حامل الهوى.. صوت الراوي وخصائص البنى السردية

حامل الهوى.. صوت الراوي وخصائص البنى السردية

ناطق خلوصي
يؤدي بطل رواية أحمد خلف»حامل الهوى»وظيفة الراوي فيتولى مهمة سرد احداث الفصول الأربعة الأولى من فصول الرواية الخمسة، ثم ينسحب جانباً تاركاً المحال لزينب ــ الشخصية التي تليه في الأهمية ــ لتتولى مهمة سرد أحداث الفصل الخامس والأخير، وهو أطول الفصول وأكثرها أهميةً على ما نزعم. غير انه وبالرعم من انسحابه من مهمة السرد لايبتعد عن مجرى الأحداث

بل يظل في صميم هذه الأحداث، إذ ان ما تسرده زينب في الفصل الأخير إنما هو خطاب موجه إليه على وجه التحديد: خطاب مثقل بالألم والسى ومرارة العذاب.
ولاينفرد صوت الراوي/ البطل بالسرد في الفصول التي أشرنا إليها. فثمة أصوات أخرى، منها صوت زينب نفسها، تتداخل معه لبشكّل هذا التداخل خصيصة اسلوبية تستأثر بها الرلاواية، أصوات لكل منها دلالته ووقعه الخاص حتى أزيز الطائرة وصوت الشخير وفحيح اللهاث وصرير السرير، منها ما يتدفق عبر الحوار ومنها ما يخترق مجرى السرد على نحو ٍ مفاجىء من خلال الاسترجاع فيبدو مثل مقاطع اعتراضية قد يجدها القارىء مقحمة على السياق السردي وهي ليست كذلك.

يعمد أحمد خلف إلى تجزيء المشهد الروائي ويعرض أجزاءه على دفعات مما يقتضي أنيظل القارىء في حالة يقظة دائمة لكي يستطيع أن يلملم هذه الأجزاء إلى أن تكتمل صورة المشهد لديه. وقد يبدو الروائي، وفي البداية بشكل خاص، كأنه يحاكي ــ اسلوبياً ــ نمط الموروث الحكائي العربي ويسعى إلى إعادة الروح إلى مفردات خرجت من مجرى التداول، لكن السرد ما يلبث أن يستقيم على نسق يبتعد في جوهره عن هذا النمط ويستقل بخصائصه.
يتأسس المبنى السردي على مدخل يكشف عن قلق الراوي، وهو قلق بفصح عنه تساؤله الحائر»من لي بمرىء ٍ يعيرني سمعه ويحسن الإصغاء …. لا مفر من البحث عن صديق يسمع مني ما جرى وما حصل»(ص 7) و»أبثه لوعة الكلام وحيرته»(ص 8). ويخيّل لمن يقرا المقاطع الافتتاحية ان الروائي سينحو منحىً يحاكي المنحى التقليدي في السرد ويلتزم بتقاليده بما يضمن الحفاظ على وحدة الزمان والمكان، غير أن السرد ينعطف إلى مسار آخر فيتجاوز هذه الوحدة ويخرج على أطر التقليدية. فحيث كان صوت الراوي ينفرد في هذه المقاطع، يفاجئنا صوت الأم وهو يقتحم صوته متداخلاً مع صوت اسماعيل (الأخ) وصوت زوجة الأخ. ويخترق هذه الأصوات صوت الحرب:»لقد حامت الطائرات حولنا كالغربان وأصدرت أصواتاً كعواء الذئاب ساعة الهجوم على الفريسة»(ص 14) و»رأيت الطائر يحلق من جديد في فضاء مفتوح بغص بعددمن الغيوم الراكضة، كانت الطائرة جاءت وحلقت عالياً لتترك أزيزاً ودخاناً وراءها …. ورأيت الطائرة تهرب في سماء المدينة بعد أن واجهت كثافة النيران.»(ص 17)
