تقلبات السنين العنيفة على الريف الصيني القديم في الأرض الطيبة للروائية الأميركية بيرل باك

تقلبات السنين العنيفة على الريف الصيني القديم في الأرض الطيبة للروائية الأميركية بيرل باك

وليد بركسيه
أبدى بعض القراء و الأصدقاء استغرابهم الشديد من إيرادي رواية الأرض الطيبة للكاتبة الأميركية بيرل باك (Pearl S. Buck) في قائمتي الخاصة بأفضل عشر تحف فنية روائية عبر التاريخ، وتجاهلي لأسماء كبيرة ومشهورة جداً في عالم الأدب كنيكوس كازنتزاكيس، تيودور ديتسويفيسكي، ليو تولستوي، إرنست همنغواي وغيرهم الكثير.

ربما يعود ذلك بالدرجة الأولى إلى عدم معرفتهم بالرواية أساسا ً و عدم انتشار اسم صاحبتها في عالمنا العربي على غرار الأسماء الكلاسيكية الأخرى , رغم أنها من أشهر الكاتبات الأميركيات و أكثرهن غرابة و فرادة , إضافة لتصدر الأرض الطيبة نفسها المبيعات في الولايات المتحدة لعامين متتالين (1931 و 1932) إثر صدورها الأول وحصولها على جائزة بوليتزر الشهيرة عام 1932 قبل أن تصبح العامل الحاسم في نيل صاحبتها لجائزة نوبل للآداب عام 1938، وعودتها إلى المراتب الأولى في المبيعات عام 2004 بعد أن أوردتها المذيعة الأميركية الشهيرة أوبرا وينفري في قائمتها المختارة لأفضل الكتب الأميركية.
تدور أحداث الرواية في الريف الصيني ما قبل الحرب العالمية الثانية , و تغطي ما يقارب خمسين عاماً من حياة الفلاح وانغ – لانغ بدءاً من يوم زفافه و حتى بلوغه من العمر عتيا ً وسط المجد و الثروة , مرورا ً بالعديد من التقلبات المثيرة في رحلة الصعود نحو قمة المجتمع المحلي و أخذ العز من أسرة هوانغ العريقة التي تكرمت عليه في شبابه و زوجته جارية قبيحة من المطبخ (أولان) , و التي تصبح فيما بعد العامل الأساسي في دفعه نحو الثراء بفضل تدبيرها و نظرتها الواقعية للحياة.
يعاني وانغ – لانغ كثيراً من الصعاب في مسيرة حياته، الفقر المقدع للفلاح الصيني صاحب الأرض المحدودة، غضب السماء و المجاعة الكبرى التي تضرب البلاد، الهجرة إلى مدينة في الجنوب حيث الإشراف مع عائلته على الموت جوعا و بردا، اقترابه من بيع بنته جارية لأحد التجار الأثرياء وإصابتها بالهبل نتيجة الظروف القاسية وقتل زوجته لبنته التي تلدها في المدينة لعدم كفاية الموارد الغذائية قبل أن تدفعه الجموع البشرية في لحظة من الانفلات الأمني إلى سرقة أحد الأثرياء و العودة إلى أرضه الغالية وتحوله إلى مالك كبير للأراضي في الريف وتزعمه المجتمع المحلي الضيق الذي يحيا فيه،وعندما تمتد به السنون يموت الجميع من حوله ويصبح زاهداً نوعاً ما في الحياة حتى من عشيقته لوتس التي فطر بها قلب زوجته المخلصة أولان , و تقض المشاجرات العائلية بين الأبناء ظهره، ويبقى تعلقه بالأرض الطيبة أبديا ً فلا يلقى الراحة والسلام إلا مع مسكه التراب بيديه، ليسمع في نهاية الرواية النية السرية لأبنائه المتعلمين المترفين ببيع الأرض والركون للعمل التجاري.
تحفل الرواية بالشخصيات النابضة بالحياة وبرغم أن جميعها يدور في فلك وانغ – لانغ باعتباره الشخصية الأساسية في الرواية , إلا أن ذلك لم يشكل عائقاً أمام تطورات رائعة في البنى النفسية لباقي الشخصيات , فكل حدث في الماضي البعيد يرتسم مجدداً في المستقبل بمهارة بارعة من الكاتبة دون تناقضات نفسية أو تغييرات مفائجة لا معنى لها. ويبدو ذلك واضحا في ابن وانغ – لانغ الثالث الذي كان مقررا له البقاء أميا كي يعتني بالأرض بعد وفاة وانغ , لكن روحه المتمردة وغيرته من أخويه الأكبرين تقوده للثورة على هذا الواقع و الالتحاق بسلك التعليم , قبل أن ينتكس عاطفيا عندما يستولي والده العجوز على الجارية الرقيقة التي يميل لها قلبه , فيهرب من المنزل وينضم للثورة الصينية ويصبح ضابطاً مرموقا في إحدى مدن الجنوب البعيدة.
