وصيفة القصر التي كانت مصمة على ان تهجر القصر!

وصيفة القصر التي كانت مصمة على ان تهجر القصر!

وصيفة القصر من بين الوف البرقيات التي انهالت على اللواء محمد نجيب القائد العام للقوات المسلحة تهنئة بالحركة المباركة التي قام بها الجيش.. كانت هناك برقية عجيبة.. او هكذا بدت على الاقل للذين قراوا النبأ سريعا مقتضيا في الصحف اليومية كانت البرقية من السيدة ناهد رشاد وصيفة القصر الملكي.

وكان وجه العجب هو: كيف بعثت بهذه البرقية.. هي دون جميع الناس.. هي التي كانت تروح وتجيء وتظهر دائما نجما لامعا في الجو الذي كان يعيش فيه الملك السابق. كيف اذن ارسلت هذه البرقية.. واي انقلاب سريع!!
هكذا قال كثيرون.. اما انا فتذكرت ذات ليلة منذ شهر على اكثر تقدير!
***
كنا نقضي السهرة في بيت احد الاصدقاء في المعادي وكانت السهرة هادئة محدودة احتفاء بوفد السيد عبد الرحمن الهدى وكانت وزارة حسين سري لم تمض الا ثلاثة ايام من حكمها الذي امتد الى ثلاثة عشر يوما وكان حديث السهرة بالطبع هو التطورات السياسية الاخيرة.
وكنا ستة اشخاص فقط.
الصديق صاحب البيت والسيدة الكريمة قرينته، والسيد عبد الله الفاضل المهدي رئيس وفد المهدي، والسيد محمد صالح الشنقيطي رئيس الجمعية التشريعية، وانا.. واخيرا هي.. السيدة ناهد رشاد.
ومضت السهرة الى قرب منتصف اول ثم آن ان تنتهي وركب السيد عبد الله الفاضل والسيد صالح الشنقيطي سيارتهما وانصرفا وركبت هي معي – اوصلها الى بيتها في الجيزة – في طريقي الى القاهرة وكان الطريق بين المعادي والقاهرة هادئا جميلا تلفه غلالة من ظلال الليل..
غلالة رقيقة شفافة معالم الطريق وانما تضفي عليه جوا ساكنا مريحا ومرت فترة صمت، وكنت اعلم انها تجتاز ازمة نفسية عنيفة، وسالتها فجأة:
- هل قبلت استقالتك؟
وبدا السؤال مفاجئا لها، فالتفتت كالمذعورة تقول:
- كيف عرفت انني استقلب؟
وقلت لها:
- كثيرون يعرفون، وليس هذا هو المهم، وانما انا اسالك هل قبل استقالتك؟
وبدا عليها هدوء من نوع عجيب وتنهدت وهي تدير بصرها من نافذة السيارة وجبال المقطم تبدو من بعيد على يمين الطريق كانها كتل من ظلمات الليل!
وقالت بعد صمت فصير:
- لم يقبلها بعد!
واستطردت الحديث:
- لقد حاول كثيرون ان يقنعوني بسحب استقالتي ولكني مصممة عليهان مهما كانت الظروف، سواء غضب او رضى.. اني لا استطيع ان اواصل هذه الحياة!
وسكتت.. واحسست ان عاصفة تتجمع فوق سكوتهان وكدت اسمع هدير وعود تدوي فوق رأسها، ثم انفجرت عيونها بالدموع فجاة ومضت تقول:
- لقد كنا اسرة سعيدة قبل ان تلتحق بخدمته.
كنت زوجة سعيدة، وكان زوجي سعيدا، وكان لنا بيت، وكنا نعيش مع ابنائنا في هدوء مليء بالحنان والعاطفة.
والتحقنا بخدمته.. ثم بدا يدخل بيننا.
واحسست ان دوامة تجرفنا، وقاومت الدوامة، ولكن الدوامة كلفتني الكثير، لم اعد اجد زوجي ولم اعد اجد نفسي ولم اعد اجد بيتي ولم اعد ارى اولادي!
وجدت نفسي منساقة الى حياة لم يكن لي بها عهد.
سهر حتى الصباح، ووجوه واشكال غريبة، وجو خانق، ودسائس ومناورات واكاذيب ونفاق.