ووسط تداخل هذه الأصوات، يرتفع صوت الدكتور نادر طبيب الأمراض النفسية وصديق مرحلة صبا الراوي والذي يبدو ان الراوي وجد فيه ضالته التي كان يبحث عنها في مفتتح الرواية مثلما وجد ملاذاً لديه:»اطمأن قلبي إلى أنني أصبحت في مأمن، بعيداً عن الذئاب المفترسة والكلاب السائبة»(ص 14). ويشي دخول صوت الطبيب النفساتي بُعداً سايكولوجياً سوف يسم المبنى السردي. وما نلبث أن نكتشف ان الراوي نفسه يعاني من حالة اختلال نفسي، أو هكذا يبدو لنا، وثمة إشارات تتنائر في مفاصل المبنى السردي تدل على ذلك. فالأم ترمي من يفترض انه ابنها بالجنون:»يكفي جنونك … وما حكاية الشخص الآخر الذي يسير معك ويتحدث إليك؟»(ص 15)، و»لقد عرفت قبلكم أي جنون عشش في رأسه المخبول. لا أحد كان يصدقني حين أصيح بكم انه يسمع أصواتاً تحدثه، وهو قال لي مرة، ولكنه لا يرى المتحدث غليه. ماذا تسمون رجلاً يتحدث طيلة اليوم مع أشخاص وهميين؟ أليس رجلاً مجنوناً؟ (ص 180). ويأتينا صوت الطبيب النفساني متسائلاً:»أما زلت تحب أن تكون وحيداً.. تقف منعزلاً عنا وتقرض الشعر؟ لم نكن نفهم ما تقرأ من أشعار»(ص 14). بل اننا نسمع صوت الراوي نفسه:»كان الشخص الآخر قد طرق عليّ وحدتي، الشخص الذي يحدثني. أسمعه ولا أراه، ويلح عليّ، ويلح على خاطري ويثقل عليّ وحدتي»(ص 76) و»»سمعت قريني. في تلك اللحظة التي أطلقت عليها بالمشؤومة مع نفسي، يطرق الباب الزجاجي طرقات خفيفة ويمد رأسه ليحدق بي»(ص 150). ويتطفل صوت ابن عمه طاهر بتساؤل فج، ساخر:»هل صحيح انك تمشي ومعك شخص يكلمك ولا تراه؟»(ص 25).
إن في هذه الإشارات اللفظية ما يوحي بأن الراوي يشكو من انشطار في شخصيته ويسوق الراوي سبباً لتعليل ذلك. فقد ظهر بطله وكأنه ضحية من ضحايا الحرب التي كانت وراء الإختلال النفسي التي كان يعاني منها»فالضربة الموجعة في الرأس من شظية تائهة لطمت المؤخرة وجعلت الدوار الثقيل يصيبني منذ وعيت ما جرى وفتحت عينيّ داخل ردهة المستشفى»(ص 51). ثم يعود فيقدم ما يبدو سبباً آخر يرتبط بحادث السيارة الذي تعرض له في تلك الليلة التي أصر الدكتور نادر على أن يأخذه إلى الديوانية انتقاماً منه لكي يرى مريم، الشخصية التي دخلت إلى مجرى السرد على نحو ٍ مباغت، وقاد سيارته تحت سطوة جنون الغضب فارتطمت بحيوان خطف أمامها كالبرق، وقد جاء في التقرير الطبي عن الراوي»عثر عليه ملقىً في التراب فجراً وهو في أعلى درجات الهذيان ويُعتقد ان ما يعانيه هو شكل من أشكال الاضطهاد أو نقص شديد في العاطفة، يفضّل نقله إلى ردهة خاصة بأمراض العصاب شأن الآخرين من أمثاله هذه الأيام»(ص 183) بأن حالته النفسية ربما ترتبط بطبيعة الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتدهور الذي يعاني منه مَن هم على شاكلته، وبالتالي فإننا لا نميل إلى الاعتقاد بأن الشظية التي أصابت رأسه وما حصل له ليلة حادث السيارة، كان وراء تلك الحالة. إن الربط بين الخاص والعام هو من خصائص المبنى السردي هذا ولكن هذا الربط لا يتم بشكل مباشر وإنما يتم استخلاصه استنتاجاً. لقد كان حجم الضغوط النفسية على البطل كبيراً لعل في مقدمتها معاناته من العطالة وإحساسه بالحرمان من الحنان وتخلي حبيبته عنه»أنا لا حبيبة لي أقطف ثمار حبها ورعايتها وأتفيأ ظلال ذلك الحب»(ص 54)، إلى جانب إحساسه بأنه عالة وغير مرغوب فيه في بيت الأسرة. وجاء