من جهة أخرى ترسم بيرل باك ملامح الريف الصيني بإتقان مذهل يشعر القارئ معه أنه يحيا في الأرض و يشتم رائحتها بعد هطول المطر الغزير في الشتاء , سامعا ً صوت الجراد الذي يجتاح المنطقة بعنف في أحد السنوات , بل و يشعر بخشونة جسد أولان عندما يمارس وانغ – لانغ معها الجنس في شبابه , و يحس بالنار تشتعل في قلبها المكسور عندما يحضر وانغ زوجته الجديدة لوتس من دار البغي في مشرب الشاي الجديد في البلدة.
ما يلفت الأنظار في الرواية أيضا هو الغنى في التفاصيل الصغيرة فكل شخصية تتميز بالعديد من المميزات الخاصة بها وحدها من دون غيرها، البنت البلهاء الصغيرة تمضي حياتها بالكامل في الشمس وهي تلعب بقطعة صغيرة من القماش مبتسمة لأبيها الحنون فقط، وعم وانغ – لانغ العجوز الكسول المتطفل لا يربط ثيابه حول جسده بإحكام مطلقا حتى عندما يرفو بثياب الحرير في أيام العز , بينما ابنه الشهواني صاحب المشاكل الكثيرة فيلاحق الجواري دائما بنظراته الشبقة و ايتسامته الوقحة , أما أولان المخلصة فقليلة الكلام و بطيئة في نطق الحروف وتستغرق وقتا كي تستوعب ما يدور حولها بادئ الأمر حتى وفاتها التراجيدية وهي أنثى مهجورة مكسورة الفؤاد.
في سياق متصل لا يمكن اتهام الرواية بالسطحية والعمومية أبدا فهي تعالج عددا كبيرا من القضايا المهمة في إطار القصة , بدءاً بالحياة الفلاحية والفروق الطبقية وانتهاءً بالشبق الجنسي وتطور مراحله من الشباب حتى الكهولة مرورا بحقوق المرأة والحب والوفاء والإخلاص والحرب والثورة والعلاقة مع الآلهة. وأذكر هنا مقطعا رائعا عندما يعلم وانغ – لانغ من ابنه الأصغر أن الحرب قادمة وأن العدو على مشارف المدينة , فيقول وانغ أنه سمع طوال حياته مثل هذا الكلام لكنه لا يدري من هو هذا العدو الهمجي الذي طالما اشتبك معهم , فيقول الابن أن الحرب هذه المرة مختلفة أنها من أجل الحرية , فيزداد وانغ – لانغ حيرة باعتباره يذهب إلى أرضه كل يوم بحرية و يمشي فيها من دون قيود ويحيا من خيرها , ولا يرى عبودية في كل ما حوله معتبرا العدو هو الجفاف الذي يصيبه من فترة لأخرى أو الفيضانات والجراد ليضحك أولاده من سذاجته رغم أنه محق لدرجة كبيرة بذلك الوعي البسيط الذي يبدو حقيقيا لدرجة مؤلمة عند التفكير به بعمق.
على صعيد آخر يبدو غريبا جدا أن تختار كاتبة أميركية الريف الصيني القديم مكانا لأحداث روايتها , لكن ذلك يغدو منطقيا في حالة بيرل باك التي قضت جلَّ حياتها وطفولتها في الصين باعتبار والديها من المبشرين المسيحيين الذين ذهبوا إلى هناك مؤمنين بالحب والسلام بين الشعوب لتقع بيرل باك في حب تلك البقعة الفريدة من العالم و تكون نفسها الروائية هناك وتكتب طوال حياتها عن الصين الحبيبة التي حرمت من العودة إليها بعد انتصار الشيوعية في ذلك البلد.
الأرض الطيبة رواية مذهلة و مختلفة , ملئية بالمشاعر الإنسانية المتضاربة , صراع الإنسان مع الطبيعة وصراعه مع ذاته للحفاظ على شرفه وكرامته علاقات الحب و الكراهية و الغيرة , و مزيج السنين الطويلة و تقلبات الحياة , كلها عوامل تسمو بقيمة الرواية و تجعلها من أفضل ما قرأت في حياتي دون أن يصيبني أي ملل من تكرار قراءتها مرارا و تكرارا من حين لآخر.
جدير بالذكر أن الرواية من إصدار عام 1931 و تعتبر من أنجح الروايات و أكثرها شعبية على الإطلاق , و هي الأولى في ثلاثية بيرل باك الشهيرة , حيث أتبعتها عام 1933 برواية الأبناء Sons لتختم القصة عام 1935 بـ A house divided , و تتربع على عرش المجد و النبوغ الأدبي حتى هذا اليوم و هذه اللحظة.

عن جريدة الغد الاردنية