ما الأدب؟ بين سارتر وايغلتون

ما الأدب؟ بين سارتر وايغلتون

عبدالعزيز الموافي
ناقد من مصر

1
تميز الأدب في العصر الحديث بأنه يطرح الأسئلة على العالم، وبكيفيات مختلفة على المستوى النظري او المستوى الابداعي، ولم يكتف الأدب بذلك. بل إنه بدأ يسائل نفسه أيضا، في محاولة لاستكناه غوامضه والكشف عن طبيعته، ولعل أهم الأسئلة التي طرحت في هذا الاتجاه، على امتداد القرن العشرين، كان سؤال: ما الأدب؟ لقد تعددت محاولات الاجابة على هذا السؤال،

ربما لأن في الاجابة عليه سيضع الأدباء أيديهم على جوهر الأدب، الذي يتجلى من خلال الكشف عن طبيعته، والتي تتمثل في عناصر عديدة: الشكل- المضمون – المبدع – القارئ- العلاقات الاجتماعية والتاريخية التي تشكل اطارا للعملية الأدبية.
إن تعدد الإجابات التي توصل اليها العديد من المفكرين، الذين ينتمون إلى اتجاهات أدبية وفلسفية مختلفة، بل ومتباعدة، كانت السمة المميزة لتلك المحاولات، فقد كان من الطبيعي، مع اختلاف منظور التناول لكل اتجاه، أن تختلف النتائج من خلال الاجابات، وبذلك، لم تتشكل أرضية مشتركة بعد، تقف عليها مختلف الاتجاهات الأدبية والنقدية، بيقين كامل، فالموضوع، حول طبيعة الأدب، لم يتم حسمه، وبذا فإن الاشكالية تظل قائمة، بل ومنفتحة على المزيد من الأبحاث في هذا الاتجاه.
ولعل أهم محاولات الإجابة عن سؤال: ما الأدب؟، هي تلك التي قام بها الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر، وتأتي أهمية ما توصل اليه سارتر، من أهميته ذاتها ليس كمفكر فقط، بل ومنتج للأدب أيضا، فقد أبدع العديد من النصوص الروائية والقصصية، وتفوق على نفسه في نصوصه المسرحية العظيمة. وهنا تكمن أهمية سارتر، إذ أنه يضع خرائط لجبال قد تسلقها بالفعل، وبالتالي فانه يعرف دروبها وأخطارها عن خبرة ذاتية. ومن وجهة نظر سارتر، التي أثرت بها- بل وصاغتها- النظرة الوجودية الماركسية التي يعتنقها، نجد أن علاقة الكاتب بمجتمعه والواقع الذي يعيش فيه، كانت المنظور الأساسي، الذي حاول- من خلاله – أن يجيب على التساؤل السابق.
كما كان من الطبيعي أن يؤدي هذا المنظور بسارتر الى اعتناق فكرة"التزام الادب"، باعتبار أنه منتج اجتماعي بالاْساس، رغم صبغته الفردية، فقد كانت اهم نقاط ارتكاز الوجودية، هي مبدأ"الإنسان في العالم"، ولأن الكاتب إنسان بطبيعته، فان وجوده الواقعي يمثل هوية أدبية له، يستحيل أن يخرج عليها، بقدر ما يخرج منها. لقد انسحب مفهوم الالتزام، من وجهة نظر سارتر، على كل افرع الأدب النثري، إلا أنه قد تجاوز عن النصوص الشعرية، وأخرجها من دائرة الالتزام، باعتبار أن الشعر خطاب تشكل لغته غاية في ذاتها، ومن هنا، كان البحث عن طبيعة الأدب، والأمر كذلك، يسير في عدة دروب متوازية، تمثلت في ثلاثة اتجاهات رئيسية:
– لماذا نكتب؟
– لمن نكتب؟
– موقف الكاتب من العالم
