لماذا عاش الرصافي بعد موته؟ .. ولماذا يموت الأحياء من الشعراء؟

لماذا عاش الرصافي بعد موته؟ .. ولماذا يموت الأحياء من الشعراء؟

جليل العطية
للشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري، نثر جميل قد لا يرقى إلى مستوى شعره، ولكنه نثر فتان حاد، ألهب كثيراً من المعارك الأدبية والاجتماعية على صفحات الجرائد العراقية في الأربعينيات والخمسينيات. وكانت مقالاته النارية سبباً في تعطيل وسحب أجازات بعض هذه الصحف آنذاك. إلا أن القارئ لا يكاد يعرف من نثر الجواهري إلا نماذج قليلة تأتي في مقدمتها قطعته الشهيرة «على قارعة الطريق» التي ضمها ديوانه.

أما سائر مقالاته ونتفه النثرية فلم يضمها كتاب، بل ظلت مبعثرة في بطون الصحف والمجلات العراقية، والرسائل الشخصية التي كتبها إلى أصدقائه وخلصائه.
من هنا ننشر اليوم واحدة من مقالاته المجهولة التي نشرها في مثل هذا اليوم قبل ستة وأربعين عاماً في تحية أستاذه الرصافي، مع مقدمة تتناول صلة الجواهري بالرصافي، وطبيعة الوضع السياسي والاجتماعي في العراق صبيحة نشرها.
عندما بدأ الجواهري يقرض الشعر أثناء الحرب العالمية الأولى (14-1918) كان معروف بن عبدالغني الرصافي من ألمع شعراء العراق والوطن العربي.
وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1923 أصدر الرصافي جريدة يومية سياسية باسم «الأمل» اقتداء بجميل صدقي الزهاوي الذي كان قد أصدر قبله صحيفة باسم «الأصابة».
كان الجواهري لا يزال يقيم في مدينته النجف، يتابع الحركة الأدبية والشعرية. وعندما اطلع على «الأمل» أعجبته، ووجدها فرصة ليعبّر عن إعجابه بالرصافي، فأرسل قصيدة عنوانها «صوت من النجف» وشحها بتوقيع «نجفي معروف» نشرتها «الأمل» في عددها الثاني والعشرين مطلعها:
أنابغة الشعب الذي دون حقه
تدافع يسراه ويحـــــمي يمينه
وبعدما أنتقل الجواهري إلى بغداد التقى الرصافي في مقهى «عارف أغا» في شارع الرشيد المرة الأولى، ثم تعددت اللقاءات بينهما أثناء عمله في البلاط الملكي (27-1930) داخله وخارجه.كان الجواهري يعتبر الرصافي شاعره الذي يقتدي به في مضامير الوطنية والحرية والإباء والاعتداد بالنفس والالتزام بالقضايا الوطنية والقومية والوقوف إلى جانب الجياع والمحرومين.
وتجسد اهتمام الرصافي بالجواهري في القصيدة التي نظمها وأهداها إليه ومطلعها:
أقول لرب الشعر «مهدي الجواهري»
إلى كم تناغي بالقوافي الســـــــــواحرِ
قال مير بصري في كتابه «إعلام الأدب في العراق الحديث» بعد أن أورد عدة أبيات منها:
ثم ناغاه الجواهري فهزَّ – كما قال – الأسد الرابض، الضائق ذرعاً بعرينه، المنطوي على نفسه ألماً وغضباً وكبرياء، فزار الأسد «الرصافي» وقال في معرض الجواب:
بِك الشعر لا بي أصبح اليوم زاهرا
وقد كنت قبل اليوم مثلــك شــــاعرا
ثم أضاف: تذكرنا هذه المطارحة الشعرية بين معروف الرصافي والجواهري بالمراسلة الشعرية التي جرت في أواخر القرن الماضي بين الشاعر المنفي الشيخ محمود سامي البارودي والشاعر اللبناني الشاب شكيب ارسلان وقد نشرتها مجلة «الزهور» المصرية في مختاراتها.

وفاة الرصافي
وفي السادس عشر من مارس (آذار) سنة 1945 توفي الرصافي فكان الجواهري ممن حضروا جنازته التي حملت إلى مقبرة (الأعظمية)، وقد تمنطق بعقال الرصافي الذي حمل مع ثوبه وعباءته فوق النعش، وبكاه بكلمة بليغة، مؤثرة، وليس شعراً. وقرر عدد من الأدباء والساسة العراقيين إقامة حفل تأبين للرصافي بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته، واختير الجواهري نفسه رئيساً للجنة الاحتفال، غير ان الحكومة العراقية منعت الحفل بسبب موقف الرصافي المؤيد لحركة 1941 المعروفة بحركة رشيد عالي الكيلاني المناوئة للإنجليز.
ولقد أتهم سليم طه التكريتي الجواهري في كتابه عنه (لندن-1989) بأنه كان يحقد على الرصافي وزعم أن «القصائد التي قالها بعد سنة 1951 في الرصافي لم تكن كاملة، لأنها كانت تنظم لأغراض وبواعث أنية، ولم تكن نابعة من صميم فؤاده، وصدق مشاعره».
وبتأييد رأيه يستشهد بقصيدته التي نشرها في الذكرى الخامسة لوفاة الرصافي، ذات المطلع:
لاقيت ربك بالضمير
وأنرت داجية القبور
فقد كانت، غير كاملة وغير مستوفية لما يجب أن يقال في الرصافي، ولم يكملها إلا في مارس (آذار) 1959 وبعد الإطاحة بالملكية.
إن المقالة الجواهرية التي ننشرها اليوم ترد على اتهام «التكريتي» وسواه من خصوم أبي الفرات الجواهري.

