي من خصائص الانسان فكانت صورة متوهجة ومكثفة المعاني:
(المدفعية التي كانت تنقر خاصرة الجبل مروحة يومها أحسست ان الجبل يئن بل يريد ان يقفز الى السماء احتجاجاً على موته او موتنا الذي كان وشيكاً) ص12
(بقيت صورة المرأة الصخرية تنظر إلى الجانب الآخر حيث العدو...."بماذا تفكرين الآن وبماذا تفكر المرأة الزرقاء على الطريق الصاعدة إلى القمة وهي تدير رأسها بيننا وبينهم أحياناً أكاد أسمع همسها في أذني وهي تحدثني بألم"إن الحرب بدأت توجع خاصرتي") ص14
لقد تجلى النسيج الوصفي من خلال القاموس اللغوي لدى القاص محمد علوان فكانت تراكيبه اللغوية مختزلة مكثفة الدلالة حيناً وحيناً مسترسلة حسب مقتضيات الضرورة التعبيرية وكان لأسلوبية القاصة من حيث استعاراته البلاغية أو تشبيهاته أو كناياته في إطار المجاز البلاغي أثر فاعل في توهج المشاهد التي يصفها بأسلوب بلاغي حيناً وبأسلوب مباشر في أحيان أخرى وفق توازن يعكس حصافة رؤيته الفنية وما يترك أثراً أكبر في المتلقي، فنجد في بعض التراكيب اقتراب اللغة السردية من الشعرية النثرية والتي من شأنها إيقاد وهج دلالي يغري القارئ بلذة جمالية، وجذب إيحائي يشكل من خلاله مكامن النص الموازي وغير المرئي إضافة إلى الإزاحة في عنونات قصصه (تراتيل العكاز الأخير / صهيل العربة الفارغة / مطر بلون الرثاء) فالبناء اللغوي ونحته دلالياً لم يكن من عفو الخاطر أو لمجرد الحشو بل كان رافداً إغنائياً لوجودانية البنية السردية، فكانت الشعرية في بعض التراكيب ذات طاقة تعبيرية هائلة أغنت مساحات السرد المباشر، وهذا ما نراه في الكلمات المركزية التي كانت ذات سيميائية عالية من حيث الوهج والدفق الدلالي الذي تبثه كموجات في فضاءات التأمل القرائي:
(ما به...؟ حزنه الذي يخفيه تحت خرائط وجهه.. تلك الخرائط التي حفرها حزن كبير وغامض،..) ص 23
(قريباً من الفجر الذي رأيت خيمته الرصاصية تشقُّ الظلمات الأفق من خلال النافذة المطلة على حيوات مدينة امتدت بسعة لا متناهية، بدأت أسمع مزامير سيارات تشق الشوارع القريبة من المستشفى..) ص90
(هل تتظاهرين كما تفعل المرأة الصخرية بالنوم الآن، ها أنا أختلس النظر إليك عبر المنظار، المرأة المزروعة وسط الجبل تفكّ دبوس شعرها وتنثره على ظهرها..) ص 15
لقد كان القاموس اللغوي للقاص محمد علوان إثرائياً من محايثة المفردات التي يختارها ضمن بنية التراكيب النحوية لتكون لهذه الكلمات المركزية وظيفة دلالية تحيل إلى مستويات متعددة في تجذر المعنى وإضفاء دلالات جديدة من خلال تفجير الطاقة الكامنة لبعض المفردات المركزية كـ (الحرب / الجبل / الطرف الصناعي / العربة الفارغة / جسر الملائكة / المطر... إلخ) فلقد كان لهذه الكلمات ضمن النسيج القصصي المحبوك بحذاقة وحصافة توهج متدفق بالدلالات التي ترتبط برؤية القاص وليس فقط بما تعنيه في المعاجم:
(كنت مضرجاً بدمائك ورأيت قربك رجلاً يحمل رشّاشاً رمادياً، لم يتسنَ لي أن أرى وجهه / وأنت بملابسك العسكرية.. ووجهك الوديع وبقايا ابتسامة متخشبة عليه) ص84/85