إن تناول سارتر لطبيعة الأدب، باعتباره مفكرا وفيلسوفا أصيلا، قد تميز بالعمق، الا ان تناوله لمفهوم القراءة قد بدا سطحيا، وهذا أمر طبيعي في حالتنا هذه. فلم تكن نظريات القراءة قد تشكلت بعد في صيغتها السائدة الآن، ولم تكن مصطلحاتها قد استقرت بعد، لذلك، فقد بدا طرح سارتر في هذا الاتجاه، بين الكاتب والقارئ من ناحية، والقارئ والنص من ناحية ثانية، مجرد فرضيات أولية، تحبو على أرضية نظرية التلقي. وفي المقابل، فإن آراءه فيما يتعلق بمفهوم: الالتزام والحرية، كانت تشكل ركنا أساسيا في النقد الايديولوجي، الذي ساد في حقبة الخمسينات والستينات من القرن العشرين، وبذلك، كان سارتر نجم هاتين الحقبتين، ليس في مجال الفلسفة وحدها، بل وفي مجال الأدب أيضا، في كل انحاء العالم. وعلى الجانب الآخر، نجد تيري ايغلتون. الناقد والمفكر الانجليزي الشهير، والذي يعد واحدا من ألمع منظري الأدب في الغرب في النصف الثاني من القرن العشرين، قد تساءل – بدوره – في كتابه"مقدمة في نظرية الادب": ما الأدب؟ وقد حاول في الفصل الأول من هذا الكتاب أن يقدم اجابته حول هذا التساؤل، باعتباره يمثل إشكالية أساسية في الأدب الحديث. ومن الطبيعي أن تأتي اجابته مختلفة عن إجابة سارتر، وذلك لاختلاف المنظور فيما بينهما، فهو يتناول الأدب باعتباره نشاطا إنسانيا"تخيليا". وبعد ذلك، قام بتتبع سيرورة المصطلح في العصر الحديث، وقد كانت البداية- بالنسبة له- مرتبطة بظهور الشكلانيين على مسرح الأدب العالمي، حيث يرى أن نظرية الأدب قد بدأت معهم، خاصة منذ مقالات شلوفسكي الباكرة. لقد استندت إجابة ايغلتون الى اللغويات والعلوم اللسانية، التي كانت قد بلغت ذروة سيادتها على الساحة الأدبية في الربع الأخير من القرن الماضي، خاصة فيما يتعلق بنظريات القراءة والتلقي والتأويل، كما انه استفاد كثيرا من انجازات الاتجاهات الظاهراتية والبنيوية والتفكيكية، فيما يتعلق بالعلاقة بين المثلث الابداعي: الكاتب – النص- القارئ. لذا، فقد كان من الطبيعي أن تكون آراء ايغلتون أكثر نضجا في هذا الاتجاه، مقارنة بآراء سارتر.

واذا كان سارتر قد ركز في اجابته على مبدأي: الالتزام والحرية، فان ايجيلتون قد ركز على مبدأ أساسي في بحثه داخل تلك الاشكالية، عن إجابة السؤال الخالد، وتمثل هذا المبدأ في أن الأدب بطبيعته هو خطاب غير نفعي، على العكس من قناعات سارتر، بمعنى انه على حد تعبير ايغلتون نفسه- هو لغة تشير الى نفسها فقط، وهو- هنا- يقترب كثيرا من تصورات الشكلانيين الروس عن مفهوم الأدب. على أن مناقشة ايغلتون في هذا الاتجاه، لمفهوم الاغراب في الأدب والتقرير في لغة النثر العادية، إنما تشير الى أننا بازاء ناقد، قد يكون بسيطا، لكنه يتميز بالعمق، أو- على حد تعبيره – فلقد حاول أن يجعل الموضوع"شعبيا"أي في متناول غير المتخصصين،. دون أن يجعله ذلك"مبتذلا"، وقد نجح في ذلك بالفعل. ورغم أن هناك محاولات أخرى قد جرت، للاجابة على تساؤل: ما الأدب؟، إلا أن تناول كل من سارتر وايغلتون، ظل هو الأكثر عمقا وأصالة، ربما لأن محاولتيهما كانتا اختزالا للمحاولات الأخرى، لذلك. ظلتا تتميزان بامتداد التأثير منذ نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، وحتى الان.