مفاوضات النفط
وقبل أن نقدم نصها نسلط ضوءاً على الظرف السياسي الذي كان يعيشه العراق والعراقيون وأفرز هذه المقالة الصرخة.
في السادس عشر من سبتمبر (أيلول) 1950 شكل نوري السعيد «رجل العراق القوي» وزارته الحادية عشرة. وكان العمل الرئيسي للوزارة تعديل امتيازات النفط كانت هذه الامتيازات هي الأسس التي استثمر بموجبها النفط العراقي منذ بداية الإنتاج في الثلاثينيات. كانت مدة الامتيازات عموماً 75 سنة، وبعد الحرب العالمية الثانية تغيرت الظروف العالمية، وكان من مظاهر هذا التغيير إطلاق الحريات العامة وبضمنها تشكيل الأحزاب والمنظمات، وقد شددت الأحزاب على ضرورة تعديل الامتيازات الممنوحة لشركات النفط الأجنبية بشكل تزاد فيه حصة الحكومة العراقية، ويتسع مقدار الإنتاج من النفط.
وقامت حكومة السعيد بفتح باب المفاوضات مع شركات النفط، وفي هذه الفترة شهد الشرق الأوسط حدثاً مهماً هو تأميم النفط في إيران على يد حكومة مصدق (5مارس / أذار1951) وقد قوبل هذا الحدث بتأييد ومساندة القوى السياسية العراقية.
وفي 3 فبراير (شباط) 1952 أعلن السعيد التوقيع الرسمي لاتفاقية النفط في بغداد. لكن الأحزاب السياسية والاجتماعية رفضت الاتفاقية واستقال النواب المعارضون من المجلس النيابي احتجاجاً على الاتفاقية (في 1 فبراير / شباط) ووجهوا إلى الحكومة اتهامات بالوقوف إلى جانب الشركات التي تسلب ثروات الشعب الطبيعية.. في تلك الفترة كان الجواهري يرأس لجنة أنصار السلام التي شكلت في منتصف شهر يوليو (تموز) 1950 ونشطت في تأييد أحزاب المعارضة ومهاجمة السلطة.
كان الجواهري ضمن الشخصيات السياسية التي وقعت على مذكرة ترفض اتفاقية النفط. وقد عطلت السلطة جريدة الشاعر «الرأي العام» بسبب مواقفها الجريئة ضد السياسة السعيدية، فأستعار جريدة «الثبات» لصاحبها محمود شوكت ليواصل حملاته العنيفة. في هذه الفترة حلّت ذكرى وفاة الرصافي في الخامس عشر من مارس (آذار) فلم يكتف بتحية أستاذه في قصيدته الرائية الشهيرة.. بل كتب مقالة نشرتها «الثبات» في عددها الثاني والتسعين في 18 جمادى الثاني 1371 هجرية المصادف للاثنين السابع عشر من مارس (آذار) 1952م، عنوانها:
لماذا عاش الرصافي بعد موته؟
ولماذا يموت الأحياء من الشعراء؟
نشرتها الجريدة في صدر صفحتها الأولى موشحة بعبارة «بقلم الاستاذ محمد مهدي الجواهري» هذا نصها:
لماذا عاش «الرصافي» وسيعيش بعد موته؟
ولماذا مات وسيموت الكثيرون من الشعراء والأدباء في حياتهم! وفيهم من هو أبن «جيل» الرصافي وأبن بيئته، ومحيطه، وفيهم من تعاطى من فصول الشعر و"عناوينه" ما تعاطاه ونحا في «السياسة» و»العصريات» منحاه، وفيهم من أحسن الرصف ونمق في الأسلوب، وتمكن من «اللغة».
ولماذا عاش وسيعيش الرصافي وقد صدم بالمجتمع العراقي القاسي فقسا، وبحب الجمهور الجاهل والمتعصب في خرافاته المجدية عنده، المعللة لديه فأوجع، وبالغ في الجهر بما يعتقد! وفي الجهر بما يطبق من معتقداته هذه. وفي الجهر بما يحب ويكره.
ولماذا مات وسيموت الكثير من الشعراء أو ممن أحبوا أن يكونوا شعراء؟ أو ممن لا يزالون يغالطون ويخادعون بأنهم شعراء..! ممن عملوا ويعملون الآن وسيظلون عاملين حتى يموتوا.. أن يداروا المجتمع، وأن يتقبلوا بدعه وشيعه، وان يتزمتوا في مظاهرهم! ويتفلسفوا في «منطقهم» وأن يتقربوا من كل الطبقات! وأن يستميتوا في إرضاء «كل الناس»!.
