فـي رحيل زها حديد صانعة الأساطير المعاصرة

فـي رحيل زها حديد صانعة الأساطير المعاصرة

لطفية الدليمي
1
اختارت مجلة تايم الاميركية واسعة الانتشار في سنة 2010 المهندسة العالمية زها حديد في المرتبة الاولى بين المفكرين والشخصيات المائة الأكثر تأثيرا في العالم وعلقت المجلة على اختيارها لها بأن (أعمال زها حديد تثير الولع والشغف بما تحمله من رؤية فريدة شأنها شأن الأساطير دون أن تفقد أصالتها الابتكارية)

لم يلتفت العراق ومسؤولوه وجامعاته الى أهمية هذا التكريم العالمي الذي حظيت به زها، و لم يحتفل أحد باختيارها لهذه المرتبة الشرفية بين مبدعي ومفكري عالمنا المعاصر وصناع الرأي العام من الكتاب والفلاسفة والفنانين، بل كانوا حينها يقيمون طقوس التكليف الشرعي للفتيات من سن السابعة لتحجيب رؤوسهن الصغيرة وعقولهن المتفتحة للتعلم وشغف المعرفة بزرع فكرة العورة والعيب في نفوسهن الغضة منذ نضارة أعمارهن في المرحلة الابتدائية حسب تعليمات وزارة التربية، ترى كم من صغيرة كانت ستنبغ في بلادنا وتصنع أساطير جديدة لحاضرنا ومستقبل العراق لو اتيحت لها فرصة التفكير الحر والتعبير عن الشغف بالجمال ووجدت من يوجه خطواتها نحو أبراز عبقريتها كما وجدت زها حديد في طفولتها؟
وبعد حيازة زها حديد هذه المكانة بين الشخصيات المؤثرة في عالمنا اختارتها اليونسكو ضمن لائحة فناني السلام الذي يستخدمون فنهم ونفوذهم لتعزيز المثل العليا لمنظمة اليونسكو وأنها كما وصفتها اليونسكو (تلعب دورا بارزا في رفع مستوى الوعي العام للحوار الفكري والتميز في مجال التصميم والإبداع وخدمة المثل العليا) فهل اهتم العراق بهذا التكريم السامي؟
تعترف زها حديد في حوار من حواراتها النادرة أن بلوغها هذه المرتبة بين مهندسي عالمنا المعاصر ونيلها جائزة بريتزكر أرفع جائزة للهندسة المعمارية - بأن نجاحها لم يكن سهلا قط ّ فهناك صعوبات وعوائق تقف أمام عمل المرأة في مهنة قاسية كالهندسة، وأن كونها إمرأة وعربية الجذور كان تحديا كبيرا لقدراتها ضمن محيط العمل التنافسي في عالمنا المعولم وتقول : حالما اجتزت عقبة كوني انثى وتقدمت في عملي كانت تبرز أمامي مسألة كوني عربية وتبدأ التحديات مرة أخرى ولكني سرعان ما أتجاوزها لأصبح أقوى وأكثر دقة مما انعكس على تصاميمي الهندسية - وما تزال المهندسة الرائدة في عالم الابداع تواجه التحديات لكنها تمضي قدما في تنفيذ مشاريعها الاسطورية المعاصرة التي ادهشت العالم مابين اليابان وأوروبا وأميركا. بقوة شخصيتها ومثابرتها وابتكاراتها وعزيمتها مهدت لنفسها الطريق وتخطت العوائق و نجحت خلال خمسة وثلاثين عاما من العمل المبدع والتدريس في جامعات عالمية أن تحتل اعلى مراتب الشرف في دنيا الهندسة والابتكار الفني، وقد وصفها استاذها المهندس العالمي (كولهاس) بأنها (كوكب يدور في مداره الخاص) وأصبحت شريكة له في مؤسسته الهندسية قبل أن تنشئ شركتها الشخصية التي يعمل فيها 400 شخص ينفذون مشاريعها ومبتكراتها في المباني والأثاث والديكور.
تكشف أعمال زها حديد عن استقلالية شخصيتها و طاقتها الخلاقة التي تنبئ عن انسيابية موسيقية وعدم استقرار وكأنها تنحو الى التحرر مما هو أرضي وتستغرق في الغرائبي مبتعدة عن الأشكال التقليدية ذات الأبعاد المتناسقة، لذا اعتبرت أعمالها تعبيرا مبدعا عن النزعة التفكيكية مضافا اليها بعض المؤثرات الكامنة منذ نشأتها الأولى، وتقول زها عن عملها (أريد أن أبدأ في وقت واحد بالنهاية والبداية معا...وكأن نهاية العمل كانت بداية انبثاق الفكرة) وتفسر اشكالها الحلزونية ومنحنياتها المتداخلة هذه العلاقة الغامضة والمركبة بين البدايات والنهايات في تصاميمها.
2