ساتر ما الادب؟
يقسم سارتر كتابه"ما الادب"إلى أجزاء رئيسية، هي: ما الأدب؟ لماذا نكتب؟، واخيرا فصل بعنوان: موقف القارئ، وفي هذا الفصل يطرح أيضا تساؤل: لمن نكتب؟
معنى الكتابة
يقرر سارتر في البداية. أن عمل الكاتب الأساسي يتمثل في الاعراب عن المعاني، وهو يؤكد أن ميدان المعاني هو النثر، بينما يضع الشعر في مرتبة الفنون الأخرى، مثل الرسم والنحت والموسيقى، وبالتالي، فانه يفترض أن الشعر- شأن تلك الفنون- لا يستهدف تقديم"معنى"، لكنه يستهدف خلق"حالة". وهنا، يطرح سارتر مقولته الشهيرة، إن الشاعر لا يستخدم الكلمات، لكنه – على العكس من الناثر- فانه يخدمها. فلغة الشعر- إذن- ليست نفعية، والشعراء بذلك ليسوا متكلمين أو صامتين، بل لهم شأن آخر. وبذلك. فان الشعر يقع خارج دائرة الالتزام الأدبي، نظرا لطبيعة مادته. إن الكلمات
– بالنسبة للشاعر- هي أشياء في ذاتها، وليست بعلامات تدل على معان. وبذلك، فان اللغة الشعرية تصبح مخلوقا، له كيانه المستقل، وهنا، يصبح الشاعر خارج نطاق اللغة، فيرى الكلمات من جانبها المعكوس، وبالتالي، فان الشاعر لا يستطيع أن يقرر: هل خلقت الكلمات من أجل الدلالات؟، أم ان العكس هو الصحيح. وفي المقابل، فان فن النثر يتميز بأن مادته بطبيعتها ذات دلالة، أي أن الكلمات ليست بأشياء، بل هي ذات دلالة على الأشياء، فالنثر- على حد تعبير فاليري-"يوجد كلما مرت الكلمات خلال نظراتنا، كما تمر الكأس خلال أشعة الشمس". وعلى ذلك، فان سارتر يقرر أن اللغة النثرية، بسبب طبيعتها النفعية، هي امتداد لحواسنا. والكاتب يعرف أن الكلمات- على حد تعبير بريس بارين- هي"مسدسات عامرة بقذائفها"، فاذا تكلم، فانما يصوب قذائفه باتجاه الصمت أولا، ثم باتجاه الآخرين ثانيا، وهو-بذلك- يكون قد اختار لنفسه رسالة الكشف عن سر الانسان، لكي يتحمل الآخرون بعد ذلك تبعة أعمالهم التي تم لهم الكشف عنها. إن الكاتب لا تنطبق عليه تلك الصفة، ليس لأنه اختار التحدث عن بعض الأشياء، بل لأنه اختار التحدث عنها بطريقة معينة، ان الشعائر الدينية ليست هي العقيدة، ولكنها تهيئ لها، كذلك فان توقيع الكلمات، وجمالها، والموازنة بين أجزاء الجمل، كل هذا يتحكم في عواطف القارئ، وله عليه سلطان دون وعي منه، وعلينا أن ندرك أن المهم في الكتابة أولا، هو تحديد موضوعها، وبعد ذلك تحديد طريقة الحديث عنه. وغالبا ما يسير الأمران جنبا الى جنب. ويرى سارتر أن جان جيرودو كان على خطأ، حين قال عن النص الأدبي:"المسألة أولا مسألة أسلوب، أما الفكرة فتأتي بعد ذلك، فكما أن العلوم الطبيعية