أكثر المواقف قسوةً وإيلاماً من خلال تنكّر الأسرة له بعد موت الأب والادعاء بأنه لقيط مجهول النسب عُثر عليه في إحدى الزرائب. وضاعف ذلك ان أسرته حاولت أن تلغي كيانه وتصادر حقوقه حين عملت على تجريده من قطعة الأرض التي أورثها له ابوه في الديوانية إذ عمدت إلى التزوير والإدعاء بأنه ميت، محكومة بروح الجشع»أصبحت نهباً لمطامع شقيقي اسماعيل بالبيت واستيلائه عليه ومحاولته طردي عاجلاً أم آجلاً …. وقد قلب لي ظهر المجن … في ظرف من أعسر الظروف التي تمر بها البلاد التي هي بلاده كما هي بلادي»(ص 55). إن تراكمات الشعور بالظلم والإضطهاد والإحساس بالحرمان ومصادرة الحقوق كفيلة بأن تـُ حدث شرخاً في أعماق نفس مثقف مرهف الحس مولع بالكتب يقول عن نفسه انه»عصامي علّم نفسه بنفسه وتثقف على كتب نيتشة وكافكا وديستويفسكي ونجيب محفوظ وسارتر وطه حسين، وتمكن من تطوير أفقه وعقله»(ص 110). ونزعم أن في سلوك البطل وأقواله ما يوحي بأنه سوف يرد عنه تهمة الازدواجية وان الأصوات التي يسمعها إنما هي صدى لصوته الداخلي هو. فحين يخيّل إليه، على سبيل المثال، ان القرين الذي يطرق عليه الباب نراه يخرج من حالة الوهم ويرد سبب ما تخيله إلى الخمر»رأيت ان الخمرة بدأت تترك آثاراً واضحة علينا»(ص 155). وحين تذكـّره الأم بالأصوات التي يسمعها بين حين وآخر ينتفض محتجّاً»أية أصوات؟ أنت تلفقين ضدي تهمة …. أرجوك كُفـّي عن هذه التهمة الباطلة»(ص 88). وثمة ما يدلل على وعيه بحالته فقد ذهب بنفسه إلى عيادة طبيب أمراض نفسية، لكننا لا نستشف بأن الطبيب قدّم له علاجاً. ومما يعزز البعد السايكولوجي في المبنى السردي ان الروائي قدّم صورة للتناقض من خلال شخصية الدكتور نادر الذي تشير لوجة الدلالة الخاصة به إلى أنه مختص بمعالجة حالة العصاب وانفصام الشخصية وفقدان الذاكرة وإذا بنا نكتشف انه هو نفسه يعاني من خلل نفسي. فها هو صوت صديقه الراوي يقول عنه»الآن بدأت أدرك سر عذابه واكتئابه وما يعتريه من حالات الصمت الت يلجأ إليها.»(ص 157) ويأتي صوت نيران ــ زوجة الطبيب ــ ليلقي مزيداً من الضوء على هذه الحالة حيث تقول للراوي:»ربما لا تصدّق انه ضربني في وجهي في أحد الأيام»(ص 164) وفعل ذلك لمجرد رؤيته لها وهي تقف في شرفة الشقة التي يسكنانها. وتضيف بأنه يبكي بصمت لأن امه تخلت عنه. وقد أحاطها، وهي زوجته بطوق من العزلة ومنعها من التزاور حتى مع أهلها وامتنع عن أن يدعها تحمل منه لأنه لا يريد لتفاصيل جسدها أن تتشوه بفعل الحمل. ثم انها رمته بالأنانية»أظن ان الكوارث لا تهمه ما دامت لا تأتي إليه»(ص 165) و»هناك ما يحركه تجاه مصلحته فقط. غالباً ما يبدو أمامي غريباً أكاد لا أعرفه أبداً …. ويحلم بأشخاص لا أعرفهم ولم أسمع بأسمائهم حين يذكرهم. هناك من يتحدث غليهم ويحاورهم»(ص 166). وإلى جانب ذلك فإنه كان يسرف في تناول الخمر وتصرّف بحماقة ليلة أخذ الراوي إلى شقته وتركه يختلي بزوجته ثم ما لبث أن استيقظ على نحو مباغت ووجدهما في وضع مثير وأجبر الراوي على مصاحبته إلى الديوانية كما أشرنا من قبل.