تقول زها حديد
«علمتني التجارب أن علينا تغيير أسلوب تفكيرنا بين الفينة والأخرى لتناسب اللحظة التي نعيشها».. زها حديد
تبدو مقولتها الصلبة هذه شذرة أساسية في بناء شخصيتها العبقرية إذ لولا تطور زها حديد الفكري المتواتر بين برهة وأخرى ومثابرتها لتتواءم كل آونة مع اللحظة المتزامنة معها - لما تمكنت من تحقيق مشاريعها الأسطورية على أرض كوكبنا المحتشدة بالتحديات والعوائق، حتى ليبدو التجدد والتغيير من أبرز ركائز شخصية زها حديد التي لا تتوقف أفكارها عند منحى زمني او اسلوب صياغة محدد أو رؤيا مستقرة فهي المتجددة المبتكرة التي توظف شطحات مخيلتها الابتكارية والرياضيات في صنع عالم ما بعد حداثي بهيئة مبانِ معاصرة وكلما غيرت اسلوب عملها ازدهرت مخيلتها وتجسدت أحلامها أشكالا عجائبية.لو كتبت زها حديد الشعر فماذا ستكتب لنا؟؟
أي ضرب من الانزياحات اللغوية ستقدم في قصيدتها الهندسية المنسابة والمعقدة و ما الذي ستقوله سيدة الأشكال الفضائية اللامألوفة والمتجاوزة ؟؟
حققت زها انسيابية الأشكال وأدمجتها بالطبيعة على نحو بالغ الغرابة في الهندسة ما بعد الحداثية وبالذات الأعمال التفكيكية التي تعمد الى تحطيم الشكل ونثر اجزائه على نحو تجريدي غامض بمنحنيات تخلت عن الاشكال المكعبة، وتذكر زها حديد أن استاذها»كولهاس» أحال التجريد الشكلي وانسيابيته والقدرة على الاستعانة بالمنحنيات إلى نمط الخط العربي وتجريداته إذ وجد ان زها وزملاءها العرب والإيرانيين الطلاب في قسم المعمار هم الأقدر على ابتكار المنحنيات في تصاميمهم وعزا ذلك الى تأثرهم بالخط العربي.
ترى من أين استلهمت شاعرة الهندسة سحر اعمالها الغرائبية وإحساسها بالفضاءات اللامحدودة؟؟ أهي تجارب وخبرات الطفولة والتربية المستنيرة؟؟ ، تعترف زها حديد بذلك وتشير إلى سنوات طفولتها وصباها في العراق فتقول»تلقيت تربية عصرية في العراق، واستفدت من تربية والديّ المستنيرة لي ودعمهما غير المشروط، كانا ملهمين كبيرين لي،وعلمني تشجيعهما ان أثق بإحساسي مهما كان غريبا»
هذه المبدعة التي رفعتها اعمالها المبهرة إلى مصاف أساطين العمارة المعاصرين لتنال على منجزاتها جائزة»بريتزكر»أرفع جوائز العمارة وتذكر مع أعلام العمارة العالميين، تأثرت كما تأثر جيلها- بأعمال»اوسكار نيمايير»المهندس البرازيلي واشهر معماريي العالم مبتكر مدينة برازيليا وشغفت بإحساسه الطاغي بالمساحات والفضاءات وألهمتها أعماله لتبتكر اسلوبها المعروف بانسيابية الأشكال مترسمة خطاه التعبيرية في التجديد المعماري اضافة الى ما لدى زها حديد من ذخيرة بَصَرية اختزنتها ذاكرة طفولتها عندما اصطحبها والداها وهي ابنة سنوات ستة الى معرض أقيم في بغداد - سنة 1956 لأعمال المعمار العالمي (فرانك لويد رايت) فانبهرت بالتصاميم والصور الفوتوغرافية التي تجسد اعمال «رايت»وترسخ في أعماق وعيها الطفولي شغف شعري بجمال الأشكال الهندسية كما أنها لابد تأثرت على نحو لا واعِ بالشكل الهندسي للنخلة التي تخترق الفضاء بانسيابيتها ورشاقتها لتشكل كرة خضراء هندسية متكاملة وتندغم بالسحب والنجوم، ولا تنكر زها حديد انبهارها في صباها المبكر خلال رحلات العطلات مع والديها بالمشهد الطبيعي لأهوارالعراق وانسحارها بحركة الرمال وتمازجها مع المياه وتداخل الاثنين مع الحياة البرية النباتية والحيوانية المتداخلة مع الافق والمندمجة مع البنايات والبشر في المشهد ذاته هذا العنصر المهم في موضوعة اندماج الطبيعة مع المشهد الحضري الذي غذى طفولتها العراقية بترابط العناصر واندماج المدينة العراقية بالبساتين والمزارع والانهار وهو الذي وسم اعمالها بالانسيابية المتضافرة مع تعقيدات هندسية معاصرة.