تضع أمام علماء الرياضيات مسائل جديدة، تدفعهم الى وضع رموز جديدة، فكذا المطالب المتجددة في المجتمع، وفيما وراء الطبيعة، تدفع الفنان دائما الى البحث عن وسائل فنية جديدة، ولغة جديدة. وسارتر يقرر انه إذا كانت لغتنا اليوم قد تغيرت عما كانت عليه في القرن السابع عشر، فذلك لأن لغة رأسين وسانتفريمون لم تعد ملائمة للحديث عن القاطرات، وعن طبقات العلم، ويصل بذلك الى أن الفن لم يكن -في يوم من الأيام- في جانب هواة الأسلوب. وبذلك، فان سارتر يدين مذهب أو اتجاه"الفن للفن"، حيث إن الفن الخالص والفن الفارغ، هما دائما واحد، وسارتر يشدد الهجوم على النقاد الذين يقتصرون في نقدهم على دراسة جوانب الكتاب السابقين، في نواحي الصياغة أو النواحي النفسية، مغفلين العلاقة بين الأدب الذي يكتبونه، والمجتمع الذي كتب له هذا الأدب، زاعمين أن ليس في الأدب سوى المتعة الفنية، وهم بذلك يتخذون من تراث السابقين مادة لهم، بعد أن فشلوا في ميدان الانتاج الأدبي، لذلك فانهم – على حد تعبير سارتر- قد وجدوا لأنفسهم، وهم على شفا اليأس، عملا هادئا، هو"حراسة المقابر". ان عملية القراءة التي يقوم بها ناقد من هذا الصنف ذات شقين: الشق الأول انه يعير جسمه للموتى لكي يعاودوا الحياة من خلاله، والشق الثاني أن يعقد صلة من نوع ما مع العالم الآخر.
لماذا نكتب؟
يشير سارتر الى أن الفن، من وجهة نظر البعض، هو نوع من الهروب خارج الواقع، ولدى البعض الآخر هو وسيلة من وسائل التغلب على هذا الواقع. لكنه يتساءل: من المستطاع الهروب من الواقع بالرهبانية، أو الجنون، أو الموت، فلماذا
-إذن- يختار الانسان الكتابة دون غيرها؟ والاجابة-من وجهة نظر سارتر- تكمن في أن وراء أهداف الكتابة المختلفة، توجد حرية اختيار مشتركة بين الكتاب على اختلافهم. هي أعمق وأقرب الى رسالتهم من تلك الأهداف.
إن سارتر -متأثرا بالظاهراتية- يرى أن كل ادراكاتنا مصحوبة بالشعور بأن الحقيقة الانسانية ذات طبيعة كاشفة، أو بعبارة أخرى، فالانسان هو الوسيلة التي تتبدى بها الأشياء، فالعلاقات بين أجزاء العالم، إنما تتكاثر بمثولنا فيه، حيث إن كل فعل من أفعالنا يجعل العالم يكشف لنا عن وجه جديد، لم يكن موجودا من قبل، فاذا لم تكن هناك عين انسانية تشهد منظرا ما، فان هذا المنظر سيظل قابعا في أعماق المجهول. أي أنه يصبح موجودا مجهول الوجود، كما أن هذا المنظر الغائب عن وعينا سيظل مجهول الوجود، حتى يأتي وعي آخر يوقظه، وهكذا، يضاف الى وعينا الذاتي بأننا"مكتشفون" وآخر: هو أننا غير ضروريين بالنسبة إلى الشيء المكتشف.
