ذكريات عن العالم الكبير  عبد الجبار عبد الله

ذكريات عن العالم الكبير عبد الجبار عبد الله

أولا ً، قبل أن أسوق هذه الذكريات، لابد من نبذة مختصرة عن حياة عبد الرزاق زبير، الغني عن التعريف. فهو من مواليد بغداد 1920، أكمل الحقوق 1941، اصبح رئيسا لبلدية العمارة 1944، وفيها بدأ إهتمامه بالمسألة الزراعية وبالدفاع عن حقوق الفلاحين. أعتقل وسجن لمرات عديدة أيام الحكم الملكي. بعد ثورة 14 تموز 1958 أصبح مديرا للاصلاح الزراعي وعضوا متميزا في لجنة وضع قانون الاصلاح الزراعي، الذي يعتبر من اهم انجازات ثورة 14 تموز.

اعتقل وسجن بعد انقلاب 8 شباط 1963. ثم أعيد الى الوظيفة في 1970 ليعمل مدرسا لمادة الاصلاح الزراعي في جامعة بغداد.

وقبل ان يودع بغداد في 1990، كنت في واحدة من زياراتي الشخصية له، في داره الواقعة في الحارثية بجانب الكرخ... وبينما كان يتحدث عن مرحلة من مراحل حياته النضالية والمهنية، عرَّج على موضوع الأخلاق، وكيف على القائد والمربي أن يتحلى بأعلى وأحلى الأخلاق التي أساسها، الصدق والأمانة والتواضع والتسامح والاخلاص لمبادئه وللموقع الذي يشغله، وضرب أمثلة لأسماء عديدة، من بينهم عبد الجبار عبد الله... وهنا إستثمرت الفرصة وطلبت منه أن يكتب لي عن ذكرياته الخاصة بعبد الجبار عبد الله، فتناول قلمه، وقال سأكتب هذه المرة باختصار، وسنلتقي ونتحدث بشكل تفصيلي عن هذا الرجل العظيم، ولكن مع الأسف، كان هذا آخر اللقاءات معه، وذلك لسفره الى لندن ليلتحق بأولاده هناك، ثم رحل الى مثواه الأخير في 25 / 5 / 2001.
يقول عبد الرزاق زبير:
عرفت عبد الجبار عبد الله، مدرسا في المتوسطة الشرقية ببغداد، حيث درّسنا مادة الفيزياء في الصف الثالث 1935. والتقيته ثانية سنة 1957 بعد عودته من امريكا، حيث زار مكتبي للمحاماة، وكانت لديه استشارة قانونية، وخلال تلك الزيارة جرى اتصال تلفوني لشراء تلفزيون، فعلق على ذلك بأن التلفزيونات الموجودة آنئذن، تصدر عنها أشعة شبيهة بأشعة (كاما) وهي مضرة بالعين، وقد يلحق ضررها بالقدرة على الانجاب مستقبلا، وعليه ينبغي عدم التعرض لها لفترة طويلة، وان يكون الجلوس امام التلفزيون ببعد لا يقل عن خمسة امتار وخاصة بالنسبة للأطفال، وان هناك بحوث ودراسات لانتاج اجهزة تلفزيون اقل ضررا. ثم التقيته بمناسبات عديدة بعد ثورة 14 تموز في لقاءات خاصة ورسمية.
وإني لأذكر كلمته في حفل تخرج اول وجبة لجامعة بغداد - وكان اول رئيس لها - حيث اوصى طلبته بمناسبة تخرجهم، ما يوصي به الأب أبناءه... فأورد لهم قصة رمزية على حد قوله، هي أنه في غابة ما ، كانت بين الاشجار، شجرتان احدهما مثمرة والاخرى ضخمة غير مثمرة، كانت الاولى هادئة ساكنة وكانت الثانية صاخبة تملأ الغابة ضجيجا، سألت الاولى الثانية عن سبب هذا الضجيج، طالبة اليها التقليل من الازعاج الصادر عنها بسبب ذلك، فأجابتها بأنّ الناس يقصدونها - كشجرة مثمرة - ويعتنون بها لاقتناء ثمرها، أما هي فلا تجلب الانتباه إلاّ بما يصدر عنها من ضجيج، مختتما كلمته بما يتمناه الأب لأبنائه من التوفيق في حياتهم العلمية وخدمة وطنهم ويوصيهم أن يكون عملهم مثمرا بعيدا عن المظاهر والضجيج الذي لا طائل تحته.
وقد روي لي... أنّ مسؤلا كبيرا في حكومة عبد الكريم قاسم حدثه في احدى لقاءاته معه - بمناسبة ما تناقلته الأخبار آنئذ عن الصحون الطائرة - بأنّ اسلافنا كانوا يروون لنا مشاهداتهم لاشخاص يركبون سعف النخيل أو الحِب"كوز الماء الكبير"ويمرقون في سماء بغداد او غيرها ليلا، وانه يعتقد بأن أولئك لم يكونوا إلا سكان كواكب اخرى مرقوا في سماء الارض... فروى له الدكتور عبد الجبار، أنّ بعثة أثرية عثرت في احدى اهرامات مصرعلى سلك معدني، فحدس احد الاشخاص، انّ هذا السلك قد يكون دليلا على أنّ المصريين القدماء قد عرفوا الاتصال التلفوني.. فأجابهم احد علماء الآثار في البعثة: وهل أنّ عدم العثور على سلك في اهرامات اخرى يمكن اعتباره دليلا على معرفة المصريين القدماء بالاتصال اللاسلكي؟! وكان هذا خير جواب من عالِم، على من يدعي العلم من غير اهله.