لماذا يعيش الرصافي وقد أصر كثيراً وبالغ – بعض الأحيان – في الإصرار على أن يعرف الناس «عيوبه» ونقائصه ونقاط الضعف فيه، سواء ذلك في حياته الأدبية والشعرية.. من حيث الموضوع، ومن حيث الاستقامة.. ومن حيث الأسلوب والأداء.. وسواء في حياته الروحية أو المادية أو «الجسدية» الخاصة.
إن في الصميم من هذا السؤال نفسه في شتى ما ذكر من هذه النواحي، وفي شتى ما لم يذكر منها ليكمن الجواب، أي أن الرصافي عاش في حياته، وبعد موته، لأنه كان هو الرصافي نفسه في اليقظة والصحوة والشدة، والبيت والمقهى والفندق والبرلمان، لأنه كان الرصافي نفسه في الباطن، وفي الظاهر في الضمير واللسان، في النية وفي التطبيق.
لأنه لم يكن «منافقاً» ولا «مرائياً» ولا ذا وجهين أو أكثر ولا ذا لسانين أو أكثر.
لأنه لم يحاول وهو يرى ما يرى كرجل في القرن العشرين تقريباً.. من أمر البدع والشعوذات باسم الدين أن يرضي المبدعين والمشعوذين. ولأنه لم يرد وهو يرى الدجل والشعوذة في السياسة العربية عامة والعراقية خاصة أن يرضي بأسم الوطن عن السياسة هذه نفسها فلاناً من رجال الحكم، وأن يخاصم بأسم الوطن و»المعارضة» لهذه السياسة نفسها فلاناً. ولأنه لم يرد، وهو يخالط الحياة في صميمها خيرها وشرها، جدها وعبثها، أنسها ووحشيتها، جوهرها وزيفها، أن يلبس لبوس الشاعر «مهزار الديلمي» الذي يخيل له أنه ضم المجد كله من أطرافه!.
ولأنه قد وجد نفسه أبن مجتمع مختلف وجيل منسوب مختلط، وأوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية يسودها الوضر والدنس والعلل، كان يأبى أن يكذب نفسه والناس والتاريخ بأنه «أبن السماء» وليس أبن الأرض وهذه الأرض العراقية ذاتها ونفسها. لو كان الرصافي قد أباح لنفسه ما أباحه ذلك الرهط الغابر وهذا الرهط الحاضر من الأدباء والشعراء لكان اليوم «غابراً» مثلهم، وغامراً أيضاً في سجل التاريخ، وكان قد خسر هذا المجد المتكرر كلما تكررت ذكريات اليوم الذي توفي فيه. لقد كان الرصافي رجلاً لأنه كان طبيعياً، ولا أجد تعريفاً للرجولة ولا تعليلاً أحسن من هذا التعريف والتعليل، كان لا يبالي أبداً بمن غضب، ولا بمن رضي في ما يراه حقاً. وكان لا يقبل أبداً أن يدفع من ضميره، ولا من لسانه ثمناً لإشباع أنانيات الأفراد والهيئات، وكان يتقيد في ما لا بد من التقيد به من المجاملات المألوفة، وكان يحتقر ما يزيد عن هذا المألوف لديه، وكان يكتسب بذلك «كما يكتسب اليوم من هم على شاكلته» حقد الكثيرين من متزعمين ومتحزبين وسياسيين، وكان يمسه أذى كثير، وبؤس كثير، وألم كثير أيضاً من جراء ذلك.
كان الرصافي عظيماً لأن عظمته تعلن عن نفسها بنفسها. وكان أبرز ما في هذه العظمة أنها كانت تكشف بكل جرأة عن مواطن الخلل فيها.
وكان الرصافي زعيماً لأنه لم يرد أن يكون زعيماً!.
وكانت شخصيته الناضجة بالألم والطموح الصادقين مصدر شعره، وكان شعره بوصفه هذا حلقة الوصل بينه وبين الجماهير الناضجة نفسها هي بهذا الألم وتلك المطامح.
وكان الرصافي شريفاً لأنه لم يدع بانسباغ حلة (الشرف) عليه فضفاضة لا خروق فيها ولا رتوق!.
وكان الرصافي وطنياً وشعبياً لأنه كان صورة صادقة لوطنه ولشعبه في لسانه ومجلسه وسمره ومقهاه.
وكان الرصافي كل ذلك، وفوق ذلك لأنه كان كذلك.. وليس أنه أراد أن يكون.. أو يدعى.. أو قال أو نظم أو كتب.
لقد كان الرصافي هو الرصافي.. صاعداً ونازلاً.. مجيداً وغير مجيد، ثائراً ومسالماً.. ولهذا فهو خالد.
ولهذا أيضاً كان موته عبرة لكثير من «الأحياء»!.
من مختلف الأوصاف وليس من الأدباء وحدهم الذين يطنطنون وينقنقون.. ويدعون.
إن الرصافي الميت لحي وان هؤلاء الأحياء لميتون.