أحد الدواعي الأساسية للخلق الفني، يتمثل في حاجتنا الى الشعور بأننا ضروريون، بالإضافة الى العالم، وبديهي أن وعي الفنان بما أنتج يقل، كلما زاد وعيه بقوته المنتجة. وفي عملية الادراك يبدو موضع الإدراك هو الحتمي، بينما المدرك غير حتمي. فالمدرك يبحث عن الحتمية في الخلق، ويحصل عليها، وحينئذ يصير الموضوع الذي خلقه فنيا، هو الشيء غير الحتمي بالنسبة له، ويشير سارتر الى أن فن الكتابة، هو أصدق مجال يتجلى فيه هذا المنطق. إن الكاتب في أي موضع من كتابه، لا يلتقي الا بارادته، وبمشروعاته، وبما يعلمه، وبعبارة أوجز لا يلتقي سوى بنفسه، أما الموضوع الذي يخلقه فقد خلقه لشخص آخر. هو القارئ، لذلك فإنه لا يمكن أن يكون موضوعيا بإزاء ما خلقه بنفسه، لكن القارئ يمكنه ذلك، فاذا اتخذ كتاب ما-في نظر صاحبه- مظهر الموضوعية. فذلك لا يتم إلا إذا كان عهد المؤلف بموضوعه قد تقادم، فنسيه وأصبح غريبا عنه بتفكيره، وربما لم يعد قادرا على كتابته. وهنا، يصل سارتر الى نتيجة طريفة: فليس صحيحا أن المرء يكتب لنفسه، والا كان ذلك أروع فشل. ولو كان الإنسان يعيش وحده، لاستطاع أن يكتب ما يشاء، فلن يخرج الى الوجود عملا موضوعيا، وعليه- في هذه الحالة – أن يضع القلم، او يستسلم لليأس، لكن عملية الكتابة تتضمن، بنوع من الانعكاس الشرطي، عملية القراءة، باعتبارها وجهين لعملة واحدة، لذلك، فان سارتر يرى أنه لا وجود للفن، إلا بواسطة الآخرين ومن أجلهم. ومنذ أن يبدأ القارئ في عملية القراءة، فان المعنى لا يبقى محصورا لديه في الكلمات، ولكن المعنى هو الذي يمكن من كل كلمة منها، وعلى الرغم من أن الموضوع الأدبي يبرز الى الوجود من خلال اللغة، فلا سبيل الى حصره في نطاقها، فالمعنى بالنسبة للعمل الأدبي، ليس المجموع الكمي للكلمات التي كتب بها، بل هو مجموعها العضوي، وعلى ذلك، فان علينا أن ندرك ان القراءة هي عملية خلق من جانب القارئ، بتوجيه من المؤلف، فمن جهة، فقد يعد الجوهر الوحيد للعمل الأدبي هو"ذاتية"القارئ. ومن جهة أخرى، فان المؤلف ينصب الكلمات كفخاخ، تثير مشاعر القارئ وتجتذبها.
وسارتر يرى أن مخيلة القارئ ليست وظيفتها التنظيم فحسب، بل التكوين أيضا، أي أنها لا تستهدف اللعب بقدر ما تستثار، بغرض دفعها لتكوين العمل الأدبي من جديد، بما يتجاوزما تركه الفنان من آثار، والمخيلة، شأن وظائف العقل الأخرى، لا تستقل في متعتها بنفسها، بل هي دائما خارج نطاق نفسها، وهي دائما ملتزمة بمشروع ما، وهنا يقرر سارتر أن العمل الفني لا غاية له، لأنه ببساطة هو غاية نفسه. وبذلك، فان سارتر يعارض فكرة الالتزام التي يدافع عنها، بل وينقضها بهذا التصور، وفي هذا السياق، فان كانط إذا كان يرى أن العمل الفني يوجد أولا، ثم ينظر اليه بعد ذلك، فإن سارتر يعارضه في تلك النقطة، باعتبار أن العمل الفني لا وجود له إلا حين ينظر اليه. أن القارئ له مطلق الحرية في أن يترك الكتاب مغلقا على المنضدة، ولكنه بمجرد الشروع في القراءة، فقد تحمل تبعة ما ورد به، فالحرية لا تمتحن بالمتعة الحرة لوظائف الحس الذاتية، ولكن بعمل خالق يستجاب به لأمر ما. ان تلك الغاية المطلقة، والتي تحمل في ذاتها مبرر وجودها، هي ما يطلق عليه: القيمة، والعمل الفني قيمة، لانه دعوة موجهة الى قارئه.