لقد عُزل عبد الجبار عبد الله من الوظيفة في 8 شبط 1963، واعتقل في سجن رقم (1) في معسكر الرشيد وأُسيئت معاملته، ثم نُقل الى الموقف العام في سجن بغداد بباب المعظم في القسم الذي اعتقل فيه الوزراء والمدراء العامون، فالتقيته هناك، وقد عرفته خلال تلك الفترة - التي استمرت بضعة شهور - اكثر من كل سني معرفتي السابقة به، ولا غرو في ذلك، فالالتقاء في المعتقلات والسجون يكشف جوهر الاشخاص بحقيقة ما هم عليه من مستوى ذهني ونفسي بعيدا عن بريق المراكز والمظاهر الاجتماعية. وقد حدثني - مستغربا - عن تصرفات بعض المعتقلين معنا... فرويت له حادثة كانت قد وقعت في معتقل العمارة 1945 حين اختصم يوما ثلاثة ممن كانوا من رجال الدولة العسكريين والمدنيين وقذفوا بعضهم البعض بأقذع السباب والتهديد بالاعتداء، وكان من بين المعتقلين المشاهدين لذلك الخصام السيد عبد الرزاق الحسني، الذي قال لزملائه، انّ هؤلاء المختصمين يسكنون في غرفة واحدة بالمعتقل، وقد اختلفوا على اقتسام طعام الفطور المهيأ لهم، فاختصموا، وأردف الحسني القول، بأنّ هناك الكثير من هذا النموذج، كانت الوظائف ساترة عليهم، وبفقدانهم لها ظهروا على حقيقتهم وبانت عيوبهم. وقد ينطبق ما يماثل ذلك - في ضوء الوقائع اليومية التي شاهدناها - على عدد من المعتقلين الذين كانوا قد تبوأوا مناصب عليا في حكومة عبد الكريم قاسم.
في تلك الفترة، كنا نسمع من الاذاعات الخارجية احيانا او ما يصلنا من اخبار عن طريق المواجهين، ان احتجاجات من مناطق وجهات متعددة في العالم تدين الاجراءات والممارسات التي اتخذتها سلطة شباط 1963، ومنها المتخذة ضد رجال الفكر، وقد اختص بعضها بالعالم عبد الجبار عبد الله لمركزه العلمي، كرئيس لجامعة بغداد وكشخصية علمية معروفة عالميا.
وخلال حديثنا عن مجال العمل الذي ينوي ممارسته بعد اطلاق سراحه، اخبرني انه يفضل العمل في الولايات المتحدة الامريكية، حيث يجد فيها تطورا علميا وتقنيا اعلى، وله صلات بمراكزها العلمية في مجال اختصاصه، ولكنه بنفس الوقت يرى انّ الحياة الاجتماعية فيها لا تروقه ولا يحبذ المعيشة فيها بصفة دائمة.
ولم التق به بعد اطلاق سراحه لسفره الى خارج العراق، حتى جاءني يوما الدكتور عبد الكريم الخضيري - وكان عميدا لكلية الزراعة بجامعة بغداد وعزل من مركزه ايضا في 8 شباط - وبيده رسالة من الدكتور عبد الجبار يذكر فيها انه يعمل في مركز للبحوث في الولايات المتحدة الامريكية ضمن مجموعة تتألف من عشرين عالما يمثلون اربعة عشر أمة، يلتقون بصورة دورية على فترات لمناقشة بحث يقدمه احدهم، ويساعد كلا منهم عدد من المعنيين من حملة الدكتوراه والماجستير لتهيئة متطلبات البحث الذي يعمل عليه كل منهم، وانه مرتاح للمجالات العلمية المتيسرة له آنئذ التي تستهويه وتستغرق كل وقته، ويذكر انه مُنح تخصيصات وفيرة، وهو يقارن بين ما هو عليه هناك وما كان عليه في سجن رقم 1 حيث كانت التخصيصات المقررة للأرزاق التي تقدم للفرد المعتقل لثلاث وجبات يوميا 135 فلسا بضمنها ربح المقاول الذي يجهز الارزاق!! وينهي - عبد الجبار عبد الله - هذا الموضوع بقوله "إلا انني لا أحقد على من أساؤا إلي، وكل ما أرجوه، أن يهديهم الله سواء السبيل، لكي يكونوا أكثر نفعا لبلدهم "
وقد تلقيت بعدئذ نبأ وفاته في أميركا، وسرت مشيعا ً مع طلابه الآخرين الذين احتضنوا جثمانه منذ وصوله حتى مثواه، حيث كان عبد الجبار عبد الله مصرا على العودة الى وطنه العراق، لذلك أوصى أن يدفن فيه.
كان عبد الجبار عبد الله، كما عرفته، هادئا، رصينا فيما يصدر عنه من قول او فعل، يسبقهما حسن تبصر وعمق تفكير، لا يتدخل فيما لا يخصه، وقد يجيب إذا سُئل على قدر ما يتضمنه السؤال.
وكان عبد الجبار عبد الله، علما يقتدى به، ويفخر به كل عراقي، وقد أدى لوطنه وشعبه وللعلم خدمة تسمو عن التقييم.

عن لقاء صلاح جبار عوفي مع عبد الرزاق زبير / 1990