لقد شكـّلت حكاية نادر ونيران محور حبكة ثانوية زج بها الروائي في المبنى السردي على جانب الحبكة الرئيسة، وتكاد هذه الحبكة تكون مستقلة ولا يربطها بالحبكة الرئيسة سوى خيط علاقة الراوي بنادر وهي علاقة بلغت ذروتها وخاتمتها في ليلة واحدة: الليلة التي دعا فيها نادر الراوي إلى شقته وتصاعدت الأحداث خلالها إلى مستوى التوتر وكاد فيها الراوي ونيران يقتربان جسديا، ونادر نائم أو متناوم. وكان نادر قد أسرف في الحديث أمام الراوي من قبل عن نيران وعما عاناه من أجل الفوز بها بالرغم من معارضة أهلها. ويبدو انه سبق له أن تحدث لها عن صديقه وإلى الحد الذي جعلكلاً منهما يتلهف لرؤية الآخر حتى حانت الفرصة في تلك الليلة، فبدا كأن رغبة خفيةتشد نيران إلى الراوي وتشد الراوي إليها، كشفت عن هشاشة العلاقة بين نادر وزوجته وإلى الحد الذي جعلها تغامر بالاقتراب من الراوي جسدياً. لقد كان واضحاً ان الراوي كان يعاني من حرمان جنسي، فهل كانت نيران تعامي من حرمان ممائل بما يجعلها تستجيب لرغبة هي بنت ساعتها من وراء ظهر زوجها؟ أم ان إشارة الراوي إلى الإمرأة سيئة السمعة كوثر خاتون والكشف عن علاقة قريبها بها قد جعلها تحاول استرضاء صديق زوجها للتكتم على ذلك؟ أم انها كانت تريد الانتقام من زوجها بسبب طريقة تعامله الفضة معها؟ أم انها كانت تعاني من ضعف في حصانتها الأخلاقية؟ إن واحداً أو أكثر من هذه الأسباب ربما كان وراء تصرفها في تلك الليلة. يقول الراوي:»انتبهت إلى يدها الرقيقة الناحلة امتدت إلى ذراعي وحطت عليه دون وعي منها ولما هززت رأسي شددت قبضتها على ساعدي يمودّة …… وفي الحال أمسكت بيدها وجعلتها بين يديّ تنام حمامة مذعورة أو خائفة»(ص 167). وكان الراوي متردداً بادىء الأمر»كنت رقيباً صارماً على نفسي وقد اكتفيت بمتعة الإصغاء إلى نبرة الصوت المنسابة من فمها الكمثري وهو يمزج الحروف يصوت انثوي يشي بإشارات نميل إليها جميعاً»(ص 168). ويبدو انها تمادت في إغرائه، وبدأ تشابك الأيدي الجسورة»لكنها ما لبثت أن احتوت وجهها بين يديها الرقيقتين. انسدلت غابة الشعر أمامي واختفت الملامح»وحين حانت لحظة الإقتراب الجسدي»بدا من الصعب الوقوف على الحياد ما دام الجمال الآسر يتهالك في لحظة ضعف. اقتربت منهاقليلاً وقليلاً جداً، مددت يدي المرتعشة المضطربة الأصابع إلى كتفها المنحني أتوجس خيفة أن ينهمر الرحيق ويتلاشى الخدر اللذيذ، يتبدد ويضيع مثل حفنة من عسل، الرحيق الحلو المذاق»(ص 169). وتتوالى لحظات الإقتراب الجسدي ولم ترتبك شأنها شأن أية إمرأة خبيرة، بخلافه هو الذي لم يمر بتجربة سابقة مماثلة ل على ما يبدو»فظلت تصغي للإضطراب