وحين يلجأ الكاتب الى القارئ لكي يسهم في تحقيق مشروعه، فمن البديهي أن يصبح القارئ- في هذه الحالة- ذا حرية مطلقة، وقدرة خالقة تامة، وحيوية لا تحدها شروط، وحين يحتوي العمل الأدبي على عاطفة مشبوبة، فانه بذلك ينقص من حرية القارئ، حيث إن تلك العاطفة تفقد الحرية معناها، وهذه الحرية حين تتعثر في محاولات جزئية، فإنها تتخلى عن واجبها الأول: إنتاج غاية مطلقة، فلا يكون الكتاب بعد ذلك سوى وسيلة لتغذية مشاعر الحقد أو الرغبة، إن العمل الأدبي يجب أن يظل اقتراحا من جانب مؤلفه، حتى يصبح مجالا للتأمل من جانب قارئه، وهذا ما يدعوه جان جينيه:"تأدب الكاتب حيال القارئ".

إن المؤلف يكتب، ليتوجه بكتابته الى حرية القراء، متطلبا منهم أن يخرجوا عمله الأدبي الى الوجود، كما أنه يطالبهم أن يبادلوه الثقة التي منحهم إياها، وأن يعترفوا له بحريته الخالقة، وان يستثيروها بدعوة تقابل دعوته، وتكون صدى لها، وهنا، تبرز أحدى الخصائص المنطقية للقراءة، وهي أنه على قدر معرفتنا بحريتنا، تكون معرفتنا بحرية الآخرين. ويشير سارتر الى أن اللوحة والكتاب كليهما تجديد لمعنى الوجود، وكلاهما يمثل مجموع الوجود أمام حرية المشاهد، فالهدف الغائي للفن هو إعادة تنظيم هذا العالم. بعرضه كما هو، ولكن على تقدير أنه صادر عن حرية الانسان، وفي نفس الوقت، فإن الكاتب يهدف إلى منح قرائه"لذة فنية"، يسميها سارتر"طرب فني". وهذا الشعور حين يظهر، يكون العمل قد اكتمل، ويرجع هذا الشعور- في أصله- إلى الانسجام التام، بين"الذاتية"و"الموضوعية"، وهنا، يبدو العالم بمثابة الأفق وراء موقفنا، أو بمثابة المسافة اللانهائية التي تفصلنا عن أنفسنا، فالعالم هو المجموع التركيبي للفكرة، أو جملة العوائق والأدوات على السواء.
ولكي يبدو العالم أغزر وجودا، يجب أن يكون كشف الكاتب له نوعا من الالتزام الفني. فالعمل الأدبي هو تقديم خيالي للعالم، وفي حدود ما يستلزم من الحرية الإنسانية.
لمن نكتب؟
يرى سارتر أن الكتابة والقراءة هما الوجهان للحقيقة التاريخية الواحدة، والحرية التي يدعونا اليها ليست شعورا مجردا خالصا بحرية الإنسان،"فالحرية لا وجود لها"، لكنها تكتسب في موقف تاريخي خاص، وما دامت حرية كل من المؤلف والقارئ تبحث كل منهما عن الأخرى، ويتبادلان التأثير فيما بينهما، فان اختيار المؤلف لبعض مظاهر العالم، هو الذي يحدد طبيعة قارئه، لذلك. فان كل عمل فكري، يحتوي- ضمنيا- صورة قارئه. ان الكاتب يكون ملتزما، حين ينقل لنفسه وللآخرين ذلك الالتزام، من حيز الشعور الغريزي الفطري الى حيز التفكير، والكاتب هو الوسيط الأعظم، ويتجلى التزامه في وساطته تلك، وهو يستهلك ولا يستنتج شيئا، حتى لو اعتزم أن يخدم مصالح الجماعة، وتظل أعماله مجانية، والكاتب يقدم صورة المجتمع للمجتمع، ويظل في صراع دائم مع القوى المحافظة، والحريصة على التوازن، واذا اتسع الجمهور الواقعي للكاتب، الى حد شمول جمهوره