ولم تستطع اعصابي ان تتحمل وسكتت، ومرة ثانية سرحت بخاطرها:
- لقد حاولت ان اكون ذا تقع حيث انا.. كنت متصلة بالناس ومتصلة بالحوادث وحاولت ان انقل اليه راي الشارع ورأى المتحمسين من المواطنين المخلصين ولكنه ذات يوم قال: لا اريد اسمع شيئا من هذا كله.
ولم ايأس.. ومضيت اقول رأيي بصراحة، ولكني وجدت ان لا فائدة ترجي لا من الصراحة ولا من النفاق، فان اندفاعه في الطريق الذي يتدفع فيه لا توقفه قوة على الارض.
والعجيب انه لم يكن هكذا دائما.
لقد عرفته اياما كان فيها يحس بوطنه ويتألم له، ويحس بالناس وينفعل معهم ولكنه فقد كل هذا وسكتت مرة ثانية..
وكانت السيارة مازالت في اندفاعها على الطريق اما هي فقد كانت تحاول ان تكبح خواطرها ولكن دون ما فائدة.
- ولست استطيع ان اتكلم، ولا وان اقول كل الذي رأيت وسمت وهو كثير ولكني وجدت ان خير ما اصنعه هو ان ابتعد عن هذا الجو. ونظرت الى فجأة ثم قالت:
- هل تظن ان الامور يمكن ان تسير بهذا الشكل طويلا وقلت انا: مستحيل!
ومضت تقول: هذا ما قلته له، وانا سعيدة انني قلت له في وجهه!
لقد كانت آخر مرة رأيته يوم شم النسيم وكنا نحتفل به على ظهر المحروسة وكان هناك عدد من المدعوين من اصدقائه وبدا يتصرف ويتكلم على طريقته، انه يريد اذلال جميع الناس وتحطيم كل المعاني ووجدت صبري ينفد وقلت له:
- سوف اخرج من هنا، ولن اضع قدمي بعد ذلك في مكان انت فيه وكان هذا كله على مرأى من ضيوفه وبعثت استقالتي من القصر ولكن الاستقالة لم تقبل حتى الان ومضت تقول:
- ولقد قضيت فترة هادئة في بيتي واقنعتني هذه الفترة انني كنت على حق في البعد عن حياة النصر، وزادتني تصميما على القرار الذي اتخذته.
ان كثيرين يقولون لي انني اضحي بالكثير، ولكني في الحقيقة لا اضحي بشيء وانما انقذ الكثير لنفسي.
والذين يرون انني اضحي هم المنافقون الذين يعتقدون انني استطيع ان استغل مركزي ولكني – واقسم لك – لم احاول يوما ان استقل هذا المركز او افيد منه لنفسي.
وها انا اليوم اترك الخدمة في القصر وعلى ديون لا اعرف كيف اسددها.
ولو اني اردت ان استغل مكاني لكنت اليوم صاحبة ملايين، ولكني قضيت الوقت اتفلسف واحتقر كل الذين يطلبون مني خدمات استغل فيها مكاني.
ومن سوء الحظ ان معظم هؤلاء الذين تسمونهم كبراء وعظماء بدوا امامي على حقيقتهم مجموعة من العجزة والتسولين والمنافقين!
وانا واثقة ان كل الذين كانوا يسبحون بحمدي، ويعتبرونني قطعة من العبقرية والنبوغ والذكاء، سيسون هذا كله عندما اخرج من خدمة القصر، وربما سينسون ان يلقوا الى بالتحية اذا التقوا بي في الطريق، ولكني على اي حال لن افجع فيهم، فاني اعرفهم مقدما!! واستطردت تقول:
- بل انا واثقة من انه سيحاول ايذائي، ولست ادري مدى الخطر الذي يعود على من الوقوف امامه والتصميم على مغادرة الخدمة في القصر، ولكني على استعداد لمواجهة كل خطر برغم اني اعرف انه لا يتورع عن شيء.
ومع ذلك: فانا سعيدة..
وتنهدت من اعماقها وهي تمسح دموعها.
- انا سعيدة جدا.. فاني اخيرا ابتعد عن هذا الجو المسموم، واحاول ان اعثر على روحي وعلى حياتي!