الذي أصابني وقد تيبس الدم في العروق»(ص 169)، وحين اقترب بأنفه وفمه منها انتفضت مرتعشةً ونهضت وسارت نحو مخدع الزوجية وكانها أرادت أن تطمئن إلى ان زوجها ما يزال نائماً. ورآها مثل فراشة يغريها الضوء واللهب ، وحين التحمت الأصابع سمعها تهمس له:»أنت تستغل اللحظة هذه … تستغلني أيها الماكر …»(ص 173). وإذ اقتربت اللحظة الحاسمة فاجأهما صوت نادر الغاضب ورنـّت صفعة يده على خدها، وكأنه كان قد افتعل كل ما حدث لكي يضع زوجته أمام امتحان أخلاقي، وهذا ملمح آخر من ملامح أزمته النفسية.
لقد كان الجنس إذن وجهاً آخر من أوجه المبنى السردي للرواية، لم يتجسد في حالة الإقتراب الجسدي ونيران حسب، بل كانت ثمة تلميحات إليه في أحداث سابقة منها ما يرتبط بزوجة اسناعيل ومنها ما يرتبط بزينب وطاهر. لقد كان الراوي موضع شكوك اسماعيل وتخوفه منه وقد سمعناه يقول له:»لا تدخل غرفتي في غيابي. زوجتي حلوة وجميلة وأنا أخاف عليها وأنت ذئب لا أثق بك». وحين يجده في غرفته مع زوجته وهي تمسك برأسه من الأعلى وتعبّر عن تعاطفها معه يطرده من الغرفة . وفي مناسبة أخرى يقول الراوي:»جاءت زوجة أخي وقرصتني من خاصرتي ولم أفهم لماذا فعلت ذلك»(ص 18) و»رأيت زوجة اسماعيل تبتسم لي في مودّة … وأمسكت بذراعي المتدلية المنسابة وقد أطبقت على شفتها السفلى دون كلام وبدت عيناها متوهجتين»(ص 59).
وتشكـّل شخصية زينب (الأخت) لبنة أساسية في المبنى السردي. لقد كانت الصوت الوحيد الذي ينتصر للراوي ويدافع عنه في البيت. وهي على صغر سنها (كانت في مرحلة الدراسة الإعدادية) تتوافر على مستوى وعي عمقته قراب التي كان الراوي يزودها بها. وكانت تمثل صورة للنقاء مما جعل الراوي يعقد آماله عليها بعد أن بدأ يترك بصمته عليها. وكانت هي تشغل باله كثيراً، إذ كانت صورتها تتراءى أمامه حتى انه حين قادته المصادفة إلى أن يلتقي مريم في الديوانية، تماهت صورتها بصورة مريم التي وجد فيها ما يعوضهن خسارته لزينب، وبدأ يتصرف مع مريم وفق هذا المنظور. وقد نجدفي هذا ما يبرر إقحام الراوي لشخصية مريم على سياق الأحداث. لقد كان يؤرق الراوي حرصه على زينب وخوفه من أن تضعف وتستسلم امام ضغوط أنها لإجبارها على الزواج من ابن عمها طاهر (ولنلاحظ التناقض بين شخصه ودلالة اسمه) لاسيما انها كانت ترغب في إكمال دراستها الجامعية. غير ان ما كان يحذر منه وقع فاستسلمت بعد أن لم تجد من بقف إلى جانبهاغ ويسندها وارتضت بإبن عمها زوجاً وهو نقيضها تماماً. فقد كان نموذجاً سيئاً للزوج فهو مهرب يتاجر بالسلاح والممنوعات، مدمن على الخمر وملوث أخلاقياً لم يكن يتورع عن أن يتصرف بما يسيء إلى كرامة