الامكاني، أحدث ذلك في وعيه توافقا بين اتجاهات متضادة، وفي هذه الحالة، يمثل الأدب قوة الهدم، بوصفها قوة ضرورية للبناء. إن شقاء الضمير بالنسبة للكاتب، يتحقق عندما ينعدم عمليا الجمهور الامكاني، وحين يصبح الكاتب في عداد الطبقة ذات الامتيازات في المجتمع، بدلا من أن يكون على هامشها، لأنه – في هذه الحالة – يتوحد الأدب مع أحلام الحاكمين، وتجرى وساطة الكاتب لصالح طبقته الجديدة. لقد أدى الانتصار السياسي للبرجوازية. الى نوع من التشكك في كل شيء حتى في مضمون الأدب نفسه. على أن المفارقة الحقيقية تتمثل في أنه اذا كان الكاتب – مبدئيا- يتجه الى الناس كافة. إلا أنه لم يكن يقرأ له إلا بعضهم. ومن الفرق بين الجمهور المثالي والجمهور الواقعي، تولدت فكرة العالمية المجردة، وبما أن اختيار الكاتب لجمهوره يحتم عليه اختيار الموضوع، فان الأدب الذي يتغيا المجد، يجب أن يظل تجريدا هو أيضا.
إن موضوع الأدب، من وجهة نظر سارتر، كان دائما هو"الإنسان في العالم"، ولكن الجمهور الامكاني ظل دائما مثل بحر مظلم، حول الشاطئ الصغير المضيء، من الجمهور الواقعي.
ايغلتون
بعد أن يطرح ايغلتون سؤال: ما الأدب؟ كعنوان للفصل الأول من كتابه"مقدمة في نظرية الأدب" فانه يقرر أنه جرت محاولات عديدة من قبل، لتعريف الأدب، فمثلا، يمكن تعريفه بأنه الكتابة"التخيلية"، أي الكتابة التي ليست صادقة حرفيا، ولكن ذلك لن يكون كافيا، فالتمييز بين الحقيقة، والخيال ليس معيارا حاسما في هذا الصدد، واذا كان الأدب كتابة"ابداعية"، فهل يوحي ذلك بأن التاريخ والفلسفة والعلوم الطبيعية، كتابة غير إبداعية وغير تخيلية؟، وهنا، يشير ايغلتون الى أن الأدب ربما كان قابلا للتعريف، ليس لكونه"خياليا"أو"تخيليا"، بل لأنه يستخدم اللغة بطرق خاصة. وبذلك يكون الأدب نوعا من
الكتابة، يمارس – على حد تعبير جاكوبسون -عنفا منظما ضد الحديث العادي، ويقوم بعملية تحويل / تكثيف للغة العادية، حيث نسيج ورنين وايقاع الكلمات يتجاوز معناها المجرد (المعجمي)، فلغة الأدب تستهدف- بالضرورة- لفت الانتباه الى نفسها. إن وجهة النظر السابقة هي محاولة لتعريف"الادبي"، من وجهة نظر الشكلانيين الروس، مع بدايات القرن كما أنهم رفضوا الاتجاهات الرمزية- شبه الصوفية، ويروح علمية/عملية حولوا الانتباه باتجاه الواقع المادي للنص الأدبي ذاته. فعلى النقد أن يفصل الفن عن التصوف، ويشغل نفسه بالكيفية التي تعمل بها النصوص الأدبية بالفعل. فالأدب ليس دينا زائفا، أو سوسيولوجية زائفة، أو سيكولوجية زائفة، بل تنظيم خاص للغة. وفي هذه الحالة،
تصبح له بنياته وقوانينه وأدواته النوعية التي يجب أن تدرس في ذاتها، ولا تختزل الى شيء آخر. فالعمل الأدبي، من وجهة نظر الشكلانيين، ليس مركبة لنقل الأفكار، ولا انعكاسا للواقع الاجتماعي، ولا تجسيدا لحقيقة مفارقة / متعالية، لكنه حقيقة مادية. فهو مكون من كلمات. وليس من موضوعات أو مشاعر.