(لكنّي بعد ثلاثة أيام حملت الساق الصناعية بعد أن لففتها بالشرشف الأبيض... وتحت شجرة تضج بأصوات هديل حمامات بيض يحلقن قريباً من رجال بأطراف صناعية...) ص 25
(لم تمضِ هذه الليلة بيسر على أحد بدءاً من الملائكة التي كانت تحوم قريباً من الجسر، تقترب وتبتعد من الحديقة المنطفئة المحاذية لساقية (القناة)، لكن ملكين بجناحين هائلين أنفصلا عن الآخرين... شكّلا نفطتين بيضاويين على رماد الحديقة) ص 88
كل هذا كان يتمظهر من خلال المفارقة السردية التي تمكن القاص محمد علون من خلال ثراء تجربته وغنى لغته أنى يديرها بحصافة وفطنة وهذه المفارقة هي التي يمكنها أن تعود إلى الماضي أو إلى المستقبل وتكون قريبة أو بعيدة عن لحظة الحاضر أي عن لحظة القصة التي يتوقف فيها السرد من أجل أن يفسح المكان لتلك المفارقة إننا نسمي مدى المفارقة هذه المسافة الزمنية ويمكن للمفارقة أن تطول أو تقصر وهذه المدة هي ما نسميه اتساع المفارقة *2 جيرار جنيت.
(ما الضير في ان يقودك الطرف الى بيتي كل يوم!! لأنه سرعان ما فتح الباب واختفى في الظلام)ص28
لقد أدت المفارقة السردية إلى حالة ترقب وتشويق وهي الوظيفة الجمالية وكما يقول الدكتور قاسم المقداد لان القاص يقدم لنا من خلالها صفحة جميلة على الملفوظ الوصفي أيضاً، و أن يكون خادماً لنص أطول وبالتالي عليه أن يكون جزءاً من الدراما ويندمج فيها وهي ما نسميه الوظيفة الدرامية يتيح الفرصة للانتقال من مشاهدة عمل إلى ممارسة عمل مطابق او مماثل له..*3 .
(قال له أبوه.. لا تخف سيطفئون الاضواء وترى السينما بعينيك.. ها هي السينما أمامك.. رأى وسط الظلمة رجالا يركبون جيادا عالية بمهارة فائقة وهم يحملون مسدسات يشدونها وسط أحزمة مليئة بالطلقات المختلفة الاحجام والالوان، مسدسات يحركونها ويخرجونها بمهارة، كم حاول ان يقلدهم فيما بعد , يركب خشبة قصيرة ويبدأ بالركض والدوران، ويخرج خشبة صغيرة آخرى يثبتها في تكة لباسه..) ص41
إن المجموعة القصصية"العكاز الاخير"من خلال قراءتنا التأويلية المنتجة لها اكتشفنا فيها الكثير من الفضاءات الدالة الموحية من خلال الشكل المعماري للقصة والبنى المركزية التي تشع في ثنايا النص السردي بإيحاءاتها وأيضاُ من حيث اسلوبها السلس وقراءتها الممتعة بلذة جمالية فهي تشد القارئ إلى أحداثها وتجعله في حالة ترقب دائم وفي وضع ذهني ممتع من التأهب للمفاجآت في تطور الأحداث، الحديث عن الحرب محزن لكن ينقلنا القاص بأسلوبه المفرط بالواقعية إلى درجة ملفته للنظر.. إذ يغوص في صور المجتمع العراقي وعذاباته في الحرب والحالة والاقتصادية والصحية والنفسية المحطمه كلّها صور حقيقية واقعية مرَّ بها المواطن العراقي في حقبة من الزمن..
يذكر أن المجموعة القصصية صادره عن دار عدنان للطباعة والنشر 104 صفحة بالحجم المتوسط


هوامش /

1- السيميائية وفلسفة اللغة، أمبرتو إيكو، ص 142
2- بنية النص السردي، الدكتور حميد الحمداني ص80
3 جيرار جنيت بنية النص السردي ص75
4- عوالم تخيلية، الدكتور قاسم المقداد ص 67