زوجته وشرفها. فقد سمح لتابعه أحمد قداحة أن يدخل بيته حتى أثناء غيابه. وكان يعاني من عقدة الضعة والدونية وسوء السمعة. أما عقدته الرئيسة فتتمثل في عدم قدرته على الإنجاب وكان يطمح في أن يكون أباً. ويُنزل الفروائي سمعة شخصيته هذه إلى الحضيض ويضعه موضع احتقار ويسقطه أخلاقياً حين أظهره يتوسل بتابعه أحمد قداحة إلى حد تقبيل يده لكي يقنعهبأن يمارس الجنس مع زينب زوجته وابنة عمه، لعلها تحبل منه. وحين يعتذر أحمد قداحة ــ على ما ينطوي عليه من مساوىء ــ عن القيام بفعل مشين مثل هذا، لا يتردد طاهر في الطلب من صديقه التاجر عزيز أن يفعل ذلك، بل انه مهّد الطريق إلى ذلك حين زين صورة عزيز أمام زينب»ألا يعجبك رجل مثل عزيز؟»(ص 270) ولا يتردد عزيز في القبول وقد فعل ذلك بعد أن كسر مقاومة زينب بالقوة»أسلمت قيادي مرغمةً للريح تعبث بها، ريح مزمجرة حاقدة، حملت معها عفونة وضغينة من أهينت كرامته من غير توقع «(ص 275). ولم تجد أمامها سوى أن تثأر لشرفها وكرامتها وانسانيتها وتنتقم من زوجها فتتخلص منه إلى الأبد بسكين المطبخ، ثم تتوجه بخطاب عتال قاس ٍ ومرير إلى الراوي الذي تخلى عنها وتركها وحيدة في مواجهة الضغوط، مع انه كان يمتلك ما يبرر ذلك لأنه هو نفسه كان محاصراً بالضغوط ومنفياً من البيت آنذاك.
ويبدو كل من الأبعاد الاجتماعية والوطنية والتاريخية واضحاً في المبنى السردي. فثمة توق للحرية يتجلى في الإشارات المتواترة إلى الطيور التي تحلق في فضاء مفتوح، وثمة إدانة للحرب وما تحدثه من تدهور اقتصادي واجتماعي وأخلاقي تمثل في الرغبة في الإستحواذ قوط الأخلاقي والتنكر لما هو انساني. وإلى جانب ذلك ثمة تأكيد على فضيلة التسبث بالأرض. فقطعة الأرض التي سعى الراوي للحصول عليها دلالة السعي للبحث عن الإرث الضائع. فقد استرجع الراوي صوت أبيه»إذهب يابني. إنني أمنحك فرصة مثلى أن تكون وريثي في أعز ما أملكه. إنني سأهبك قطعة الأرض ثتها عن آبائي وأجدادي». وللديوانية، مسقط رأس الأب، دلالتها»ديوانية طلسم نادر في عتمته كأنني أتلفظ إسماً سومرياً أو أكدياً عفا عليه الزمن منذ قرون»(ص 65). وترفد هذه الأبعاد الإشارات المتناثرة إلى ثورشرين ونصب الحرية وحركة الحصان فيه والربط بينه وبين السجين.
إن رواية»حامل الهوى»بلغتها المتدفقة التي تقترب بعض مقاطعها من لغة الشعر، وببنائهاالمغاير للتقليدي، وبخصائصها المتميزة، وبنهايات أحداثها المفتوحة وبنهايات شخصياتها المعلّقة، تشكـّل انتقالة تطمسار تجربة أحمد خلف الإبداعية، ونجد فيها ما يدفعنا إلى القول بأنها واحدة من أفضل الأعمال الروائية العراقية التي صدرت خلال السنوات الأخيرة.