ويشير ايغلتون إلى أن الشكلانية، كانت – في جوهرها تطبيقا للغويات في دراسة الأدب. ونظرا لأن تلك اللغويات كانت من نوع شكلي، تهتم ببنيات اللغة، أكثر من اهتمامها بما يقوله المرء بالفعل، فقد تغاضى الشكلانيون عن تحليل"المضمون"الأدبي، باتجاه دراسة الشكل الأدبي وحده. وبدلا من أن ينظروا الى الشكل باعتباره تعبيرا عن المضمون، رأوا أن المضمون مجرد"حافز"للشكل، وعلى الرغم من أن بعض الشكلانيين لم ينف علاقة الأدب بالمجتمع، الا أنهم نفوا أن تكون تلك العلاقة محل اهتمام الناقد.
لقد تصور الشكلانيون أن الخطاب الأدبي يغرب/يستلب الكلام العادي، لكنه يصل بنا- على نحو متناقص – إلى امتلاك للخبرة بشكل أكثر اكتمالا وحميمية. وبذلك، تصبح اللغة الأدبية، مجموعة من الحيودات عن قاعدة، وتمثل تلك الحيودات نوعا من العرف اللغوي، لكن ايغلتون يطرح ملاحظة أساسية، وهي أن الحيود يفترض وجود قاعدة.لكن فكرة وجود لغة معيارية تمثل تلك القاعدة، هي نوع من الوهم، فكل لغة فعلية تتركب من مجموعة بالغة التعقيد من الخطابات، تتمايز حسب: الطبقة – الإقليم -الجنس- المكانة الاجتماعية – التعليم…. الخ. ولا يمكن بأية حال توحيدها في جماعة لغوية متجانسة: فقاعدة شخص ما، قد تكون حيودا بالنسبة الى شخص آخر. لقد أقر الشكلانيون أن الحيودات والمعايير تتبدل من سياق اجتماعي او تاريخي الى آخر، لذلك، فانهم تصوروا أن"الأدبية"هي وظيفة للعلاقات الاختلافية، بين مختلف أنواع الخطاب، وليست خاصية أبدية، وعلى هذا فانهم لم يتصدوا لتعريف"الادب"، بل لتعريف"الأدبية"أي الاستخدامات الانحرافية للغة.
ان ايغلتون يقرر أنه ما من نوع من الكتابة لا تمكن قراءته على أنه اغرابي، من خلال البراعة والقدرات الخاصة لعملية التأويل. وهو يضرب مثلا بعبارة نثرية لا لبس فيها، وتبدو- ظاهريا- غير قابلة للتأويل. ففوق لوحة في مترو أنفاق لندن، تم تدوين العبارة الآتية:"يجب حمل الكلاب على السلم الميكانيكي". إن هذه العبارة تبدو للكثيرين محددة، وغير ملتبسة، وخارج أية مظنة اغرابية. لكن ايغلتون يتساءل: هل يعني ذلك أن على المرء أن يحمل كلبا وهو يصعد السلم؟، وهل يتم منعه طبقا لكلمة"يجب"، إذا لم يكن معه كلب يحمله؟ فالالتباس – إذن – حتى في أكثر الخطابات منطقية، هو أمر قائم ومحتمل. ونحن نضيف إلى تخريجات ايغلتون أن الحياة مليئة بمواقف الالتباس تلك، وبنظرة فاحصة الى الأفلام السينمائية، سنجد أن نسبة لا يستهان بها تتأسس عقدتها في اللبس أو سوء التفاهم، الذي تفرزه اللغة التداولية اليومية. وعلى ذلك، فان ايغلتون يصل إلى أن فكرة الحيود اللغوي عند الشكلانيين، أو الازاحة اللغوية عند البنيويين في مرحلة لاحقة، لم تعد كافية لتمييز الخطاب الأدبي عما سواه.
عن مجلة الدوحة